صعدت الانقاذ الى السلطة بمنطق القوة التي افرطت في استخدامها لسنوات طويلة، وبعد انتهاء حقبة نيفاشا التي عملت فيها المنظومة الحاكمة على اعادة ترتيب البيت، نشب الصراع على السلطة من جديد بشكل اكبر واوسع من ذي قبل لدرجة شارك فيه اقرب المخلصين للرئيس، وقادة احزاب معارضة تتسابق لتقديم ضمانات للبشير حال تنحيه عن السلطة. وحقيقة قد شهدت الانقاذ صراعات حادة حول السلطة اشهرها صراع القصر والمنشية الذي انتهى بإقصاء الشيخ الترابي من حركته التي اسسها وابعدته من انقلابه الذي امر بتنفيذه، ثم كان صراع البشير- علي عثمان والذي انتهى بإبعاد الاخير من دائرة القرار السلطوي ومحاصرته وتقليل فرصه في وراثة منصب الرئيس. وسبق ان اشار كاتب اسلامي مرموق قبل سنوات الى ان الحرب الباردة بين البشير وعلي عثمان استخدم فيها الطرفين كل شيء حتى تقارير المخابرات الاجنبية. وتخوف وقتها المفكر الاسلامي د. حسن مكي من ان خلافات الاسلاميين حول السلطة قد تؤدي الى احتراب يقود الى انهاك الطرفين قد ينتج عنه غياب للسلطة او فراغ سلطوي، وقال "عندها سيلتقطها الصادق المهدي". كذلك اشار الدكتور حسن مكي الى ان صراع الاسلاميين في عام 2004 خلف عدد محدود من الضباط الاسلاميين في الاجهزة العسكرية والامنية، ينقسم ولائهم بين البشير وعلي عثمان، ولكنه اشار بصدق الى ان موقف البشير هو الافضل لأنه ممسك بمفاصل القوات المسلحة. مرت سنوات اخرى ومرت مياه كثيرة تحت جسور الاسلاميين المهترئة، حيث قام البشير بخطوة جريئة بإقصاء صلاح قوش من منصبه كرئيس للأجهزة الامنية، بصورة فاجأ ت بعض الاجنحة التي كانت تعول عليه كثيرا، وفي زمرته تم ابعاد اللواء أمن حسب الله. وليس هنالك تفسير يقف وراء قرار البشير بإبعاد رجل امنه القوي سوى الخوف من طموحه الرئاسي الذي يقال انه بدأ يردده علنا في مجالسه. كما تردد ان رجلي الامن صرحا بانهما لا يحبان الجيش، ولكن من يكره الجيش في السودان يخسر كثيرا. نتيجة لهذه الصراعات والانقسامات وسط الكادر الانقلابي فقدت الانقاذ الكثير من رجالها وجنودها، ونتيجة لانفصال الجنوب وخسرانها لثلاثة ارباع الصادر من النفط، ضعفت وافلست واصبحت قصعة لا يرغب فيها احد. وفي ظل هذه الاوضاع المستعرة داخل ما يسمى بالحركة الاسلامية واستعار حرب المذكرات وتفشي الفساد في مفاصل السلطة، يعترف الخال الرئاسي الطيب مصطفى ان " الانقاذ فقدت بوصلتها وان الحركة الاسلامية خلعت اسنانها بنفسها". ولا يخفي الخال الرئاسي بنعيه المستمر للإنقاذ طمعه الشخصي في وراثة منصب الرئيس. لإخفاء هذا الضعف اندفعت الانقاذ تقودها مجموعة القصر المحدودة نحو استخدام القوة والعنف في انحاء السودان، فاشتدت الحرب في دارفور، ثم اندلعت حرب اخرى في جبال النوبة وجنوب النيل الازرق، ثم اطلاق الرصاص على العزل في كجبار والمناصير والجزيرة وشرق السودان. كل هذا يثبت ان الانقاذ تعيش على الحروب وتطيل عمرها بدماء الابرياء من ابناء شعبنا في الاقاليم المختلفة. اثبت التاريخ ان الشعب السوداني العملاق هو الذي يضع نهاية الانظمة الشمولية ويحرر شهادة وفاتها قبل ان يقبرها في مزبلة التاريخ. كذلك اكد الربيع العربي ان الانظمة الشمولية محدودة الاجل مهما تطاول ليلها وان الصبح لابد ان ينجلي وان القيد منكسر لا محالة. كل الشواهد والادلة تقول ان نظام الانقاذ يعيش ايامه الاخيرة، فهل سينتهي البشير بانتفاضة مثل الفريق عبود والعقيد نميري، ام انه سيضع نهايته بيده لا بيد الشعب السوداني. فواقع الحال يقول ان الرئيس البشير لا يرغب فيه احد، لا داخل المؤتمر الوطني ولا خارجه، والمجتمع الدولي يتربص به منتظرا لحظة وقوعه حتى يتم اعتقاله وسوقه الى لاهاي لمحاكمته مثل شارلس تايلور. وراثة الرئيس اذن اصبحت هي العامل المحرك للصراعات ليس داخل المؤتمر الوطني فحسب، ولكن داخل الحزبين الكبيرين بدرجات متفاوتة. فالرئيس يقف في موقف لا يحسده عليه احد، فخاله يتربص به لوراثته، وحزبه يعتبره عبئا عليه يجب التخلص منه، والحركة الاسلامية تتحفز لتجميع قواها واستلام السلطة مجددا، والجيش لا ضمان له وان طال ولائه. ضمن القوى المتصارعة لوراثة الانقاذ تحركات العسكريين، ليس الاسلاميين فقط الذين تمت احالة بعضهم للمعاش مؤخرا، بل يضاف اليهم العسكريين الوطنيين الذين هم الان اقرب للتحالف مع احد الحزبين كبديل للمؤتمر الوطني، وربما ارتدى هؤلاء الضباط بزة وطنية مختلفة تجد قبولا من الجميع. كما ان المدنيين الاسلاميين بالمؤتمر الوطني يسعون لنفس الهدف لضرب العسكر وابعادهم من معادلة السلطة، وبين هذه الاجنحة المتصارعة على وراثة الانقاذ تتم تحالفات وتنعقد صفقات يشارك فيها اطراف من خارج المنظومة الحاكمة، ومن خارج المؤتمر الوطني احيانا. تحت هذه الظروف يقدم الصادق المهدي نفسه وابنه كضامن لسلامة البشير حال تنحيه عن السلطة، مستخدماً علاقاته الدولية ولباقته وقدرته في الاقناع، وربما حب البشير له هو وابنه دون القيادات السياسية الاخرى، وهو ما اكدته مقولة الصادق المهدي المشهورة عقب صدور مذكرة الاعتقال في مواجهة الرئيس " البشير جلدنا وما بنجر فيه الشوك". لذلك دخل العقيد عبد الرحمن المهدي القصر الجمهوري وهو في كامل بزته العسكرية بعد ان تم ارجاعه للجيش في سابقة غير منظورة. كذلك تواترت الانباء بعقد مقابلة فجرية بين الرئيس والسيد الصادق المهدي بمنزل البشير بكافوري قبيل زيارة المهدي الاخيرة لواشنطن. والانقاذ عرفت بعقد الاجتماعات الحاسمة في وقت الفجر قبل ان تفيق عصافير الاخبار من نومها. وجرى حديث طويل عن ضمانات قدمها المهدي للبشير قطعت احداث هجليج وصلته. وكشف الصحفي الامريكي ديفد اوتاوي عن تلك الضمانات حيث ذكر له الصادق المهدي - في لقاء صحفي اجراه معه – انه سيوفر للبشير مخرجاً سلمياً آمناً اذا تنحى عن السلطة. في ظل هذه التناقضات والتربصات التي يعيشها البشير، يثور السؤال التلقائي : اذا قرر الرئيس التنحي عن السلطة فعلا فهل سيسلمها لاحد قيادات المؤتمر الوطني ام لا؟ المفاجأة ليست مستبعدة عن البشير وربما سلمها للصادق المهدي او ابنه العقيد مثلما اخذها عنوة منهم قبل ثلاثة وعشرين عاما. فهل سيفعلها البشير ويسجل سابقة تاريخية؟ ولكن اذا كان هذا الافراط في استخدام العنف والقوة قد صنع هذا الوضع وجعل من البشير رئيسا غير مرغوب فيه في الداخل، وممقوت اقليميا، ومطلوب للعدالة الدولية، فإن السلطة التي يقوم على رأسها تصبح مثل برميل بارود يمثل البشير فوهته ومفتاح اشتعاله، فاذا انفجرت الفوهة سيذهب برميل الانقاذ كله مثل الشظايا المشتعلة، كما سيذهب رمادها لتذروه الرياح.