شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء أثيوبية تخطف قلوب جمهور مواقع التواصل بالسودان بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها مع إبنها على أنغام أغنية وردي (عمر الزهور عمر الغرام)    شاهد بالصورة والفيديو.. ناشط مصري معروف يقتحم حفل "زنق" للفنانة ريان الساتة بالقاهرة ويقدم فواصل من الرقص معها والمطربة تغي له وتردد أسمه خلال الحفل    في اليوم العالمي لكلمات المرور.. 5 نصائح لحماية بيانات شركتك    خريجي الطبلية من الأوائل    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأستاذ محمد علي صالح: نظرية المؤامرة ومسؤولية انفصال جنوب السودان 1 - 2 د. سلمان محمد أحمد سلمان 1

أودّ في البداية أن أتقدم بوافر شكري وتقديري للأخوة الأساتذة الصحافيين صلاح شعيب وطلحة جبريل ومحمد علي صالح والدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك على تعقيباتهم القيّمة على مقالاتي التسع عن "مسؤولية انفصال جنوب السودان." لقد أثْرتْ تلك التعقيبات النقاش في هذا الموضوع الخطير والذي أصبح مسكوتاً عنه كما نوّه الأخ الدكتور خالد التيجاني النور. أجد نفسي على اتفاقٍ تام مع الأخ صلاح شعيب في أثر المكوّن الثقافي السوداني على ذهن القادة السياسيين الذين تعاملوا مع الجنوب من موقع المسؤولية وعلى البيئة الثقافية الشمالية السياسية والاجتماعية التي ألقت بظلالها الاستعلائية والإقصائية، والتي لولاها لما انفصل الجنوب.
كما اتفق مع الأخ طلحة جبريل أن المنهج الأكاديمي الذي اتبعته أنا في رصد الحقائق والوقائع كان، إلى حدٍّ ما، على حساب الجانب التحليلي. لقد لاحظتُ أن معظم الاتفاقيات التي تمّ التوقيع عليها في الفترة 1990 - 2002 في قضية الجنوب غير معروفة للقارئ السوداني فآليت على نفسي أن أقوم بجهد الجمع والتوثيق وأن أعرض هذا الجهد على القارئ السوداني في أسرع وقتٍ ممكن، على أن أعود لمهمة التحليل الموسّعة والتفصيلية في كتاباتٍ لاحقة.
كانت صحيفة الأحداث فد بدأت نشر مقالات مسؤولية انفصال جنوب السودان (وأرجو أن يتقبّل الأخ الأستاذ خالد بابكر شكري الكثير على جهده في نشر المقالات)، غير أن صحيفة الأحداث توقّفت عن الصدور بعد نشر خمس مقالات وفقد القراء في السودان إمكانية المتابعة. لكنّ الدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك قام بتلخيص المقالات التسع بمهارةٍ بالغة في تعقيبه الذي نُشر في صحيفتي إيلاف والصحافة وعددٍ من المواقع الالكترونية. وقد أثنى عشرات القراء الذين قابلتهم بالسودان على جهد الدكتور أحمد أبو شوك. وآمل أن يلقى اقتراحه القبول من أولئك الذين ساهموا في صياغة قرار تقرير المصير والنتائج التي ترتّبت عليه بنفض الغبار عن مذكراتهم التفاوضية وإعلام الشعب السوداني بما حدث داخل القاعات المغلقة.
2
قام الأخ الصديق الأستاذ محمد علي صالح بالتعقيب على مقالاتي التسع عن مسؤولية انفصال جنوب السودان، ونشر ردّه بعنوان "دور أمريكا في تقسيم السودان - د. سلمان وشماليون يؤيدون الجنوبيين" يوم السبت الفاتح من سبتمبر عام 2012 بجريدة السوداني وعلى عددٍ من الصحف الالكترونية.
كانت بداية مقال الأستاذ محمدعلي صالح غير موفقةٍ البتّة. فقد ذكر أن الحلقة التي كتبها هي عن سودانيين يعيشون في امريكا ويؤيدون الجنوبيين لأسباب منها أنهم يركّزون على معارضة حكومة السودان أكثر من وحدة السودان. وذكر أن من هؤلاء الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان.
حزنتُ كثيراً لهذه المقدمة. فمقالاتي التسع ليس لها علاقة بتأييد الجنوبيين أو معارضة الحكومة. إنها مقالاتٌ توثيقية لأكثر من عشرين اتفاقية وقّعتها الحكومة والمعارضة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان وفصائلها المنشقّة حول تقرير المصير. وقد بذلتُ جهداً كبيراً في جمع هذه الاتفاقيات بغرض تعريف القارئ السوداني بها. وأحب أن أذكّر الأخ محمد علي أنه ليس هناك كتابٌ أو تقريرٌ أو جهةٌ أو مكتبةٌ أو دار وثائق بها كل هذه الاتفاقيات مكتملةً، وأن مقالاتي هي أول من تعرّض لكل هذه الاتفاقيات. كما أود أن أخبر الأخ محمد علي أن بعض النافذين في الحكومة والحزب الحاكم سعِدوا بمقالاتي أكثر من المعارضة لأن المقالات كشفت للحكومة الاتفاقيات التي وقّعتها أحزاب المعارضة مع الحركة الشعبية والتي لم تكن الحكومة على علمٍ كاملٍ بها. وبعد مقالاتي أصبح هناك في الحكومة والحزب الحاكم من يتحدث عن مسؤولية المعارضة أيضاً في انفصال جنوب السودان. لقد كان وسيظل غرضي الأول والأخير من هذه المقالات هو التوثيق العلميُّ الأكاديميُّ الأمين والصارم، لا أكثر ولا أقل، يا صديقي محمد علي صالح.
3
تبنّى الأخ الأستاذ محمد علي صالح نظرية المؤامرة الدولية كسببٍ رئيسي أن لم نقل الوحيد لما أسماه تقسيم السودان (وليس انفصال جنوب السودان). وتجاهل أو نسي أو تناسى الظلم والقتل والتشريد والحروب الجهادية وغير الجهادية والاستعلاء والإقصاء الذي تعرض له أبناء وبنات الجنوب. اختزل الأخ محمد علي كل قضية الجنوب في صراع الأديان والحضارات ودور دول الاستكبار.
كتب الأخ محمد علي صالح أنه منذ القرن التاسع عشر تحالفت الكنيسة والصهيونية والدول الغربية "ضد العرب والمسلمين عسكريا واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا: غزوهم، واحتلوهم، وقتلوهم، واعتقلوهم، وظلموهم، واحتقروهم، واستعلوا عليهم، حتى يومنا هذا." لهذا فإن الأخ محمد علي يؤمن إيمانا قويا بأن تقسيم السودان:
أولاً: هو جزء من الصراع التاريخي بين الإسلام والمسيحية، والمنافسة بينهما للانتشار في افريقيا.
ثانيا: نتج بسبب تحالف سياسيين جنوبيين مسيحيين مع الغرب المسيحي، وخاصةً الكنائس المسيحية في امريكا.
هكذا وببساطةٍ متناهية اختزل الأخ محمد علي مشكلة الجنوب، مشكلة أطول وأقسى حربٍ في أفريقيا، في صراع الأديان والحضارات.
حدثنا عن احتلال الغرب للمسلمين وعن قتلهم واعتقالهم وظلمهم واحتقارهم والاستعلاء عليهم.
ولكن لم يفتح الله على الأخ محمد علي بكلمةٍ واحدة عن ظلم الشماليين للجنوبيين وعن الحروب التي شنوها عليهم وعن تشريدهم وقتلهم واعتقالهم واحتقارهم والاستعلاء عليهم، بل وإعلان الجهاد عليهم. لم يتحدث عن أيٍ من هذا، ولم يتطرق البتّة للوعود المنقوضة وفرص السلام المُهْدرة بواسطة السياسيين الشماليين.
وهذا ما ننوي أن نركّز عليه في هذا المقال.
4
تعود بداية الحقبة الطويلة من الحرب بين الشمال والجنوب، والتي ظلت ملأى بالمرارات والموت والدمار ونقض العهود وإهدار فرص السلام، إلى عام 1955. ففي أغسطس من ذاك العام تمرّدت كتيبة الاستوائية بمدينة توريت إثر قرار نقل أفرادها إلى الشمال. غذّت هذه الحرب إخفاقاتٌ كبيرة من الشمال تمثّلت في نتائج السودنة التي أعطت الجنوبيين ست وظائف فقط من ثمانمائة وظيفة، وفي تمثيل الجنوبيين في حكومة السيد اسماعيل الأزهري الأولى في يناير عام 1954 بثلاثة وزراء دولة جنوبيين بلا أعباء (وهم السادة سانتينو دينق وبولين ألير وداك داي) – أكرر وزراء دولة بلا أعباء (وهي الوظيفة التي أسماها السياسي الجنوبي المخضرم السيد كلمنت أمبورو ساخراً "نصف وزير ما عندو مكتب.") وقد كانت تلك أول وآخر مرة نسمع فيها بوظيفة وزير دولة بلا أعباء. لقد عكس ذاك التمثيل استخفاف السيد اسماعيل الأزهري وحزبه بالإخوة الجنوبيين. غذّت هذه الحربَ أيضاً ردةُ الفعل غير المسؤولة وغير المناسبة لتمرّد توريت حيث تمّت محاكمات ميدانية عاجلة حكمت بالإعدام والسجن لفتراتٍ طويلة على عددٍ كبير من الجنوبيين، مما ساهم في هروب الآلاف منهم ليكوّنوا نواة حركة التمرد الأولى. ولا بد من الإشارة هنا إلى تقرير السيد القاضي توفيق قطران عن أحداث توريت، وظروف تأخير نشر التقرير، ثم نشره.
ولكن الفشل الأكبر لقيادات الشمال السياسية كان الرفض القاطع لمطلب النظام الفيدرالي الذي اتفق عليه الجنوبيون عام 1954. فقد أجاز البرلمان في الخرطوم في 19 ديسمبر عام 1955 قراراً تضمّن إعطاء مطلب النظام الفيدرالي الاعتبار الكافي. وكان ذاك جزءاً من اتفاقٍ صوّت بموجبه الجنوبيون في البرلمان على استقلال السودان. تراجع السياسيون الشماليون عن وعدهم ورفضوا قبول النظام الفيدرالي وكانت الهتافات تتعالى "لا نظام فيدرالي لأمةٍ واحدة (نو فيدريشن فور ون نيشن)" هل كنا فعلاً أمةً واحدة؟ وكأن ذلك لم يكفِ فقد بدأ قادة الأحزاب الشمالية في الإعداد عام 1958 للدستور الاسلامي.
استلم عبود ولواءاته السلطة بناءاً على أوامر رئيس الوزراء السيد عبد الله خليل في 17 نوفمبر عام 1958، وقاموا بشن حربٍ قاسية على الجنوب قضوا فيها على الأخضر واليابس. قُتل في تلك الفترة مئات الآلاف وفرّ إلى دول الجوار وإلى الشمال أعدادٌ أكبر من ذلك. لم يكن هناك جنوبيٌ واحد في المجلس العسكري الحاكم، وظل السيد سانتينو دينق الوزير الجنوبي الوحيد في حكومة عبود على مدى ستة أعوام، ولوزارة الثروة الحيوانية. تمّ طرد كل جمعيات التبشير في الجنوب وحلّ محلها الدعاة الاسلاميون وأُرغم الجنوبيون على تغيير أسمائهم المسيحية إلى أخرى عربية/إسلامية، وأُعلنت اللغة العربية اللغة الرسمية للعمل بالجنوب، وتحولت العطلة في الجنوب من يوم الأحد إلى يوم الجمعة.
هل هناك استعلاءٌ وإقصاءٌ أكثر من هذا يا صديقي محمد؟؟؟
5
رغم أن من أوائل أهداف ثورة أكتوبر عام 1964 كان حلَّ مشكلة الجنوب، إلاّ أن الساسة الشماليين سرعان ما عادوا إلى صراعاتهم ولا مبالاتهم تجاه مشكلة الجنوب التي درجوا عليها في فترة الحكم المدني الأول. وفشل مؤتمر المائدة المستديرة رغم جهود السيد ويليام دينق لأن السياسيين الشماليين رفضوا رفضاً قاطعاً مرةً ثانية نظام الحكم الفيدرالي الذي واصل الجنوبيون المطالبة به. الغريب في الأمر أن بعضاً من الساسة الشماليين الذين رفضوا النظام الفيدرالي عام 1965 عادوا ووافقوا على حق تقرير المصير لجنوب السودان في التسعينيات، وشاركوا في احتفالات استقلال جنوب السودان في جوبا في 9 يوليو عام 2011.
إن السلطة تعني المسؤولية، والمسؤولية تعني المحاسبة، فأين أيٌ من هذا هنا؟؟
صعّدت الحكومة المدنيّة الثانية الحرب في الجنوب، ووافقت الجمعية التأسيسية بالإجماع في يونيو عام 1965 على مقترح رئيس الوزراء السيد محمد أحمد محجوب باعتبار الحرب في الجنوب تمرداً على القانون والنظام، وأعطت الجمعيةُ حكومتهَ كل الصلاحيات والميزانية لدحر التمرد. يجب التنويه هنا إلى أنه لم تتم الانتخابات في الجنوب حتى ذاك الوقت بسبب الحرب، وبالتالي لم يكن هناك جنوبيون بالجمعية، وعليه فقد كان التصويت على طلب الحكومة بالإجماع (لم يكن بالطبع ممكناً أو مقبولاً أن يترشّح جنوبيٌ في الشمال، دعك من أن يفوز يا صديقي محمد، لكن كان الشماليون يترشحون ويفوزون في الجنوب، وأحياناً بالتزكية!!!).
شهدت تلك الفترة المجزرتين المشهورتين في جوبا وواو والتي قُتل فيهما مئات المدنيين الجنوبيين. وقد حوّلت إحدى تلك المجزرتين حفل زفافٍ إلى مأتمٍ جماعي لحوالي ثلاثمائة قتيل معظمهم من النساء والأطفال. كما شهدت تلك الفترة أيضاً اغتيال السيد ويليام دينق أثناء زيارته الجنوب. وبدأ العمل مرةً ثانية عام 1968 في إعداد الدستور الإسلامي للسودان.
شهدت تلك الفترة أيضاً تعديل الدستور في يونيو عام 1965 ليصبح السيد اسماعيل الأزهري رئيساً دائماً لمجلس السيادة (بدلاًمن الرئاسة الشهرية لكل عضوٍ من أعضاء المجلس الخمسة) مقابل أن يكون السيد محمد أحمد المحجوب رئيساً للوزراء. وهكذا فقد الجنوبيون الفرصة الوحيدة لأن يكون ممثلهم رئيساً لمجلس السيادة على الأقل شهرين كل عام، واستقال العضو الجنوبي السيد لويجي أدوك من عضوية مجلس السيادة احتجاجاً على هذا التعديل الدستوري الذي نتج عنه تجريد الجنوبيين من حقّ رئاسة المجلس. وقد تمّ هذا التعديل رغم أن الانتخابات لم تتم في الجنوب حتى ذلك الوقت.
بالإضافة إلى تقاسم رئاسة مجلس السيادة ورئاسة الوزارة، فقد أعطت قسمة السلطة بين الحزبين الكبيرين رئاسة الجمعية التأسيسية لحزب الأمة، ومنصب نائب رئيس الوزراء للحزب الاتحادي الديمقراطي. وهكذا وبهذه البساطة والأنانية وبمقتضى هذه الاتفاقية تجاهل الحزبان تجاهلاً تاماً أكثر من ربع سكان البلاد في الجنوب في عملية توزيع السلطة بينهما.
هل هناك استعلاءٌ وإقصاءٌ واستخفاف أكثر من هذا يا صديقي محمد؟؟؟
ترك السيد لويجي أدوك زخم القصر الجمهوري ومواتره وسياراته وحفلاته ومرتباته وسفره ورفاهيته ورجع إلى الجنوب مزارعاً بسيطاً يأكل مع العامة مما حصدت يداه ويمشي في الأسواق. لقد كانت استقالة السيد لويجي أدوك الاحتجاجية درساً رائعاً في علم القانون الدستوري وأخلاقيات السياسة وسياسة الأخلاق.
ترى كم من المتعلمين الشماليين قرأوا أو سمعوا باستقالة المربي الكبير السيد لويجي أدوك وتمعّنوا في أسبابها؟؟؟
6
انهارت حقبة الحكم المدني الثانية تحت وطأة أخطائها وفشلها، وقفز العسكر على السلطة مرةً ثانية في 25 مايو عام 1969. جاءت اتفاقية أديس أبابا بفرصةٍ ذهبية عام 1972، فقد قبل الجنوبيون الحكم الذاتي والذي هو أقل من النظام الفيدرالي، ولكن عاد نميري وحلفاؤه الحزبيون الجُدد في بداية الثمانينيات لينسفوا ذاك الاتفاق عبر التدخل في أعمال حكومة الجنوب وحلّها هي ومؤسساتها، وعبر تقسيم الجنوب وفرض قوانين سبتمبر عام 1983، وتحويل مياه النيل في الجنوب عبر قناة جونقلي، وكذلك بترول الجنوب، إلى الشمال. أهدر نظام نميري وحلفاؤه الحزبيون الجُدد تلك الفرصة الذهبية، وضاع معها قدرٌ كبيرٌ من حسن النية والثقة بين الشمال والجنوب.
جاءت انتفاضة أبريل عام 1985 وبدّد الساسة الشماليون مرةً أخرى، وبقدرٍ كبيرٍ من عدم المبالاة، وبسبب المنافسة غير المسؤولة بين السيدين وحزبيهما، فرصة إعلان كوكا دام، ثم فرصة مبادرة السلام السودانية التي وقّعها السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق في 16 نوفمبر عام 1988، والتي نادت فقط بتجميدٍ لقوانين سبتمبر (وليس بإلغائها) وعقدِ مؤتمرٍ دستوري قبل 31 ديسمبر 1988. ووسّعت حكومة السيد الصادق المهدي دائرة الحرب بإشراك وتسليح القبائل، وامتدت أيادي المجاعة والموت والدمار لكل أطراف الجنوب. ولولا تدخّل الأمم المتحدة من خلال عملية شريان الحياة في السودان للقيت أعدادٌ كبيرةٌ من الجنوبيين حتفهم من الجوع.
وجاء انقلاب يونيو عام 1989 بعد الفشل الذريع لفترة الحكم المدني الثالثة، وتحوّل الصراع في الجنوب إلى حربٍ جهادية تتغذّى من عرس الشهيد والوعود بدخول قتلى الحرب من الجيش ومليشياته الجنّة. وزادت فظاعاتها وظلمها، وتفشى الجوع والمرض والبؤس والجهل بين أوساط الجنوبيين الذين شرّدتهم الحرب في كل أصقاع الدنيا. وتحدّثت إحصائيات الأمم المتحدة عن مليوني قتيل وأربعة مليون مشرّدٍ من أبناء وبنات الجنوب.
أين هذه الأرقام المخيفة في نظرية المؤامرة يا صديقي محمد؟؟؟
7
ذكرت يا أخي محمد أنه منذ القرن التاسع عشر تحالفت الكنيسة والصهيونية والدول الغربية ضد العرب والمسلمين عسكريا واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا: غزوهم، واحتلوهم، وقتلوهم، واعتقلوهم، وظلموهم، واحتقروهم، واستعلوا عليهم، حتى يومنا هذا.
هل هناك أكثر من ظلم واضطهاد وإقصاء واستعلاء الشماليين على أخوانهم الجنوبيين الذي تعرّضنا له بإسهابٍ شديدٍ في الأجزاء الأخيرة من هذا المقال؟
إذا كنت تعتقد أن من حق العرب والمسلمين أن يثوروا على الظلم والاستعلاء والإقصاء والاضطهاد (وبالطبع اتفق معك تماماً في هذا)، أليس من حق الآخرين الثورة على ظلم واضطهاد العرب والمسلمين لهم؟ أليست الثورة حقاً إنسانياً لكل شعوب الأرض المضطهدة؟
ألا تذكر يا أخي محمد قصة صديقنا السوداني الجنوبي الراحل الدكتور دانستن واي الذي كان يعمل معي بالبنك الدولي، وقابلته أنت بمنزلي حيث حكى لنا عن مقتل أسرته في غارةٍ جوية عام 1965 أثناء الحرب الهوجاء القاسية التي شنّتها حكومة السيد محمد أحمد محجوب على الجنوب؟ ألا تعتقد أن من حقه كمسيحي أن يبحث عن عون الغرب المسيحي، وخاصة الكنائس المسيحية في امريكا؟ الا تعتقد أن من حق الغرب المسيحي أن يتعاطف ويتعاون معه كما يتعاطف المسلمون بعضهم مع بعض؟ ترى كم عدد القصص الشبيهة بقصة الدكتور دانستن واي؟؟؟ ماذا كان يمكن أن يحدث للأخ دانستن واي لو لم تساعده الكنيسة في إكمال دراسته الثانوية والجامعية وفوق الجامعية خارج السودان؟ من المؤكد أنه كان سينتهي به المطاف كأحد "الشماسة" في شوارع الخرطوم، هذا لو كان محظوظاً ونجا من ويلات الحرب.
8
إحدى مشاكل نظرية المؤامرة كما عرضها الأخ محمد علي صالح هي فشلها التام في توضيح لماذا اختارت دول الاستكبار والكنيسة والصهيونية السودانَ دون غيره؟ لماذا لم تمتد أياديها الخفية ومؤامراتها إلى الدول التي تشبه السودان في تركيبته الدينية مثل تنزانيا والسنغال ونيجيريا واثيوبيا وكينيا؟ إنه لم يتطرق لهذه المسألة البتّة.
مشكلة أصحاب نظرية المؤامرة أنهم يتهرّبون من الحقائق وينكرون دورهم ودور من يؤيدونهم ويبحثون عن كبش فداء.
مشكلتهم أنهم يكيلون بمكيالين، واحدٍ لهم والثاني للآخرين.
مشكلتهم أنهم ينتقون من بين الأحداث التاريخية ما يؤيد وجهة نظرهم ولا يعيرون بقية التاريخ أدنى اهتمام، فتتحول قراءة التاريخ عندهم إلى "برنامج ما يطلبه المستمعون."
وهذا بالضبط ما قام به الصديق الأستاذ محمد علي صالح في مقاله.
إن نهج نظرية المؤامرة والفكر الهروبي الاستعلائي الذي انتهجه الصديق محمد علي صالح قد ساهم، ويتحمّل قدراً كبيراً من المسؤولية، في انفصال جنوب السودان.
ونواصل هذا المقال الأسبوع القادم بمشيئة الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.