قبل شهور مضت كتبت فقلت : " لم أتردد منذ سنين في أن أسأل كل ذي صلة لماذا يهرب بعض شباب دارفور إلى (إسرائيل) ؟ ولكنني لم أتلق ردا شافيا ولا إجابة مقنعة .. وعدت لأسأل ذاتي يا ربي لماذا لا يركبون أهوال (بحر الروم ) للعبور إلى (القارة العجوز) كما يفعل غيرهم حيث من المتوقع توفر فرص العمل والفلوس ؟ لماذا لا يركبون (السنابك ) المتهالكة شرقا لعبور (بحر القلزم ) إلى ( بلاد العرب )كما كانوا يفعلون قبل عشرين عاما ؟ لماذا لا يخبون عباب القفار على ظهور الأباعر مع احتمال الهلاك الجماعي بالظمأ للوصول إلى ( لبيبا ) كما كان يحدث خلال العقود السابقة ؟ لماذا لا يرابطون أمام السفارات والقنصليات للحصول على (فيزا) لعبور ( بحر الظلمات ) إلى (الدنيا الجديدة ) التي هي أمنية كل الشباب ؟ لماذا لا يلاحقون المنظمات الإنسانية للفوز بفرصة إعادة التوطين في (أوقانيسيا) أو حتى "واق الواق"(!) حيث ثمة تجارب ناجحة في هذا المضمار ؟ .. لماذا يعرضون أنفسهم لرصاصة الشرطة المصرية القاتلة ؟ ولماذا ترتكب تلك الشرطة هذه الجريمة الفظيعة بإطلاق الرصاص على الرأس والصدر لشخص غير مسلح وغير مقاوم - نعم أنه مخالف للقانون - ولكن لماذا قتله و ليس الإمساك به ؟ ... التقارير تقول أن من فلح في الوصول إلى (إسرائيل ) بعد هذه المغامرة الرهيبة يعاني من التمييز والإساءة والتهديد بالترحيل مع ذلك يتدفق المزيد من المغامرين " هذا ما قلته في المقال المذكور مع قليل من التصرف.. أما النتيجة التي توصلت إليها في ذلك الحين هي: "صحيح أن بعض الظواهر الاجتماعية غير قابلة للتفسير... إلا أن اجتهادي قد قادني إلى خلاصة مفادها أن الأمر كله عبارة عن رد فعل لاشعوري من ممارسات (حلف الجنجويد ) في دارفور بمعنى: إذا كان العرب إلى هذا الحد من العداوة والقسوة فلماذا لا نحطم " التابو" ونهرب إلى عدوهم المرموز ؟ " وطلبت من القراء تقديم تفسيراتهم ، والمحزن أن الجميع قد خذلوني ولم أصادف أحدا يفك حيرتي التي زادت بحلول تطورات أخرى متلاحقة حول الموضوع . من هذه التطورات تقرير بثته إحدى القنوات العربية ، حيث استطلعت آراء المهاجرين الدارفوريين في (إسرائيل )حول أوضاعهم هناك فقد صدع أكثرهم بالحق ونطق بالحقيقة وقال أنهم يعانون من أشد درجات المعاناة وقد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة وإن الصورة " الوردية " التي وصلتهم قبل قدومهم قد انقلبت إلى أخرى "قاتمة" ، هناك قليل منهم قد " نافق" وقال أنها -أي إسرائيل - بالحق " بلاد العسل واللبن "! وإن رُحِّلوا عنا قسرا سوف يعودون .. وتمنوا أن يكون مثواهم الأخير في ( أرض إسرائيل)!. تقرير آخر من قناة عربية أخرى ولكن بمعدل مفزع أعلى من ذلك الذي ورد في تقرير أختها ، حيث يؤكد _ أي التقرير- أن مهاجرين قد وقعوا في حبائل و براثن عصابتين خطيرتين أحداهما متخصصة في "تهريب البشر " و الأخرى ضالعة في "المتاجرة بالأعضاء البشرية " وإن الهدف من القتل المباشر هو الحصول على الأعضاء البشرية .. يا للهول !. كأنها قصة من الخيال أو أسطورة من أساطير الأولين مثل " الغول " و" مصاصي الدماء " التي كانت تحكيها جداتنا .. والمؤسف أن القناة قد عومت القضية في نهاية تقريرها ولم تحدد إلى أي جهة تنتمي تلك العصابات أهي مصرية أم إسرائيلية ولا هي قادمة من (أرض الظلمة )! .. إن مثل هذا التعويم غالبا ما يكون مقصودا لأن هذه القنوات لها سياسة تحريرية محكمة لا تحيد عنها. ظللت أرقب الوضع وأقلب الموضوع في ذهني حتى( دخل الخطر الحوش )! و مسني بشكل مباشر إذ اتصلت بأحد المعارف و سألته أين فلان؟ .. فقال : لا أعرف مكانه الآن ولكنه كان (مهووسا ) بالذهاب إلى " إسرائيل " ربما هناك ، لأن فلانا قد سبقه إلى تلك البلاد . كففت عن المزيد من الأسئلة وانصرفت إلى مواضيع أخرى حتى لا أجد نفسي في نهاية المطاف وحيدا.. وأن العشيرة كلها قد ذهبت إلى "إسرائيل "! أعلم يقينا أن الشباب في السودان ، ومن دارفور بخاصة ، يعاني أشد المعاناة من البطالة والقهر السياسي و التحيز الاجتماعي ..وقد أوصلته المعاناة إلى حالة من اليأس القاتل .. ولكن إذا كان الهدف هو الخروج من هذه الحالة بأي ثمن أليس هنالك بدائل أخرى أقل كلفة ؟ .. مثل اللحاق بالميدان والالتحاق بالحركات على قاعدة " الموت للموت أخير في الله " ! .. رغم إنني غير متوافق مع هذه الحركات وضد منهجها بشكل صريح..إلا أن الموت الذي أراه على الحدود المصرية – الإسرائيلية و الله قد أدمع عيني وأدمى فؤادي. إذا كانت تلك القناة قد أثبتت وجود عصابتين بين مصر و(إسرائيل) تعبثان بأرواح السودانيين /الدارفوريين وتتاجران بأعضائهم ، فعلينا أن نبحث عن إمكانية وجود عصابة ثالثة ، ولكن هذه المرة من السودان ، لدي قدر كبير من الاعتقاد بأن (جهة ما) قد استغلت الحالة السيكولوجية المتردية للشباب وزينت لهم (إسرائيل ) عن طريق توجيه مبرمج ودفعت بهم إلى هذا المهلك . فمن المعروف أن ( إسرائيل) دولة غير جاذبة للعمالة ، وسبب في ذلك أنها قد تمكنت من (هندسة ) اقتصادها بحيث يستفيد من العمالة الفلسطينية الفائضة ، فمن المفارقات أن جل الفعلة الذين يبنون المستوطنات هم من الفلسطينيين .. لأن قادتهم قلوا لهم حاربوا (إسرائيل) بيولوجيا /ديموغرافيا أي بالتكاثر العددي ،دون توفير مصادر الكسب ، لذلك تجد شابا في العشرينات من عمره لديه ثمانية أطفال ماذا يفعل باستثناء العمل في المستوطنات أو حتى أن يعمل لحساب "الموساد"!. الشاهد ، أن لا فرص عمل في (إسرائيل ) فائضة عن الفلسطينيين حتى( يهتبلها ) السودانيون /الدارفوريون.. وإلى حين ظهور طالب دراسات عليا بارع يقوم بإخضاع هذه الظاهرة إلى دراسة علمية محكمة ويضعنا على يقين الحقائق سيظل السؤال قائما لماذا يهرب شبابنا إلى (إسرائيل ) حيث ينتظرهم (الموت الأحمر)؟..