غرباً باتجاه الشرق [email protected] إزدانت الساحة السياسية داخل الوطن مؤخراً بسلسلة من المقالات بذلها الأكاديمي والناشط السياسي المثابر الدكتور الواثق كمير، الذي عرفه المجتمع السياسي السوداني خلال العقود الثلاث الذاهبات منفقاً من علمه وفكره بغير حساب، يطمح الى الأجرين، ويصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ويبتغون لأمتهم الصابرة المحتسبة فرج الله القريب. حملت المقالات عنوان (الكرة في ملعب الرئيس: تفكك الدولة السودانية – السيناريو الأكثر ترجيحا). نشرتها في البدء رصيفتنا (الصحافة)، ثم طرزت السلسلة بعد ذلك عدداً من مواقع الشبكة الدولية في شكل ورقة موحدة جامعة موجهة الى جمهرة السودانيين في أركان الدنيا الأربعة، توخياً للمزيد من العصف الذهني المستنير. تنطلق مبادرة الواثق من حسٍ وطني راكز، وتستصحب الحقائق الرابضة علي أرض الواقع، وتستخلص محصلاتها وفق تسلسل تراتبي منضبط. كما أنها تتسم بكثيرٍ من الجرأة، التي هي في لبّها ثمرة لمكابدات عهود طويلة عاشها الرجل مناهضاً للنظام القائم بحكم اختياراته الاستثنائية، حيث تمترس في زمان باكر داخل معسكر الحركة الشعبية لتحرير السودان مرتدياً شعار السودان الجديد، ثم مشاركاً في الحوار الوطني في مرحلة نيفاشا وما بعدها. غير أن أبرز ما يميز هذا الجهد في تقديري هو استقلالية الطرح والتزام نهج (التفكير خارج الصندوق) كما تجري العبارة عند الفرنجة. الواثق في مشروعه لتأصيل وتوطين الوعي التغييري لا يبحث عن (دكان) في أسواق النضال، أو مقعد في مهرجانات تسجيل المواقف. لا يخطب ليصفق له الدهماء، ولا يهتف ليرفعه (الثوار) علي الأكتاف. ولذلك فإن من شأن مبادرته أن تثير صدمة عند البعض، لا سيما رفقاء الأمس الذين سيقرأونه بريبة مصطنعة، كونهم يعلمون علم اليقين كيف يفكر صديقهم (الكمريد) القديم. وكونهم يدركون أن النظام لا يملك سلطة علي الرجل. وسيقرأه أهل النظام، في المقابل، بريبة حقيقية لأنهم سيتشككون في أن (الطابور الخامس) السابق ربما ينتوي إشعال فتنة داخلية تحرق أخضر النظام ويابسه! أجد نفسي علي ذات الضفة مع الواثق في أنه لا محيص عن التعامل الناضج مع ثوابت المشهد الراهن ومرارت الأمر الواقع. وفي طليعة هذه الثوابت – أو المرارات - أن الدولة والنظام أصبحا بعد ربع قرن من (التمكين) توأمان سياميان. سقوط النظام يعني ضمنياً سقوط الدولة، بما يستتبعه من تشظٍ وتفسخ وصوملة. ولا نظن أن في بلادنا اليوم – بخلاف أهل المراء والجدل - من يزعم أنه يستطيع ان يرى في سودان الإنقاذ دولةً منفصلة عن النظام، أو نظاماً منبتاً عن الدولة. كما نجد أنفسنا مصدقين لما بين يدي التجربة التاريخية السودانية، التي تقول صفحاتها – وهي لمّا تزل بيضاء من غير سوء، لم تصفر وريقاتها بعد – أن السودان لم يشهد قط إنتفاضة ثورية شعبية إجتثت نظاماً مرفوضاً إلا بعد اصطفاف قوى اليسار الوطني وفصائل اليمين الاسلامي، واحتشادها حذاءً بحذاء، في مواجهة ذلك النظام. وأن أى حراك سياسي يستهين بالقوى الإسلامية ويستتفهها ويدفع بها الى خارج جدلية الوعي والارادة التغييرية، محكومٌ عليه بأن يراوح مكانه ويدور حول نفسه – مثل ثور الساقية – الى أبد الآبدين! ونحن على مذهب صاحبنا الواثق، نسلّم قولاً واحداً، بل ونضيف من عندنا، أن السودان العربي الاسلامي النيلي – الرقم الأصعب في معادلة الجغرافيا السياسية والتاريخ المرصود - لن يقبل بأى حال من الأحوال، وتحت أى مسوغ او ذريعة، إعادة انتاج السيناريو الموسيفينوي في السودان (تمكن رئيس أوغندا الحالي يوري موسيفيني من قيادة أهل الاطراف وزحف بهم في مسيرة مسلحة نحو العاصمة كمبالا، حيث استولي عليها في العام 1986. وقد ضم جيشه آلاف المرتزقة الأجانب الذين لا صلة لهم بيوغندا وشعبها. بل أن بول كاغامي الرئيس الحالي لجمهورية رواندا كان من قادة الكتائب الزاحفة). النموذج الموسيفينوي الذي تُستنفر في لوحته الخلفية قبائل مسلحة من غربي السودان وأخلاط من دول افريقية اخري، مدعومة من حكومة جوبا، مستهدفةً العاصمة القومية وأواسط السودان بدعوى الخيار المسلح لاستعادة الديمقراطية، دونه خرط القتاد. ولا عجب أنه لا يجد تربته الا في عقولٍ عليلة ومخيلات كليلة، لم تعرف السودان ولم تخبر شعبه. مبادرة الواثق تثير جدلاً يفتح أبواب جهنم، ولكنها تحرك الساكن. نعم هناك في كتف الطريق عقابيل ومجاهيل بعرض صحراء النفود. في طليعتها أهواء الحزب الحاكم، وأطماع الطامعين من عصبته، التي خلقها غول (التمكين) هلوعة، أذا مسّها النفط منوعة، واذا طالتها رياح التغيير وحتميات التاريخ جزوعة، إلا من أتى شعبه بقلبٍ سليم عبر بوابة المساومة التاريخية!