وسع الله عليه في الرزق فبنى دارا جديدة وانتقل اليها فرحا مسرورا وهو يشعر ان الدنيا تضحك له ملء شدقيها .. في مساء احد ايام الشهر الاول الذي انتقل فيه لتلك الدار اخذ ابنه ذو الستة عشر ربيعا مفتاح السيارة الجديدة وذهب الى السوبر ماركت المجاور لياتي بغرض ما .. كان يحب ذلك الابن حبا جما يختلف عن حبه لباقى اخوته واخواته ويكن له من المودة ما جعله اثيرا عنده ، وكان يفخر ويفاخر به ولا يرى له مثيلا بين اترابه من حوله وقد كان معذورا في ذلك فقد كان ذلك الابن مميزا ومتميزا في كل شيء .. نسمات الليل الباردة .. والسيارة الجديدة.. ودم الصبا الذي يتدفق حارا في عروق ذلك الابن دفعته للخروج عن المالوف فمضى يتلاعب بالسيارة عابثا لاهيا دون ان يعرف ان القدر كان يخبيء له بين طيات ذلك اللهو الذي قصد ان يدخل به شيئا من السرور على نفسه مستقبلا اخر لم يكن يتخيله او يفكر فيه .. او يراوده في اسوا كوابيسه وخيالاته .. وهو يدور بالسيارة ، يلهو ، ويضحك فرحا ، وقع له حادث خفيف مفاجيء ادى الى تضرر السيارة اكثر مما تضرر جسده هو او هكذا تصور حينها .. ولان الحادث كان في الحي ولا يبعد عن البيت ( الجديد ) الا امتار قليلة ، ولانه لم يصب سوى بنزيف طفيف في انفه اسرع – راجلا – نحو البيت ليخبر اباه بما حدث ، وليعتذر له عن ما اصاب السيارة من اضرار .. قبّل كتف والده واعتذر منه ما وسعه الاعتذار حتى راى علامات الرضا في وجه ذلك الوالد الذي اخافه و ازعجه حدوث الحادث اكثر مما ازعجه تضرر السيارة فالسيارات تذهب وتاتي ولكن الابناء اذا ذهبوا لا يعودون ولا يعوض عن غيابهم أي شيء اخر فظن ان الامر قد انتهى .. بعد وقت وجيز شعر بالم في راسه ، بدأ الالم خفيفا ثم ازداد شيئا فشيئا حتى ما عاد في وسعه ان يحتمله ، خطفه والده وانطلق به باقصى سرعة الى مستشفى الملك فهد بجدة .. بمجرد ان عاينه الاطباء وبمجرد ان راوا الصور التي اخذت لراسه قرروا اجراء عملية جراحية عاجلة لايقاف نزيف قالوا انه في المخ .. اعلنت حالة الطواري في القسم وأٌدخل غرفة العمليات على عجل ، خارج الغرفة وقف الوالد الملتاع والام المحزونة وباقى افراد الاسرة الخائفون ينهش القلق افئدتهم ويجثم الرعب على صدورهم وهم يتضرعون الى الله ويتوسلون اليه من اجل شفاء الابن الحبيب ومن اجل ان يخرج من تلك الغرفة حيا وسليما ومعافى ..... مرت الساعات عليهم - وهم على على ذلك الحال - وكانها اعواماً كاملة قبل ان تنتهي العملية الجراحية ويتم اخراج ابنهم من غرفة العمليات ولكن الخبر المؤسف الذي سمعوه اطار صوابهم ... منيت العملية بفشل ذريع ولا بد من اجراء عملية اخرى بعد ساعات قليلة .. صباح اليوم التالي اعيد ذلك الابن مرة اخرى لغرفة العمليات لاجراء عملية ثانية لتدارك ما يمكن تداركه فعاد افراد اسرته الذين قضوا الليلة كلها ساهرين يذروعون الممر الموجود امام الغرفة المرعبة جيئة وذهابا في اضطراب ووجل وهم يحالوا جاهدين ان يكفكفوا دموعهم وان يواسوا ويصبروا بعضهم بعضا .. اما الوالد المحب فقد قبع على الارض في ركن قصي وهو يشعر بشيء بارد يعتصر باطنه في شدة وقوة .. خمس ساعات كاملة مرت كل دقيقة فيها كانت تعادل عندهم دهرا قبل ان يفتح الباب ويخرج الطبيب مرهقا وشاحبا و زائع النظرات .... و ........ فشلت العملية الثانية كما فشلت الاولى .. اسودت الدنيا في عيون افراد الاسرة الهانئة السعيدة .. بين ليلة وضحاها تغير كل شيء .. حلق عصفور السعادة مبتعدا عن البيت الجديد وحط مكانه غراب الشؤم والحزن والالم والاسى .. خفتت الاصوات .. وغابت الضحكات .. وضاعت الابتسامات بين الابتهال والتضرع .. بين الياس والامل .. بين القنوط والرجاء .. حتى جاءت اللطمة الكبرى التي مثلت الضربة القاضية ( طبيا ) لا امل في أي شفاء .. وتمدد الصبي ذو الستة عشر ربيعاً جسداً ميتا على الفراش الابيض ( موصولاً بانابيب التغذية ) لا يتحرك فيه أي شيء حتى جفنه لا يتحرك الا اذا اغلقه والده او والدته خشية ان تصاب عيناه بالجفاف .. لم تمر الا عدة ايام اخرى حتى تحول الجسد الطريح الذي كان قبل ايام قليلة غضا نضيرا الى عظام لا يكسوها الا جِلد مُصفّر .. يجلس بجواره الوالد المحزون يحاول جاهدا ان يصبِر وان يتقبل قضاء الله وقدره وهو ينظر لفلذة كبدة ساكنا سكون الموتى لا يستطيع ان يفعل أي شيء لنفسه فهو لا يستطيع ان يحرك يدا او رجلا او اصبعا او لسانا او شفة ... لا يستطيع ان يتكلم ان اراد الكلام .. لا يستطيع ان يشتكي اذا اراد ان يشتكي .. لا يستطيع ان يشكر .. لا يستطيع ان يحمد .. لا يستطيع ان يذم .. لا يستطيع ان يعبر عن غضب .. لا يستطيع ان يعبر عن فر ح او حزن او الم .. اذا حطت ذبابة على وجهه لا بد من شخص اخر ينش عليها حتى تطير من على وجهه .. اذا جاع لا يستطيع ان يطلب الطعام واذا اراد ان ياكل لا يستطيع ان ياكل .. اذا عطش لا يستطيع ان يطلب الشراب واذا طلبه لا يستطيع ان يشربه .. اذا شعر بالحاجة لدخول الحمام لا يستطيع ان يذهب .. اذا رغب في ان يغسل جسده لا يستطيع ان يغسله .. اذا اراد ان يصلى لا يستطيع ان يصلى .. اذا اراد ان يحضن امه او اباه او احد اشقائه لا يستطيع ان يضمه الى صدره .. اذا جاءه احد اصدقائه زائرا لا يستطيع ان يحدثه ، واذا اشتاق لاحدهم لا يستطيع ان يخبره انه يشتاق اليه ، واذا رغب في زيارة احدهم لا يستطيع ان يزوره .. لا يستطيع ان يفتح صفحته على الفيس بوك ليقرا ولا يستطيع ان يدردش ولا يستطيع ان يدخل الى المنتديات ليكت او يناقش او يحلل .. لا يستطيع ان يستخدم الموبايل .. او الدراجة او السيارة .. لا يستطيع ان يزور رفيقا او اخا او صاحبا .. لا يستطيع ان ينهض من فراشه ليذهب الى دراسته او للمارسة الرياضة التي كان يحبها او لقضاء عطلة نهاية الاسبوع على الكورنيش الشمالي او الجنوبي .. ونحن ناكل الطيبات ونشرب الزلال وتذوق السنتنا ما يدخل الى افواهنا وتتلذذ به ولا نحمد الله على ذلك .. ارجلنا سليمة تحملنا الى أي مكان نريد.. و ... نشتكي .. ايدينا بكامل صلاحيتها نقود بها السيارات ونغسل بها اجسادنا وننجز بها اعمالنا ، ونكتب بهها ما نريد ان نكتب .... ونشتكي .. اسماعنا سليمة وابصارنا سليمة نسمع الاصوات كلها ونبصر في الليل وفي النهار ونشتكي .. اعناقنا معافاة نستطيع وان نتلفت يمينا ويسارا جنوبا وشمالا ونشتكي .. احبابنا من حولنا ونشتكي .. جيوبنا ملاى ونشتكي .. نفعل كل ما نريد فعله في حرية وسهولة ويسر .. ومع ذلك لا نشعر بالرضاء او الامتنان او الفضل .. كفانا شكوى .. كفانا شكوى .. كفانا شكوى .. ولنحمد المحمود على نعم ان تفكرنا فيها لن نحصيها .. عافانا الله واياكم جميعا .. ** ملحق .. ** بالامس الاربعاء 24/4/2013 بعد صلاة العصر دخل الى سوق بني مالك الشعبي في مدينة جدة سودانيا مضى يمازح معارفه الموجودن هناك في سرور ومرح .. دقائق ثم اخرج لهم جواز سفره مرفقة به تاشيرة الخروج والعودة واخبرهم انه سيغادر في الغد الى السودان ليزور اهله الذين يكاد يقتله الشوق اليهم بعد ان غاب عنهم لسبع سنوات كاملة .. كان فرحه بالعودة بعد الغياب الطويل باديا على صفحة وجهه .. وكان سروره ظاهرا للعيان .. فجاة وهو يتحدث ويحمل جواز سفره سقط من طوله على الارض من دون أي سبب يؤدي الى سقوطه .. قلبوه فوجدوه قد مات .. جاءت الشرطة ثم الاسعاف ثم البحث الجنائي وبقى ذلك الشخص ممدا على الارض من بعد صلاة العصر وحتى بعد صلاة المغرب حتى انتهت الجهات المسؤلة من مهاما ليس تحته الا التراب ولا يستر جسده عن الناس المتجمعين حوله الا قطعة قصدير غُطى بهى وجهه وجزءا من جسده .. الغيت تاشيرة الخروج الى السودان .. ووضعت مكانها تاشيرة اخرى .. بُدل مسار الرحلة وغُيرت الشركة الناقلة بشركة لا تعرف سفرياتها ورحلاتها التاخير لاي سبب من الاسباب اما محطة الوصول فلا ينتظر فيها اخ ولا اخت ولا ابن ولا زوجة ولا خل ولا صديق .. المنتظر الوحيد فيها والذي يرجى رجاءه هو العمل .. وهو رحمة الله التي وسعت كل شيء .. لم تبكي ذلك الميت الا اثنتان من بائعات ( الكسرة ) نسال الله الرحيم ان يتغمده بواسع رحمته وان يردنا ويردكم الى اوطانكم سالمين .. وان يحُسّن اعمالنا وخواتيمنا ..