الخرطوم على وشك استقبال دكتور جون قرنق دي مبيور، بعد أكثر من عشرين عاماً من الغياب والحضور معاً، والثبات والنزال ورفع رايات المحرومين من إنسان ولد في ريف مدينة بور في منطقة وانقلي، وحلم بوحدة السودان، وانتقل تأثيره إلى مركز السلطة والحكم في الخرطوم، وهو القادم من الهامش. وفي ترتيبات الاستقبال كان محمود عبدالعزيز فاعلاً وحاضراً، وأوكلت لي مهمة التحضير للاستقبال، وبدأت المهمة على نحو جدي، في وضع الترتيبات في شهري مايو ويونيو، وحتى وصول قرنق مبيور أتيم إلى الخرطوم يوم الجمعة 8 يوليو 2005، حيث كنا نعمل ليل نهار لاكمال الاستعدادات، وأبدا محمود منذ البداية رغبته في المشاركة وشارك في عدة فعاليات واشترى من ماله الخاص ( 2000 تي شيرت - قميص ) مطبوع عليها صورة الدكتور جون قرنق وعلى الجانب الآخر صورة محمود عبدالعزيز وهي مشاركة واضحة وصريحة لا تخطئها العين وخلدت عدسات المصورين تلك اللقطات ومحمود يرتدي نفس القميص في الساحة الخضراء، وقد وزعها على مجموعات الشباب التي دعاها للمشاركة وتابع معي سير التحضير للاستقبال. ولقد كان محمود واثقاً في حديثه معي أن وصول الدكتور جون قرنق سيحدث التغيير المطلوب، وظل يردد عبارة أثيرة له قائلاً : "وجود الدكتور سيقلب الصفحة يا كماندر" وحزن حزناً شديداً على رحيل جون قرنق الذي كان يعتبره بطلاً شخصياً له، وانكسرت إحدى أحلامه بالرحيل المبكر والمفاجئ لقرنق مبيور. لم يغفر له المؤتمر الوطني وأجهزته التي رصدت كل ذلك، وتوغل أكثر في تحدي المؤتمر الوطني واتخذ موقف أكثر صراحة في الإنحياز السياسي وتحدي السلطات في أهم دوائر اهتماماتها، حينما أعلن موقفاً صريحاً في الوقوف إلى جانب الحركة الشعبية في انتخابات رئاسة الجمهورية إلى جانب الأستاذ محمد وردي في 2010، وحضر تدشين الحملة الإنتخابية في منزل الزعيم علي عبداللطيف في أم درمان، وشارك بعد ذلك في عدة مناشط من ضمنها أن دعاني لحفل أقامه في مدينة ود مدني، وآخر في نادي التنس، وكان موقفاً شديد الإفصاح عن الأرض السياسية التي اختار الوقوف عليها، وقد جر له ذلك الكثير من المتاعب مضافاً إليه سجل طويل عند أجهزة النظام، لاسيما في التسعينيات، وبالإمكان تعداد الكثير من المواقف التي لم يتوانى عن الإعلان عن مواقفه دون مواربة. وبعد بداية الحرب الأخيرة أرسل لي عدة رسائل في عام 2011 عن المعاناة والتربص الذي يشعر به. وإن اجهزة النظام استهدفت قائمة طويلة من المبدعين في مختلف ضروب الإبداع من مسرح وغناء وفكر، وإنتهت بإغلاق مراكز الدراسات، وتعرض المبدعين لمختلف صنوف التضييق والمطاردة، وصمد الكثير منهم مثل حالة النقش على الصخرة الباهرة التي واظب عليها بجسارة الفنان الكبير أبوعركي البخيت، ويحظي بحب الناس وتعاطفهم ولاسيما الشباب.
أحب محمود الجنوب وذهب إليه في زيارات، وكان له رصيد وسط شباب الجنوب ولاحظت مؤخراً أن عدد من الشباب السودانيين الجنوبيين يضعون صورته على حساباتهم في شبكة التواصل الإجتماعي. واقترب على نحو ما من قضايا القوميات والتنوع، ولامس ذلك من خلال بعض إبداعاته، وكان يعبر بشكل مقتضب في لقاءاتنا عن حبه للجنوب وضمت دائرته وفرقته شباب من مختلف أنحاء السودان، ومنزله كذلك. لقد احتفى بالتنوع على طريقته الخاصة، وكان شخصاً ذو ذكاء اجتماعي، وحس مطبوع بالسخرية، ويختزل المفارقات في عبارات موجزة، وسريعة مضحكة وموجعة، ولا يخوض في الجدل السياسي المطول، ويكتفي بتلغرافات سياسية توجز وجهة نظره، وفي أحيان قليلة كان يوجه لي أسئلة مباشرة عن الوضع السياسي، وكان يود أن يطمئن أن التغيير واقع لا محالة وأننا نسير في الاتجاه الصحيح. وهو شخص يتميز بالكاريزما التي تمكنه من اتخاذ المواقف والشجاعة والوضوح في معظم الأوقات رغم تعقيدات الوضع السياسي والمصاعب التي أحاطت بحياته وإذا ضاعت بوصلته لبعض الوقت ولم يتمكن من حل شفرة الوضع السياسي سرعان ما يستعيد بوصلته نحو الإتجاه الصحيح. والفترة الأخيرة من حياته والتي انتهت بأحداث مدني ودخوله المستشفى والمأساة التي أحاطت بكل ذلك كانت إحدى فتراته الصعبة، وكان قادراً أن يعود إلى الطريق التي تضعه في صدارة حب الناس، ولكنه قد رحل. وعندما رحل عبرت قطاعات كبيرة عن حزنها الشديد على رحيله وتبلورت صورة أسطورية له في المخيلة الشعبية.
محمود ظاهرة سوف تتكرر، فالمواقف الوطنية والاحتجاج والإبداع عميقة الجذور في التراب السوداني منذ أركماني الذي دعا إلى فصل الدين عن الدولة إلى عبدالمنعم عبد الحي وإسماعيل عبد المعين إلى أخر القائمة الطويلة والمجيدة، ففي إحدى إنتباهاته النافذة والرصينة ذكر عبدالمنعم عبدالحي من ضمن أحاديث ذكرياته أنه عندما أراد أن يوصف أمدرمان لم يجد فيها جانب أجمل وأخلد من الجانب الوطني، وذكر أنها صورة مصغرة للسودان وأنها تمثل الشعب السوداني كله من الشمال والجنوب وكتب : أنا أمدرمان تأمل في نجوعي .. أنا السودان تمثل في ربوعي، أنا ابن الشمال سكنته قلبي ..على ابن الجنوب ضميت ضلوعي. وحينما يشق الفجر دياجير الظلام سنكتشف جميعاً أن أكبر ثرواتنا الوطنية هي من صنع المبدعين وأن الغناء في كثير من الأوقات قد حمل سحر وجداننا المشترك معانٍ وموسيقى، وعبدالمنعم عبدالحي وهو سوداني شمالي وسوداني جنوبي ينحدر من القبائل النيلية من قبيلة الدينكا، وهو كما عبر هو نفسه سليل طلبة الكلية الحربية الواقفين بالرماح ضد الإنجليز، وهو الذي حارب في مصر وفي فلسطين، وانتمى إلى كل هؤلاء وأولئك. وهو من الذين بحثوا بحثاً مضنياً عن ما هو مشترك، وهم كثر. ولا تخطئ العين اسماعيل عبد المعين الذي أدرك سحر التنوع الثقافي في جماليات الموسيقى والألحان المختلفة والمتنوعة عند مختلف شعوب السودان، وبحث عنها وطوّر وأضاف واجاد، ودفع بموسيقانا إلى الأمام مستلهماً تنوع الإيقاعات السودانية في مختلف أنحاء السودان التي قام اسماعيل عبد المعين بزيارتها. إن وحدتنا الحقيقية ستكون يوماً من صنع ثقافتنا وتاريخنا المشترك قبل مشاريع الحكومات التي لم ترحب بالتنوع والتعدد، ومحمود عبدالعزيز حينما اقترب من الحركة الشعبية فإنه لم يقترب من السياسة فحسب، بل اقترب من ذاك التنوع والتعدد الثقافي الذي تحفل به بلادنا امتداداً لمواقف عديدة أبدى فيها سخطه وتبرمه من حالتنا الراهنة. وقد كانت له نفس معذبة وشفافة وعامرة بحب الناس، ولا شك أنه كان رافضاً لما هو قائم وأعطى إشارات بينة في رغبته في مشروع بديل نقيض لما هو قائم، يحترم خصوصيات الأفراد ويقيم العدالة. ووضوح محمود عبد العزيز في رفض ما هو قائم هو الذي أعطاه زخم الشباب. في سجون مصر وفي حادث صدفي محض، الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم (الفاجومي) الذي كان زاجلاً يكرس شعره لمباريات كرة القدم، ودخل السجن في شأن آخر وخرج بشأن أكثر خطورة حينما التقى بالمثقفيين اليساريين المصريين في السجن (وياما في السجن مظاليم)، وانحاز من يومها للمظلومين وما يزال. وقد أمضيت أمسية جميلة حينما قمت بزيارة أحمد فؤاد نجم مع أخي وصديقي كمال الوسيلة، وصديقنا العزيز حمدي رزق، وحكى لنا عن تجاربه وحياته، وعن الشيخ إمام، وعلي اللبان، والغورية، وتعرفنا على ابنته نوارة نجم التي أصبحت لاحقاً واحدة من رموز الثورة المصرية. وقرأنا عليه ما حفظناه من قصيدة مبدعنا الكبير محجوب شريف : "طير يا حمام، ودي السلام للشيخ إمام وأحمد فؤاد، هينين محبة وحزمتين شتل إحترام، والمستحيل يخلو الفؤاد من حلمه بالوطن الجميل، والنهر ما بيستأذن الصخرة المرور، والنجمة ما بتستأذن الطلعة الظلام"، وقد تنبأ محجوب شريف بالثورة المصرية حينما قال : "يا مصري يا حلو يا بشوش، ما تيأسوش، الأصل إنتو حيمسح المطرالرتوش، مين البنى الهرم، الملوك ؟ طز في الملوك من ألف عام، طز في التواريخ المسجلة في الرخام…. إلخ"، وللحياة أحكام، وليست النهاية والبداية واحدة، وهكذا فإن الحياة تختار للناس بعض المهام، مثلما أعطت مهمة عظيمة لأحمد فؤاد نجم فإنها أيضاً كانت جميلة الاختيار حينما صعد نجم محمود عبدالعزيز من بين عشرات الفنانين الشباب المبدعين، واختار طريق الإنحياز لقضايا الشباب، وكان صوتاً عالياً من أصواتهم، وقد أدى مهمته ويستحق أن ترفع له القبعات وأن نرتدي السواكني إمعاناً عن الإعلان في حبنا لأهل شرق السودان. إن الارتباك والالتباس في تقييم ظاهرة محمود عبدالعزيز في بعض جوانبه متعمد من أجهزة إعلام النظام التي حاولت أن تطوي صفحته بعبارات الثناء وبعض الأدعية وهم مجبرون على ذلك للشعبية الكبيرة التي حظي بها، وقد حاولوا عرض قصته كقصة من قصص التعاطف الإنساني حتى يلتبس أمر المغني على الناس وحتى لا يتم تقييم ظاهرته على نحو صحيح وحتى لا تطرح أسئلة على شاكلة : من أين، وكيف، ولماذا ظهر محمود عبدالعزيز، ولماذا أحبه الناس وما هي القضايا التي عبر عنها وما هو المناخ الذي شكل ظاهرته. وقد استخدموا في ذلك بعض معارفه حتى يقومون بإغلاق ملف سيرته على نحو لا يثير قلق النظام، وحتى لا يولد محمود آخر في دنيا الإبداع، ولكن هذه الملفات من الصعب إغلاقها، وإلا تمكنت السلطات البريطانية وبعض كرام المواطنين من إغلاق ملف على عبداللطيف، وإلا لما جاءت إمرأة من اليابان البعيد (الدكتورة يوشيكو كوريتا ) لترسم صورة أخرى ومغايرة للزعيم علي عبد اللطيف. إنني أثق بأن الشباب والمثقفين والمبدعين سيرسمون الصورة الحقيقية لمحمود عبدالعزيز ويضعونها في إطارها الصحيح بكل جوانبها. وأخيراً أود أن أقول : لمحمود مساء من الحب والتمرد إليك وأنت تعود من أوجاع الطريق طول المسافات سحر الغياب حب الشباب فوضى المكان افتضاح النفاق يُتم البلاد ووهج الغناء مساء من النسيان كي تعود لناصية الغناء لا تبالي الموت عند مولدك يكفيك أمك وحدها وعند الموت يكفيك التمرد وأنت النهوض قد بدا لنا واستعصم بالحب عنا