من الملاحظ أن الثورات الشعبية العربية الراهنة قد ارتبطت بظاهرة الجمع الثورية وهي ظاهرة فريدة جديرة بالتأمل والتعليق ، فقبل اندلاع الثورات العربية ، ارتبط يوم الجمعة في الذاكرة الجمعية للشعوب العربية بإداء صلاة الجمعة ، الانتشار في الأرض لأغراض التسوق ثم العودة للمنازل الآمنة بغرض التنعم بالراحة الإسبوعية التي لا يكدر صفوها مكدر ، أما بعد اندلاع ثورتيّ تونس ومصر ثم اندلاع ثورات ليبيا واليمن وسوريا فقد أصبح يوم الجمعة يوماً للغضب الشعبي العارم وتفنن شباب الثورات العربية في إطلاق الأوصاف الثورية على أيام الجمع فأصبحنا نسمع بجمع بنكهة الثورة وطعم الانتفاضة فهناك جمعة الغضب ، جمعة الصمود، جمعة التحدى ، جمعة الخلاص، جمعة الرحيل، جمعة الحرية وجمعة أطفال الحرية وهلمجرا، لقد درج المتظاهرون السلميون المطالبون بالخبز أو الحرية أو كليهما معاً على استغلال لحظات الخروج الجماعي الكبير من المساجد والجوامع بعد أداء صلاة الجمعة كساعة صفر ونقطة انطلاق لتسيير أقوى المظاهرات الثورية المطالبة بالتغيير، غير مكترثين لمخاطر التصدي الأمني العنيف وغير مبالين بالمصير الذي ينتظر بعضهم وهو إمكانية قتلهم وعدم عودتهم أحياء إلى منازلهم ومقابلة أحبائهم مرة أخرى، وبعيداً عن التنظير الإنشائي ، فقد تحول يوم الجمعة بالفعل في اليمن وسوريا إلى أخطر أيام الله على الأرض ، واصبح يوم الجمعة هو اليوم الذي تسيل فيه دماء أكبر عدد من الشهداء الثائرين من النساء والأطفال والشباب! من المؤكد أن الشيطان الرجيم وحده كان يمقت أيام الجمع العربية في الأيام الخوالي لأنها تشهد حشوداً إيمانية كبيرة لا تسر رؤيتها ناظريه أما أيام الجمع الثورية الراهنة فقد صارت ممقوتة وجالبة لأكبر قدر من القلق الأمني بالنسبة لحكومتي سوريا واليمن اللتين قررتا انتهاج الحلول الأمنية الفجة لمواجهة المظاهرات الشعبية عبر محاصرة واقتحام المدن وقصفها بالدبابات والمدفعية الثقيلة، ولعل أغرب ما سمعته في هذا الشأن هو أن أحد الساخطين على ظاهرة الجمع الثورية قد احتج في إحدى الوسائل الإعلامية على توقيت مظاهرات الجمعة وطالب المتظاهرين بعدم التظاهر في يوم الجمعة والتظاهر إذا لزم الأمر في أيام الأحد أو الإثنين أو الثلاثاء بعد الحصول على التراخيص الحكومية المسبقة! من المؤكد أن الجماهير العربية الثائرة، التي كسرت حاجز الخوف الأمني ، سوف تصعد مظاهراتها السلمية في سوريا واليمن وفي دول عربية أخرى في كل أيام الأسبوع وفي يوم الجمعة على وجه التحديد غير عابئة بقطع الرقاب أو قطع الاتصالات طالما أصرت الحكومات إياها على تبني المعالجات الأمنية الفاشلة والتي لن تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى رفع سقوف المطالبات الشعبية وانحصارها في المطالبة بإسقاط الحكومات المتورطة في سفك دماء مواطنيها وجرجرة روسائها إلى ساحة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بعد اتهامهم بارتكاب جرائم حرب ضد شعوبهم، وإلى حين عودة الحكومات الاستبدادية إلى رشدها السياسي وقيامها بواجبها في تنفيذ جميع الإصلاحات الحقيقية التي تطالب بها الجماهير العربية الثائرة مثل إلغاء هيمنة الحزب الواحد وإنهاء احتكار السلطة والثروة، فسوف يثبت الخارجون إلى صلاة الجمعة في كل يوم جمعة مدى جسارتهم الثورية الفذة وهم يهمهمون في سرهم بإيمان ثوري عميق: لنا جمعاتنا ، نصلي فيها ونثور خلالها ولنا فيها مآرب أخرى! فيصل علي سليمان الدابي/المحامي