ان ما تشهده منطقة جبال النوبة / جنوب كردفان منذ اكثر من شهرين الان ، هو درجة قصوى من حرب التطهير العرقى التى يمارسها نظام الحكم فى السودان . وهذه الحرب التطهيرية تتخذ اشكال متنوعة عبر ممارسات نظام الخرطوم ، ليس فقط من خلال العمليات القتالية التى شملت بالطبع كافة اشكال جرائم الحرب ، من قصف للمدنيين وحرق للقرى والمدن واعتقال واغتيال المواطنين العزل على اساس العرق والانتماء السياسى , ولكن ممارسات النظام الحاكم فى عملية التطهير هى اكثر شمولا واتساعا من مجرد عمليات عسكرية ينفذها مليشيات النظام ، بل شملت منظومة سياسية ، اقتصادية ، اجتماعية وثقافية متكاملة تخوض حرب تطهيرية واسعة ضد كل ماهو غير عربى او اسلاموى بشروط صارمة لم يبتدعها النظام الحالى بل توارث معظمها من العقد الاجتماعى الغير معلن فى الخرطوم ، بين كافة القوى السياسية و الوطنية فى البلاد التى وصلت الى الحكم او التى لم تصل اليه بعد ، بما فى ذلك الاحزاب المعارضة كما تدعو نفسها ، وبين المجموعات المستعربة من السودانين الشماليين . هذا العقد فى مجمله هو اتفاق على نظام حكم يضمن السيطرة الكاملة للسودانيين المستعربين على حكم كل السودانيين الاخرين ، و ليس فقط حكمهم بل ايضا التأكد من ابادة اى قدرة لدى السودانيين الافارقة " السود" للوصول يوما الى حكم السودان او السيطرة عليه . غير ان ادارة وطن كالسودان فى احسن احواله هى عملية شديدة الصعوبة والتعقيد ، نسبة للتنوع الهائل الاثنى ، الثقافى والجغرافى . اما ادارة هذا الوطن بعقلية وارادة أحادية التوجه فى اابسط الحالات ان لم تكن عنصرية ، فهى كارثة حقيقية ، دفع ثمنها ولا زال "الوطن " الذ ى انقسم فعلا وربما فى طريقه الى التفتت . ان عملية التطهير لثقافة ووجود شعوب بأكملها وتلوين الوطن بلون واحد هى محاولة اثبتت فشلها فى كل انحاء العالم . ذلك ان ان فكرة التطهير عندما لا تتخذ شكلها العنيف ، وهنا اقصد الابادة اى قتل افراد مجتمع معين وانهاء وجوده فيزيائيا ، عندما لا تتخذ هذا الشكل فانها تتخذ اشكالا اخرى مثل ما كان يحدث فى السودان قبل الانقاذ . فقد كانت محاولة انظمة الحكم فى الخرطوم منحصرة فى كبت وتجاهل او ما اصطلح علي تسميته "تهميش " الشعوب السودانية الافريقية ، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا بالطبع . هذه العملية ادت الى نتائج قد تكون متضاربة ، فلدى فئة من هذه الشعوب ادت عملية التهميش المنظم تلك الى اذابتها فى منظومة المجتمع الشمالى ثقافيا على الاقل ، وذلك عبر الخضوع للشروط الاجتماعية الاقصائية فى اغلبها . وفى المقابل كان هناك مجموعات تمسكت بالهوية والثقافة والحقوق الاساسية مما ادى الى حركة مقاومة منظمة ومسلحة ايضا معبرة عن رفضها لذلك التهميش والظلم باقصى درجات الرفض الممكنة وهى المقاومة العسكرية . لكن حتى المجموعات التى لم تنضم علنا الى المقاومة العسكرية هى ايضا كانت تبلور اشكال مختلفة للرفض والمقاومة للعنصرية والتهميش وكان ابرز اشكال هذه المقاومة هو الاتجاه نحو التعليم كوسيلة لتطوير الوعى بالقضايا وتقوية ادوات المقاومة . ان نتيجة محاولات التطهير الثقافى عبر ال50 عاما الماضية كانت انتاج وعى متطور بالحقوق ادى فى نهايته كما حدث للجنوبيين لصناعة وطن مستقل . وكما يبدو الان ان الشعوب الافريقية الاخرى فى السودان وخاصة شعب جبال النوبة قد بدأت للتو عملية تطهير مضادة لتلك العملية القديمة فكرا وعملا . هذا التطهير المضاد هو حتمى تماما , حيث يهدف الى تغيير تلك المفاهيم والمبادىء التى حكم بها السودان فى ال500 عام الاخيرة وليس فقط نظام الانقاذ . حيث ينتهى ذلك العقد الاجتماعى الغير معلن ويبدأ عقد جديد شديد الوضوح فى رؤيته للسودان كوطن ينبنى على المساواة والحرية و الديمقراطية لجميع السودانيين دون تمييز عرقى ، اقتصادى او ثقافى . من الواضح الان ان حرب التطهير من العنصرية والتمييزو الحكم الاحادى هذه يقودها ويخوضها ابناء جبال النوبة وتنضم اليهم باتفاقات متتالية الحركات الدارفورية كما حدث مع حركة العدل والمساواة ومؤخرا حركة تحرير السودان ، الامر الذى يعنى اعادة صياغة كاملة للتحالفات السياسية التى تسعى للحكم فى السودان . فابناء " الهامش" الان يتوحدون فى اتجاه مصالحهم المشتركة فى بناء وطن يحمى الانسان وكرامته وحقوقه الاساسية . ان ما تقوم به القوى السياسية فى المركز خاصة المعارضة هى لعبة شديدة الخطورة خاصة ان مواقفها التى لا تعبر عن توجه معين وقوى نحو تغيير جذرى لنظام حكم السودان ، هو ناتج عن ذلك الاتفاق الصامت مع النظام فى الخرطوم ، ربما ليس فيما يفعله من جرائم ضد الانسانية ظاهرة للعالم ، ولكن فى الرؤية الاستراتيجية لمستقبل السودان الذى فى نظرهم يجب ان يبقى تحت سيطرتهم فى لعبة الكراسى هذه حيث يتبادلون الحكم فيما بينهم معارضة وحكومة منذ الاستقلال . لكن ما يغيب عنهم ان الوضع شديد الاختلاف الان عما كان عليه فى السنوات الفائتة والتجارب الماضية . فكما عبر عبد العزيز الحلو فى تسجل صوتى له مؤخرا ، حيث وجه نداءا لشباب السودان مخاطبا اياهم ( بملاك السودان الجديد وملاك المستقبل ) , وهذا خطاب حقيقى فى جوانب كثيرة ، فان الاجيال الجديدة من الشباب تراهن على سودان مختلف تماما عن ما هو قائم وما يقاتل المؤتمر الوطنى ومعارضته للحفاظ عليه و "تمكينه" ليورث لهذه الاجيال الشابة . غير ان هذا وطن لا يلبى طموحات هذه الاجيال فى الحرية وزيادة مساحات التواصل مع الاخر ، فى عالم يزداد صغرا وقبول اى اخر من اى مكان بات من المسلمات الى حد كبير . هذا شباب يغنى الراب ويتعلم لهجات قبائله الاصلية فى ذات الوقت ، حيث تصبح الهوية الثقافية هى وسيلة تميز لا تمييز ، لان الفضاء مفتوح للتبادل الحر والرؤية الحقيقية للاخر وليس عبر تصورات وبورتيرهات مشوهة وعنصرية . ان الاحتكاك الان اكثر حقيقية حيث يسمح لنا الفضاء الالكترونى بالالتقاء دون حواجز عرقية وثقافية موجودة فقط فى ذهنيات تتجه لنهاياتها الحتمية . ان حتمية التطهير من النظام البائد فى الخرطوم والذى مارس اقصى ما يستطيع من العنف والترويع واستنفد كافة خياراته السياسية وحتى العسكرية والاقتصادية ، كما يواجه ضغطا متزايدا من المجتمع الدولى حيث وضع القرار الاخير لمجلس الامن حول تمديد بعثة الاممالمتحدة بدارفور ، وضع السودان تحت الولاية الكاملة للقوات الدولية والاممالمتحدة تحت الفصل السابع , وبالتالى فان سقوط هذا النظام اصبح مسألة وقت تماما . ولكن عملية تطهير البلاد من العنصرية وخيارات الانفراد بالحكم وتكوين نظام متعدد وحديث ومنفتح والاهم مبنى على القيم الانسانية العليا من حرية وعدالة ومساواة وامن ، هو ما يجب ان تلتف حوله كل القوى الوطنية الحقيقية المتطلعة نحو المستقبل وان تقوم بهذا الدور التاريخى الذى يقرر مصير البلاد ، فاما وطن حقيقى يسع الجميع او تفتت وانهيار . مايقوم به شعب جبال النوبة الان من تضحيات بافضل شبابه ومن شرد من نسائه واطفاله من اجل مستقبل افضل ووطن مستقر هو ما يجعل تلك التضحيات وتلك الارواح التى ذهبت هى دين فى اعناق كل السودانيين الاحرار لا يقبل السداد الا بوطن حر ، خالى من العنصرية والظلم ومتطلع للمستقل . الولاياتالمتحدة ولاية ميسوري