٭ تطرح قضية جبال النوبة أسئلة عديدة وكبيرة بدءاً من دور الدولة المركزي في تصحيح الأوضاع المختلة داخل بنيانها العام، وحتى مسألة طبيعة الصراع الذي يدور في السودان كله بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية. وهناك حقائق مرتبطة بواقع هذا الإقليم يؤدي القفر فوقها أو تبسيطها إلى متاهات الدوران في الحلقات المفرغة التي لا تنتهي. فالحقيقة الأولى هي أن قضية جبال النوبة يتداخل فيها المناطقي مع الثقافي بشكل شديد التعقيد يجعل النظرة الى التنوع وكيفية ادارته، امتحاناً حقيقياً امام أية سلطة وطنية. والحقيقة الثانية هي أن اقليم جبال النوبة مثله مثل سائر اقاليم السودان، قد تشكل ديمغرافياً على خلفية قرون من الحراك السكاني والتدافعات والتداعيات المركزية، جعلته يأخذ صورته الحالية بوصفه إقليماً محورياً ضمن الجغرافيا السودانية قبل قرن تقريباً من استقلال السودان، وهذا يجعل التعامل مع قضية هذا الإقليم باعتباره حالة «متحوصلة» ضمن الجسد السوداني، ضرباً من التضليل أو الخلط المتعمد للأوراق، بل لا يمكن عملياً التأسيس لمعالجة منصفة وحاسمة مثل قضية جبال النوبة دون نظرة أوسع وبأفق وطني متجرد. والحقيقة الثالثة هي أن منطقة جبال النوبة تتساكن فيها جماعات قبلية مشكّلة ومتشابكة ومتداخلة، بحيث يصعب بل يستحيل تفكيك الصلة بينها بوصفها مكوّناً سكانياً لهذا الجزء من السودان. فالجماعات القبلية الموجودة هناك تتناثر بهذه الدرجة أو تلك على طول وعرض الامتداد الجغرافي للإقليم، تحكمها المصلحة المشتركة وسبل كسب العيش والرغبة في التعاون، دون أن تشكل التمايزات الثقافية أى مصدر لإعاقة التفاعل الودي الصفوي الديمقراطي بينها. ومن الخطأ الفادح النظر إلى المجتمع القبلي في الجبال على أنه يتكون من كتل قبلية متجانسة ومنغلقة على نفسها، بحيث تتم قولبتها إجمالاً في المسيرية والحوازمة والنوبة، فالواقع بعيد كل البعد عن هذا التصنيف المبسط لمجتمع جبال النوبة، دون أن يعني ذلك حقيقة وجود مشتركات ذات طبيعة ثقافية أو مصلحية فرضتها الظروف، فالحوازمة على سبيل المثال لا يمثلون قبيلة واحدة «عربية» في المنطقة، وإنما هي تحالف مجموعة قبائل مختلفة موزعة في أنحاء الإقليم المختلفة، وتربط بينها تحالفات قائمة على المصلحة المشتركة ليس أكثر من ذلك، وبذات القدر مجتمع المسيرية الذي ليس هو قبيلة واحدة في منطقة بعينها، وإنما هو شأن أى مجتمع امتداد واسع من الفروع القبلية المتداخلة مع محيطها المناطقي جنوباً وشرقاً بطريقة يصعب معها عزلها بوصفه مجتمعاً منغلقاً على نفسه. والى درجة كبيرة يمكن أن يقال نفس الشيء عن النوبة الذين يمثلون مجموعات قبلية تصل الى عشر مجموعات لكل منها مجموعة فرعية، وتتوزع على كل مساحة الإقليم، وتتفاعل كل مجموعة مع محيطها ونسيجها الاجتماعي على أساس إنساني بحت في شكل تصاهرات وتبادل منافع، أكثر من تفاعلها مع المجموعات البعيدة حتى تلك التي تقع معها ضمن نفس المجموعة اللغوية. والقاسم المشترك الاعظم بين مكونات المجتمع في جبال النوبة هو حالة التخلف الشديد الذي يعيشه الإقليم، بسبب العزلة المركزية لربع قرن قبل الاستقلال واستمرت ايضاً لنصف قرن بعده. هذه عشرات العقود من الأزمان لم توقف تقدم الحياة وعجلة التطور الطبيعي هناك، بل ظلت تدفعها إلى الوراء وتقعد بها بطريقة مؤذية. واذا كانت فترة ما قبل الاستقلال التي اوجدتها الظاهرة الاستعمارية لاهداف تخصها، وهى أهداف مفهومة وواضحة، إلاّ أن استمرار الحال على ما هو عليه بعد الاستقلال لا يمكن تبريره بأى منطق. بل كان الأوجب استهداف هذا الاقليم مركزياً بطريقة ممنهجة بقصد إزالة صورة الواقع المشوه الذي خلفته الظاهرة الاجتماعية، مثله في ذلك مثل الإنقسنا وجنوب السودان على وجه الخصوص، هذا على اعتبار أن هناك اختلالاً مناطقياً في السياسة الاقتصادية، صنف هذه الأقاليم بوصفها أقاليم أكثر تخلفاً من بقية اقاليم السودان إجمالاً، وهذا ما عبر عن نفسه في ظهور حركات مناطقية في تلك الأقاليم بعد ثورة أكتوبر، بسبب غياب شعار التنمية المتوازنة عن الخطاب السياسي في تلك المرحلة. فظهرت جبهة نهضة دارفور، اتحاد أبناء البجا، اتحاد عام جبال النوبة،..الخ الخ. وهذه كانت إشارة واضحة لكيما يتقدم شعار التنمية الجهوية المتوازنة الخطاب السياسي لمرحلة ما بعد الاستقلال، وأن ينظر الى هذه الحركات الاقليمية بما تستحق من مدلولات مهمة. لقد كانت هذه الأشكال عرضة للهجوم السريع بالعنصرية والتعصب، وهو وصف سطحي في أحسن أحواله، فالاختلال التنموي في هذه المناطق بمرور الزمن أفرز اختلالاً اجتماعياً غير مقصود وغير مخطط له قبل نظرية «مثلث حمدي»، وقبل ظهور منبر الظلام العنصري أخيراً من داخل منظومة «الإنقاذ؟!» الحاكمة. وهذا النوع من الاختلالات يولّد أسئلة في ذهن القطاعات القليلة من أبناء هذه المناطق، والذين اتاحت لهم الظروف قدراً من التعليم والمعارف، وهى اسئلة حرجة عن لماذا نحن بالذات؟ وهل هو متعمد أم صدفة؟ وإلى متى سيستمر هذا الحال وهكذا؟! وبالمقابل يواجه هذه الأسئلة عدم اكتراث مركز القرار في الدولة بما يعتمل في أذهان هؤلاء من أسئلة خطيرة ومشروعة، لأنها تنطلق من الحقوق وتبحث عن العدالة، بل الأخطر أن يترسخ في ذهن بعض السذج أو الواهمين من الساسة، أن هذا الوضع وُجد هكذا، ولا مسؤولية لأحد نحوه، وأنه يمكن أن يستمر بذات الكيفية. وبالتالي يتبلور الفعل ورد الفعل عن أزمة حقيقية تعبر عن نفسها بالطريقة التي تسمح بها الظروف. وبدلاً من البحث عن حلول ضمن الماعون الوطني الجامع، يبدأ التفكير في حلول انعزالية تتخطى كل المسلمات والمشتركات، وتلغي حتى الشعور بالانتماء وبالوطن. ويكون المدخل السهل لذلك تناقضات مفتعلة أو وهمية غير مسنودة بواقع. وتعمل على انحراف الصراع من مساره الصحيح.