يا جبل اللي بعيد.. خلفك حبايبنا بتموج متل العيد.. وهمّك متعّبنا اشتقنا عالمواعيد.. بكينا تعذّبنا يا جبل اللي بعيد.. قول لحبايبنا بعدوا الحبايب بَيْعدوا.. بعدوا الحبايب عَ جبل عالي بَيْعدوا.. والقلب دايب بعدوا الحبايب بَيْعدوا.. بَيْعدوا بَيْعدوا وسألت باب الدار.. وين الناس واهل الدار قَلّي الهجر غدّار.. تركوا البيت طفيوا النار شوفي الموائد رَمّدوا.. رمّدوا رمّدوا دبلوا الزهور وبين.. هالسجرات في طيرين عم يسألو لوين.. هالأصحاب راحوا لوين و عَ ليالي حلوة تنهّدوا.. تنهّدوا تنهّدوا قلتلّهم يا مين.. عالحلوين يسأل مين ما تذكّروا تخمين.. صاروا هيك غدّارين مع غيرنا رَح يسعدوا.. يسعدوا يسعدوا كلمات وألحان الأخوين الرحباني وغناء الملهمة بالصوت الناعم فيروز آه من لوعة فراق الأهل والأحباب والأوطان . ما أصعب الغياب الطويل عن الأهل ذوي الوجوه السمر البشوشة برغم الصعاب وعن الأوطان بقراها وبواديها وجبالاً وأنهارا فيها قد عشقناها تجري حرة رغم المتاريس وألاعيب البشر ، ودياراً لنا كانت ديارا الحياة فيها كانت خياراً هو الأجمل عطفاً وحباً وبركةً من معاناة هذا الشتات. آه من لوعة فراق الراحلين عن دنيانا إلى غير رجعة ......تحت الثرى هم حاضرون فى عالم الفناء الأبدى إلى يوم يبعثون قبل سنوات وبعد غياب طويل دام سبعة عشر عاماً شاء الله أن أزور الوطن الصغير بربر. وفي الطريق البري خروجاً من الخرطوم قبل حلول فجر ذلك اليوم صليت لاحقاً صلاة الصبح مع أشقائي د. علي وإسماعيل على أرض أحد الوديان المنبسطة تتخللها بقايا من أعشاب برية ناشفة من ضمنها الساناماكة وشجيرات العشر وبقايا حجارة مرصوصة فى هيئة حيشان وغرف صغيرة متناثرة متفرقة هنا وهناك. عشت معها لحظات من التأمل وسفر خيال زرت فيه تلك الدويرات التى كانت عامرة ببشر ربما لنا بهم صلة دم ورحم منذ غابر السنين . زرتهم ولم أجد أحداً فتساءلت " كيف كانوا هم وكيف عاشو وكيف ولماذا انقرضوا أو رحلوا"؟. فالحياة رحلة وسفر ولكل سفر نهاية حتمية وان طال وقد كان لسفرتنا تلك. ثم واصلنا الرحلة وبعد عشر دقائق تحتم علينا العودة إلي مكان صلاتنا في العراء للبحث عن جوال قائدنا أخى إسماعيل الذي شعر فجأة بفقدانه. كانت الخيارات كلها صعبة لأن بقايا الدويرات والصخور الخراب كلها تتشابه فى هيئتها وتناثرها والوادي نفسه كان سهلاً منبسطاو عريضاً وشارع الأسفلت الذى يشق السهول كالسيف هو فقط المَعْلَمْ والرفيق الوحيد والسلاح ذُو الحدين الذي يعتمد عليه المسافر طيلة الطريق لعدم وجود لافتات إرشادية. بعد جهد جهيد فكرنا في إحتمال سقوط الموبايل عند نقطة صعودنا علي شارع الأسفلت وبمتابعة أثر دواليب ( لساتك) السيارة حصلنا بحمد الله علي الكنز المفقود راقداً علي حافة الطريق وقد نجا من دهس شاحن عابر سبيل! هكذا واصلنا رحلتنا ثم زرنا إهرامات البجراوية وعشنا عندها لواعج الذكري وهجران الأماكن بعد غياب أهلها وساكنيها وتذكرت ديار أمي وأبي مهجورة هناك في بربر تنظر قدومنا. وأي قدوم هو سيكون من دون فرحة والدينا وبالأحضان يضماننا كما كانوا فنشعر ساعتها بنشوة ميلاد جديد، وأي انتظار قدوم سعيد والأحباب من الجيران وخلان الصبا كلهم فى غياب... الكل قد رحل وتدمرت الحيشان والحرازات الكبيرة العتيقة ونخيل الجنائن والبساتين بزروعها وشجيراتها المثمرة التي كانت نعمة وبركة ليس علي الناس فحسب بل حتي علي الطيور الزائرة مهاجرة عندنا من آقاصي أروبا. تواصل السيارة سيرها علي الطريق الأسفلتي الضيق الوحيد المتعرج تصعد وتنزل عابرة التلال والجبال الصغيرة ومن شدة الشوق لكأننا بعجلاتها تؤانسنا قائلة "أبشروا إن وصولكم لدياركم أراه قد قربا". فمديرية نهر النيل غنية بالسهول المسطحة التى تتخللها العديد من كتل الصخور والجبال البركانية السوداء والتي ذكرت فى القرآن الكريم ووصفت ب"غرابيب سود"، كما توجد أيضاً الجبال الترسبية والكثبان الرملية التي للأسف كادت تغطي منطقة آثار البجراوية كلها التي لا تجد أي اهتمام من جميع الحكومات التي مرت حتي هذا اليوم. وصلنا بربر بعد عبورنا دامر "الميدوب" و"اللتبراوي" وأتبرا الحلوة ولكليهما في قلوبنا حباً وأشواق ووشائج أرحام وزملاء دراسة وأسواق كنا نتبادل معها الخيرات، فبربر وأتبرا والدامر في اعتبارنا مثل الشقيقات الثلاث ، حفظهن الله ونرجو من الله لهن التقدم والازدهار والتحضر. كان لأتبرا وبربر قطار خاص مبرمج مرة يقوم نهاية كل أسبوع متحركاً من أتبرأ عصر الخميس وينتهي بالعبيدية ثم يعود مساء الجمعة إلي أتبرأ ويعرف بالمحلي وله محطات وقوف في كل القري تسمي "سندات" . مهمته نقل العمال والموظفين والطلاب إلي ذويهم. بوصولنا بربر بعد ظهر ذلك اليوم كان في انتظارنا الأخ الفاضل المعلم الوقور يوسف علي محمد شبرين ( تخصص وماجستير ) لغة إنجليزية بحفاوة وحب وكرم وأريحية أنستنا تعب السفر وحزننا على عدم وجود أي من أفراد أسرتنا فى ذلك البلد الحبيب . بوصولنا بيتنا الصامد القديم يصعب الحديث عن ذكر المشاعر والشجون التي فاضت عنها بحور من عواطف ونحن نلج حوش دار " غريبة وليست غريبة علينا " وكم قد تمرغنا حباً وصحبة في ترابها.ساعتها وفي حضرة روح الوالدين كانت لنا لحظات سكون وسكوت ومؤانسة ومعانقة وموادعة ودمعات سخينات كان لابد منها أن تسيل برغم جلدنا والكل منا كان يحاول يخفي تأثر نفسه. لا أنسي البرنامج الحافل الذي رتبه لنا الأستاذ يوسف بمساعدة ربعه الكريم من أبناء بربر المحترمين وأعضاء المنتدى الثقافي النشطين وكذلك أساتذة وطلاب مدرسة بربر الثانوية ( مدرستي الحبيبة) ومستشفي بربر العريق وكرم وإكرام الشيخ البدري عبدالله متعه الله بالصحة والعافية وجامعته الناهضة بقوة، كلها إشراقات خففت علينا من أسي ذكري فراق الوالدين والأهل الذين رحلوا والديار التي تدمرت بفعل الهجران وعامل تغلبات الطبيعة والزمن. بهذه المناسبة قبل عام وفي شهر فبراير 2018 نفقد وتفقد بربر كلها ومنتداها الثقافي والزاوية التيجانية الأخ الحبيب طيب الذكر الأستاذ المربي القدوة الحسنة يوسف على محمد شبرين . ودع سريعاً هكذا الدنيا الفانية لكن ما أجمله من وداع يُتمنى كان في ساعة صفاء وهو طاهر البدن والثياب والقلب والنفس وهو يردد عصر جمعة مباركة " لا إله إلا الله .... لا إله إلا الله " ذكر التيجانية المعروف الذي ينتهي هكذا عصر كل جمعة وهم ينتظرون مغيب الشمس. فتصعد الروح الطاهرة تعطر السموات وآخر كلمات صاحبها كانت "لا إله إلا الله"... ما هي إلا "كرامة" وإكرام لهذا الأستاذ الطيب الخيِّر الوقور وبشارة بحسن الخاتمة. تغمده الله بواسع رحمته وأن يجعل الفردوس الأعلي مسكنه والبركة في ذريته وستبقى ذكراه العطرة روح وريحان تعطر جوانحنا. وهكذا أقول "يالبلد" البعيد هناك تحت ترابك يرقد كل حبايبنا .... ربي أرحمهم عبدالمنعم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.