"السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها" هي كلمة حكيمة قرأتها للكاتب والمفكر الايرلندي جورج برنادشو، ولكنني، ولحدة البصيرة والذكاء فيها، رحت اتأملها، وأعرضها على الواقع لأتحرى مدى تطابقها معه، وخلصت في نهاية الأمر إلى أنها لا تتطابق مع الواقع فحسب، بل وتكاد تكون مفتاحاً ، لا لتشخيص الكثير من أوجه القصور في واقعنا فقط، بل ومفتاحاً أيضاً لعلاجها. فالسلطة، أياً كان شكلها ونوعها ومداها هي عبارة عن "قوة" غير مجسدة، أو بمعنى آخر غير متعينة. وهي في ذلك مثلها الطاقة النووية ، أو الطاقة الكهربائية، تملك قوة التأثير الكبيرة لمن يتعامل معها أو يتعرض لتأثيراتها، ولكنها هي في ذاتها لا تملك "إرادة" الفعل، وإنما يملك الإرادة والقدرة على ذلك من يتحكم فيها، فالطاقة النووية نستطيع أن نوجهها لما فيه الخير إذا وجهناها لإنارة المدن والقرى وتشغيل المصانع على سبيل المثال، ولكننا أيضاً نستطيع أن نجعل منها أداة دمار شامل نبيد بها الأحياء والأشياء. كذلك هي السلطة، هي قوة، محايدة، لا تملك الارادة لتوجيه نفسها وتوظيف قواها ذاتيا ولا تملك رأياً تعبر عنه حول ما ينبغي أو لا ينبغي أن تفعله أو يُفعل بها، هي قوة تستطيع أن تكون في خير مصالح العباد إذا ما أحسن من بيده مفتاحها ومقاليد استخدامها وسخرها في هذا الاتجاه، اتجاه الخير كما يمكن أن تكون وبالاً وشراً مستطيراً إذا ما أساء استخدامها، ووفق هذا المعيار: معيار استخدام السلطة نحكم على المسؤول الذي يملك هذه القوة، استحساناً أو استهجاناً، تبرئة أو تجريماً. فإذا رأيت مسؤولاً ، مهما كانت درجته الوظيفية يسخِّر السلطة التي أوكلت إليه، كأمانة، ويستغلها لقضاء حوائجه الشخصية .. أو يسئ استخدامها للإضرار بمصالح العباد .. أو يهمل مدى قوة تأثيرها .. أو أن يسخرها لخدمة المقربين منه ..الخ من أوجه خيانة أمانة استخدامها فيما أوكلت إليه قوتها، فأعلم بأنه إنما يفسد هذه السلطة البريئة من وزر أعماله. ويقولون لك بعد ذلك بأن السلطة هي التي تفسد الرجال!. فهل في هذا القول ثمة تبرير مبطن لتبرئة المفسد وإبراء ذمته من شر أعماله، بإلصاق التهمة وإلقاء اللوم على السلطة التي لا حول لها ولا قوة على الفعل الارادي؟!. (2) بعض القراء العرب المسلمين ممن تسيطر عليهم العاطفة الدينية كتبوا يقولون عندما كتبت قبل ست سنوات عن رئيس أوروغواي خوسيه موخيكا، الذي كان يتقاضى راتباً شهرياً وقدره 12 ألفا و500 دولار ، ويعيش منذ بداية شهر مارس/آذار 2010 في بيت ريفي مع زوجته لوسيا توبولانسكي، وهي عضو في مجلس الشيوخ، كان يتبرع ب 90% من راتبه لصالح الأعمال الخيرية ويحتفظ لنفسه بمبلغ 1250 دولارا فقط، وهو يقول إن المبلغ الذي يتركه لنفسه يكفيه ليعيش حياة كريمة، بل هو يعتقد بأن هذا المبلغ "يجب" أن يكفيه ، خاصة وأن العديد من أفراد شعبه يعيشون بأقل من ذلك بكثير. وتفعل الشيء نفسه زوجة هذا الرجل، فهي الأخرى تتبرع بجزء من راتبها. وبالطبع لا تستطيع أن تمنع ذهنك إذا ما هو اتجه نحو المقارنة بين هذا الرئيس ورئيسنا البشير أو غيره من الرؤساء العرب ممن كشفت ثورات الربيع العربي المغدورة مبلغ ما نهبوه وخزِّنوه في المصارف الأجنبية، أو في خزائن منازلهم، من أموال شعوبهم التي ترزح جريحة تحت خط الفقر والفاقة، والحرمان من أبسط مقومات الحياة، التي تتمتع بأضعافها المضاعفة حيوانات دول العالم الأول والثاني. كتب بعض القراء ممن تدفعهم عاطفتهم الدينية إلى تزكية "اسلامهم" بطرق فيها من السذاجة والمغالطة، والتي هي دافعها الخوف أكثر مما فيها من العقلانية والحكمة والذكاء. مثل أولئك الذين يقولون لك بأن الإسلام عرَّف الذرة قبل أن يتوصل إليها العلماء في القرن العشرين مستدلين بالآية "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، ويقودهم مثل هذا المنطق إلى مغالطات وأخطاء علمية فادحة مثل ما روي عن حديث الذبابة. كتب هذا النوع من الأتقياء تعليقاً على المقالة تلك يقولون بأن رئيس الأوروغواي إنما يجسد بسلوكه هذا القيم الإسلامية الصحيحة، ويطبق الإسلام في نفسه وباختياره، دون وعي، مستذكرين ومستحضرين سيرة الفاروق ابن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، بل دعا بعضهم أن يهديه الله إلى الإسلام ليدخله الجنة!!. وكأنما النطق بالشهادتين كاف وحده ليصبح المرء زاهداً وقنوعا وأميناً !. ورداً على هؤلاء سألت: إلى أي دين إذن ينتمي صحابة أجلاء آخرون مثل الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) الذي روي عنه قوله "لقد رأيتني مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع ،وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار" ؟. أو أبي هريرة (رضي الله عنه) الذي ولاه عمر بن الخطاب على البحرين التي كانت غنية ،سنة 20ه ، وعزله بعد ذلك لما بلغه عنه ما يخل بأمانته، وولىّ مكانه عثمان بن أبي العاص، بعد أن وجد عند الأول لبيت المال أربعمائة ألف دينار، ومبلغ عشرين ألف دينار خاصة به، ولما سأله من أين له هذا المبلغ رد قائلاً : كنت أتجر، فأمره بأخذ رأس ماله والبالغ عشرون ألف دينار، ورد الباقي لبيت مال المسلمين!. أو لم يكونوا صحابة ؟. أم أن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) الذي أطلق يد أقرباؤه من بني أمية في السلطة والثروة فاغتنوا وأفسدوا، رافضاً احتجاج المسلمين ومطالبتهم له بإقالتهم من مراكز السلطة، لكنه آثر الانحياز للمفسدين، فقتله المسلمون بعد أن اتهموه بالكفر ورفضوا دفنه في مقابر المسلمين ودفن في مقابر الكفار ولم يمشي في جنازته إلا أولاده الثلاثة، ألم يكن ثالث الخلفاء الراشدين ؟!. مقابل هذا نجد سلمان الفارسي الذي دخل عليه قوم وهو أمير على المدائن حينها، فوجدوه يعمل على الخوص، فقيل له: لِم تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك الرزق؟ فقال لهم: إني أحب أن آكل من عمل يدي، فقد كان (رضوان الله عليه) يشتري خوصاً بدرهم فيعمله ويبيعه بثلاثة دراهم ينفق درهماً ويتصدق بدرهمين، رغم أن راتبه كان خمسة آلاف دينار، إلا أنه كان يتصدق بها جميعا ويأكل من عمل يديه!. وبلغ من إكبار الفاروق له، انه زار المدينة أثناء ولايته فجمع عمر الصحابة وقال لهم : هيا بنا لاستقبال سلمان. ولم يفعل ذلك لغيره . هذا صحابيّ أيضاً مثل أولئك، كما وإنه غير عربي، أو قرشيٌّ بين العرب. فالمسألة إذن ليست ما يدين به المرء من دين!. (3) وإذن ليس للفساد دين أو جنس، كما وليس للنزاهة وعفة النفس وطهارة اليد دين أو جنس، هذه صفات إنسانية، يكتسبها الإنسان بفعل مؤثرات وعوامل بعضها تربوي أسري، وبعضها نفسي، وبعضها اجتماعي، وكل واحدة من هذه المؤثرات والعوامل يمكن تقصيها. وأنت لا يمكن أن تقطع ضربة لازب بأمانة شخص ما لمجرد أنه يصلي الفروض الخمس في المسجد، أو لأنه بين الكلمة والكلمة يردد مفردات ايمانية أو تعبدية، دع عنك أن يكون شاغل منصبٍ ديني، طالما أنت تعرف أنه بين صحابة رسول الله كان هناك المفسد والذي لا يخاف الله في أموال المسلمين، فهم بشر وليسوا ملائكة في نهاية الأمر. وإذا أردت أن ترى عاقبة الفساد رأي العين فأنظر إلى السودان، بلد حباه الله بكل الخيرات من مصادر الثروة الطبيعية، متجددة وغير متجددة، ما الذي عند أغنى الدول مما نفتقر إليه؟. فما الذي يجعل الانسان السوداني يرزح تحت كل هذا الفقر والجوع والمرض والجهل والأمية؟. إنه الفساد الذي يجعل الشاب السوداني يولي هارباً بجلده من وطنه ليموت غرقاً في البحر الأبيض، أو على الحدود المصرية/ الإسرائلية، أو أن يتحول إلى سلعة في سوق الرقيق الليبي، أو أن يتعرض للإذلال وامتهان الكرامة في الأردن ومصر وغيرها دول "الأشقاء" العرب. هو الفساد الذي يجعل من أغنى كيانات العالم الأكثر فقراً. الفساد الذي يحوّل الجنة إلى جحيم. ليست السلطة هي الفاسدة وليست هي المفسدة، ولكنهم الفاسدين هم من يفسدون السلطة ويلوثونها. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.