تهينُو هانة... من المَهانة، تقُولُّو: تَك! اشتهر كلبُ طيفورٍ، أُعجُوبةُ الحي، بالمسكنةِ وضَآلة الشأن. و ساعد هزالُه و امتلاءُ جلده بالقُراد و التقرُّحات، الناسَ، على التمادي في اضطهاده، و طرده من حيثما وجدوه، و قذفه بالحجارة ،أو ضربه بالعصي كلما اقترب هو من مرمى تلك الحجارة أو العصي. و قد لاحظ الجميع، بأن كلب طيفور، على العكس من جميع الكلاب التي عرفها الحي، ينام الليل و يظل مستيقظاً في النهار، حينَ لا يحتاج ليقظته أحد. و في الآونة الأخيرة، لم يعد يُسمع له نباحٌ... كان يهْوَى ملاحقة المَعِيز و الحيواناتِ الداجنة، و أغلب الظن أنه كان يستهدف مُلاطفتها و مُمازحتها، و لكن كان ذلك يُعرِّضهُ، من حيثُ يدري و لا يدري، للمزيد من الذِّلة والهانة، ويجد كارهوه في تلك الهواية من ملاحقة داجنات الحي، سبباً كافياً و عذراً إضافيّاً لإنزال عقوبات لن يفهم دوافعها الكلبُ إلى أبد الآبدين. وأدمن كلبُ طيفور الرُقاد في الأماكن الرطبة، و على حواف طين مياه البالوعات... في جميع أوقات اليوم... و لكن، كان كلُّ من ضبطه مُسترخياً، أقضّ عليه مضجعه و طرده من اللامكان إلى لا مكانٍ آخر... و كان هو يستجيب بتؤدة لتلك العدوانيات، ويتمطى بجسده الهزيل وعيونه المحمرة و أرجله الرَّاجفة، و يتلفَّت حوله لاختيار مستقرٍ جديد له... لا يلبث أن يُطرد منه مرّة أُخرى، بعد وقتٍ وجيز. و ظل، ومنذ أمدٍ بعيد، يقتات من أكوام القُمامة المُتناثرة في أرجاءِ الحي. ومع أن الناس عرفوه بأنه (كلب طيفُور)، و نسبوه للرجل الذي كانت تميزه، بشكلٍ مُلفت و ظاهر، حدة الطبع و العدوانيَّة، إلا إن طيفورًا لم يُر و لا مرةً واحدة وهو يعتني بالكلب أو يطعمه، ولم يبد رأفة أو يغدق عطفاً عليه في أي يوم من الأيّام، و لو عن طريق الادعاء، أو لأجل نيل الأجر، المُستحَق، في الأكباد الرَّطِبة. لقد كان من غير الطبيعي، إذن، أن يظل كلب طيفور على قيد الحياة حتى الآن، و أن يعمَّر أكثر من رفاقه، رغم الجوع و المسغبة والإهمال الذي أحاط به من كل جانب، و الاستهداف الذي كان يبلغ أشده آوان حملات مكافحة الكلاب الضالة حيثُ يشهر (كتّال الكلاب) بُندقيَّة الصيد من طراز (أب عشرة)... لكن، يبدو أن كلبَ طيفُورٍ كان بسبعِ أرواحٍ: فعلاً! في غفلة من الزمن و الناس، ضاجع كلب طيفور (فُلّة)، و برغم أن الواقعة جرت في غياب الرقباء و الشهود، إلا أن الجراء الصغيرة كانت تشبه أباها، بحيثُ لن يختلف اثنان أو تنتطحعنزان على أن تلك الجراء أتت من صلبِ كلبِ طيفُور، و تخاطفها الناسُ في الحي، ليس حبَّاً في طيفور و ميراثه الذي انتقل من حيث الملامِح و الصِّفات لتلك الجراء اليافعة... و إنما رغبةً في الاحتفاظ بنسل الكلبة المُدللة فُلَّة ذات الصُّوف الغزير و الجسم الممتليء التي ورثته أغلب الظن من أحد أجدادها من سلالة الهاونْد الشهيرة... و لكن فُلَّة لم تعرهُ اهتماماً مرَّةً أُخرى، و لم تسمح له بالاقتراب منها بعد تلك المُضاجعة المثمرة، التي ظلت و لا تزال بطولته الوحيدة، منذ أن وجده الناس في الحي أول مرة... و حتى الآن. لو نظر أهل الحي لكلب طيفور بعين التفكُّرِ و الاعتبار، و حاولوا إنصافه، لرأوا فيه مُلخصاً لحالِ و مآل الحي بأكمله و أهله أجمعين، كما قال نبيل عبد الغني: - حال كلب طيفور يشبه حال الحي كله و أهله أجمعين... فقد كانت أسوار البيوت المهلهلة، تسترُ فقراً و مرضاً و جهالة... كانت الشوارع أكثر جرأة في إبدائها و أكثر صراحة في الإعلان عنها و التصريح بها... لأن الناس في بلدي لا تعنيهم أسرار الشوارع. و كان هذا ما استنبطته مسز أليسون عندما زارت إحدى الأسر التي كانت تجاور طيفُوراً في الحي... كانت الخواجيّة سعيدة بولوجها ذلك الحي العريق، و لعلها قد رأت فيه دلالةواضحة على أحوال البلد و مؤشراً دقيقاً على موقعه من خط الفقر... و لكن، هالها منظرُ كلبِ طيفُورٍ رغم اتفاقه مع مجمل مظاهر جدب وبؤس الحي، فصاحت عندما رأته: - Oh! My god… وأقبلت على الكلب تحتضنه رغم اتساخه، و رغم القروح و القُراد الذي كان يُغطي جلده كله... وكأنما شعر الكلب بتلك النعمة التي هبطت عليه فجأة من السماء، وذاك الحنُوِّ الدَّافِق التيغمرته به و أفاضتهعليه الملاكُ الزائر (مِسِزْ أليسون)، فقد أصدر (كلبُ طيفورٍ) أصواتاً، وهو في أحضان الخواجيّة، كانت أقرب إلى النواح منها إلى النباح، كأنه كان يشكو لها الحال بعبراتهِ و تَحَمْحُمهِ... وساللعابه برائحته الكريهة وبلل فستان أليسون، إلا أنها، لولوعها الشديد بالكلاب، و عاطفتها الدافقة نحوها، لم تشعر بذلك، أو قُلْ: - لم تعره اهتماماً... لا أدري السبب المُحدد الذي جعل مسز أليسون تختارني وصياً على الكلب الذي استقل في ذلك اليوم عن طيفور وصار اسمه (جيمس) حسب مبادرة أليسون... و أعطتني الخواجيَّة من شنطةٍ كانت موضوعة بحقيبةِ سيارتها، أكياساً صغيرة لبودرة زكيّة الرائحة، ووصفت لي كيف أمسحها في جلد الكلب... يوميّاً،وبحذر بحيث أتفادى مواطن القُرُوح... و غادرت بعد أن أشرفت على حمّام الكلب جيمس بنفسها... و غمزت لي، وهي تودع الجميع، قائلةً بالإنجليزيّة فيما فهمت منه: - جيمس أمانة في عنقك ما دام على قيد الحياة... ورغم أنه يمكنني القول بأنني حملت الأمانةَ وأوفيت بها، على صعوبتها بقدرٍ كبير... إلا أنني لم أشعر بأية عاطفة تجاه كلب طيفور (جيمس)... ولا فُلَّة ولا جرائها... ولا كلِّ جنسِ الكلاب و أبناء الكلاب، إلى يومنا هذا! لقد أثمرت عنايتي بكلب طيفور، بعد حين، تحسنًا في صحته العامة، و لمعانًا في شعره وعينيه، و شفي من أغلب القروح و زال عنه القراد، و كأنما أدرك جيمس وضعه الجديد، فقد بات يتجنب الأكل من أكياس القمامة و الرقاد في حواف ترع بالوعات الحي... و انتقل سلوكُه تدريجيَّاً ليحاكي سُلُوك الكلاب المعتاد، فصار ينام النهارات و يجُوبُ الحي في الأمسياتِ و أنصاص الليالي... و قلَّت مُطاردة أهلِ الحي له بالحجارةِ و العكاكيز، و خفَّت حِدةُ العدوانيات تجاههُ و انحسرت نظرات الاضطهاد التي كان يرمقه بها جميع قاطني الحي، اللهم إلا القلَّة التي لم تضع للنقلة النوعية و الطفرة الكبيرة في صحة و مظهر جيمس أي اعتبار، و كان من بين أولئك القلة الشيخ النذير إمام المسجد، الذي كان ولا يزال لا يتحمل اقتراب الكلب منه، أو حتى الوجود في مرمى بصره، و لو من بعيد، و كان كلما يراه: حوقل و بسمل و لعن الشيطان، مُردداً في كل مرة: - غور يا الملعون... الله لا يطرح في جلدك بركة! وشاركه معظم أطفال الحي في شعوره بالنفور و التطير من كلب طيفور، فتراهم يصيحون: - كلباً كلبك، دنقر راسك و ارفع ضنبك! وما أن يسمع أحد أفراد الحي أهزوجة الأطفال تلك، حتى يتيقن إن كلب طيفور في الجوار، أو على: مرمى حجر! لم و لن تشفع له رعايتي الناجحة و لا وصية مسز أليسون، الخواجيّة الرؤوفة، التي أرسلتها وسط جمع أهل الحي: على رُؤوسِ الأشهاد! و في زيارتها الثانية للحي سألت عن كلب طيفور بالإسم، و عندما رأته، أقبلت عليه و عانقته كمن يعانق صديقاً حميماً، و قالت و هي تربت على ظهر الكلب: - Well-done! و مرَّة أُخرى أشرفت على تحميمه ولكن هذه المرّة: بالصابون المُعطر، و أعطتني كرتونتين من طعام الكلاب المُعلَّب، قالت أن الكلب سيستمتع بإلتهامه، حتماً! و أعطتني قلادة و سلسل، لأربط بهما الكلب حين أصحبه في جولات العصاري، فيما يشبه التكليف و الحض على رعاية جيمس وفق الأصول و الأسس المرعية في مجال رعاية الكلاب. و تمادت في التعبير عن مشاعرها تجاه جيمس، فقبلته، الشيء الذي تسبب لشيخ النذير بحالة من الغثيان أدت به لأفراغ إمعاءه أمام الحشود التي اصطفت لرؤية الخواجيّة المنصرفة كلياً للاهتمام بالكلب. وقد هرع البعض لمساعدة شيخ النذير، أمّا الخواجية فقد واصلت في مداعبتها للكلب، و لم تلتفت للنذير و لم تأبه لعلته الصحيّة المُفاجئة...فهمهم الشيخ الغارق في مصابه؛ دون أن يدري أنها تخفي اجادتها للعاميّة السودانيّة، وقدرتها على فهمِ ما يُقال : - غُوري يا الملعونة، الله لا طرح في خلقتك بركة! و لكن إنتبهت مسز أليسون عندما تلا شيخ النذير آيةً من الذكر الحكيم*: - (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا). و سألت نبيل عبد الغني: - ما هذا؟ ماذا يقُول هذا الرجل؟ - إنه يتلو آيات من القرآن الكريم... و دار حوار جانبي سريع و قصير، بين مسز أليسون و نبيل، عن القرآن... طلبت بعده مسز أليسون تسجيلاً كاملاً ومرتَّلاً لسورة الكهف، و وعدها أستاذ نبيل بتحضير التسجيل لها في زياراتها القادمة للحي، ذلك إن تعذَر إرساله لها حيثُ تقيم. و قبل إن تودِّع الحُضُورَ، بحثت مسز أليسون عَنِّي وسط الجُمُوع، و بانت عليها معالمُ الفرح و البشاشة حين رأتني، فأقبلت عليَّ و وضعت يدها على كتفي، دون أن تنتبه لأن هذه اليد هي التي ربتت على ظهر (كلب طيفُور) قبل قليل، و قالت بالعربية الركيكة: - يجب أن نحمي جيمس من حملات كتال الكلاب الراتبة، و عليك أنت بالذات أن تكمل جميلك و تفعل ذلك، و تقوم بالإجراءات الضروريّة اللازمة لذلك. و دسَّت في يدى ورقة نقد من فئة المائة دولار... و بررت فعلتها باحتياجي لدفع رسوم البطري و تراخيص السلطات البلديّة. و إن قذفت بك الأقدار لزيارة حينا القديم، فأنك ستجد معالمه جميعاً في ثبات، هي هي... لا تتغير، و لكنك لن تتعرف على كلب طيفور بالسهولة ذاتها التي تعرفت بها على باقي المعالم... لأن (كلبَ طيفُورٍ) صار، الآن، من أعيان كلاب الحي. *الكهف-22. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.