الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أبِشْري يا رَابْحة! .. حكاية من البلد في يوم المرأة .. بقلم: بَلّه البَكْري
نشر في سودانيل يوم 09 - 03 - 2019


الإهداء
أوّلاً:
الى كُلِّ زَهْرة وبدور وزينب و ولُبنى وأميرة وسميرة؛ الى كلِّ مِيري ومريم واستيلا وأشول والتّاية وشادية ومَهَا والبتول؛ الى كل أماني وتهاني ورامية وسامية وسميّة؛ الى كُلِّ سماح ورابحة ورباح وصباح؛ الى كلّ أمل وآمال وسارّة وهاجر وريم وريماز ونسرين وسلوى وسلمى واحلام وإيمان واسلام؛ الى كلِّ فدوى ونجوى وشذى ووفاق ؛ الى كلِّ رندة وبهجة وعَازّة وهند وسوسن وسواكن وست النفر ونعمات؛ الى كلّ آمنة وفاطمة وعاشّة ووداد وأسماء وشيماء وليماء ووفاء وآية وعناية ودُعاء؛ الى كلِّ ملاذ وسلافة وعَنْوَة وعُناب ورقيّة وبدرية وعوضية وفتحيّة وعديلة وجميلة؛ الى كلِّ شريفة ومدينة وعالية وصالحة وماجدة وخالدة. الى كلِّ زهرات بلادي في كل الأجيال بكل ما تحمل اسماؤهن من عزة وفخار وعفاف وشموخ. التحية والإجلال والمجد والخلود لكنَّ أجمعين وأنتن في مقدمة الركب تصارعن الغول وأزلامه. وابشرن بالخير وبالنصر الذي اقترب موعده. فبدلا من أن يقدموا لكن الورود في يوم العيد يمطرون تجمعكن السلمي المتحضر بالغازات السامة وبالرصاص. يا لسقوط هؤلاء. فالسودان الذي نعرفه برئٌ من أفعالهم..
ثانياً: (منقول من أوراق قديمة)
" التحية والإجلال للأستاذة زينب بدرالدين. فبمثل فعلها الشجاع هذا يتم التغيير. الحرية التامة لمحمد صلاح عبدالرحمن ورفاقة - حرية غير مشروطة؛ فالتعبير السياسي حق مكفول لكل شخص بالدستور والذي هو (القانون الأساسي) وهذه مهمة لكي لا يتطاولوا عليه بأي قانون آخر فرعي. كم يعصرنا الحزن على شبابنا والذين يختطفهم هذا الجهاز الفاشي ويعذبهم بل ويقتل بعضهم ولا يحرك الناس ساكنا. ما يتعرض له السودانيون والسودانيات من إذلال وإهانة وتشريد وتقتيل يفوق الخيال. وهناك قصة مشابهة بطلتها امرأة أيضا اشرت
اليها في نصرة أميرة عثمان حامد. فقبلها بحوالي ستين عاما رفضت روزا بارك السوداء في بلدها امريكا الذي كان يرزح تحت قوانين التفرقة العنصرية ان تترك مقعدها في البص لرجل ابيض فاشعلت بذلك الفعل الجرئ شرارة ثورة الحقوق المدنية في امريكا. تغير القانون وتساوى الناس امامه. واليوم يحكم امريكا رجل اسود ما كان له ان يحكم لولا فعل روزا. من كان يظن ان هذا يمكن ان يحدث؟! سيثمر موقفك الشجاع، يا زينب، طال الزمن ام قصر. وسيأتي من يكتب اسمك باحرف من نور كما اكتب انا هنا عن روزا بارك التي لم ارها في حياتي ولم تسمع هي بي. هكذا يكون التصدي للظلم وكسر شوكته! وفي مثل سموك وشجاعتك يا زينب يقول أهلنا في الريف " إن شاء الله بتي وأعْقِر عليكي"! انتهى
أبِشري با رابحة
هذه الحكاية كما تحكيها حبوبة هي عن وقائع قصة حقيقية رغم ما طرأ على اسماء بعض أبطالها من تغيير بفعل الوقت . جاءت القصة على لسان جدتها لأبيها رابحة الجِرِتْليّة. إنها قطعا هي من حكى لها تلك الحكاية عندما كانت حبوبة في عمر يماثل عمرنا وقتذاك. لابد أن الجِرِتلية ولدت قبل ما يقارب المائتين عاما أو تزيد.
كنتُ صغيرا في ذلك الوقت؛ في الخامسة أو السادسة من عمري لا أدري على وجه الدقة. في داخل دار حبوبة أذكر دائما رائحة السَمِن والفُرصَة وشِواء البطيخ السَبَلي والفريك، في الخريف، تعبق المكان وتسكن في ذاكرتي الى الآن. هناك دائما بواقي البجبجي وأم تكتلني وعصيدة الدخن في ركن التكل. وفي خارج الدار في زريبة العَجُّور الملتصقة بها تحاصرك روائح الجَّرْ والقُطران والقَرَض والشرموط المشرور في حبل الماشَرُوْ مخلوطة بروائح روث البقر وبعر الحمير. أكوامٌ من قَنْقَر الماريق والزناري منثورة يإهمال على جانب ودَامِرْقُو مشرور في بِرِش كبشور في حر القايلة في منتصف المكان. أكوامٌ أخرى من الحنظل والعَلَج هنا وهناك؛ بعضها مقطّع ومنثور على برش ليجف وبعضها في الحر ينتظر التقطيع لإطعام الغنم والحمير. وعلى البعد، خارج الزريبة، تأتيك روائح الفَطِيريّة يحملها الهَمْبَريب من عدة جهات. لابد أن إحدى جارات حبوبة تجهِّز لِبُوش كبير وتعد له العدة سيعلن عنه قريبا. كانت دار حبوبة هي قلعة الأمان؛ نحتمي فيها جميعا هروبا من الحر أو اختباءا من مراسيل الكبار الكثيرة. أما مراسيل حبوبة فكانت بأجرِ مما يجعلها في عداد المحبوب من الشأن. كانت تبدأها بأهزوجة لطيفة تقول كلماتها: بَلُولة/ بلولة بلولة/ جِدِيْ أم شُورة/ اللقى الوَطَا (الأرض) ممطورة. وتعقبها بالوعد بالأجر: "تعال نَكْريك يا الفنجري ونرسلك لدكان حاج أحمد". ويكون الأجر غالبا جيبا يملأ بالتمر أو الفول.
كانت حبوبة ميسورة بمقاييس أهل البلد، بل لعلها كانت في عداد الأغنياء وقتذاك. فقد ترك لها جدي الشيخ أراضي زراعية شاسعة. امتدت أراضيها في الفضوة ودرب الكَدُوب والوادي الصعيدي جنوبا. ومن وادي حَمَد غربا إلى وادي نور الله وحدود الشعاطيط والسلمانية والنفيعاب شرقا. ولها أراضي في وادي وِلاد جابر والدُّومَة شمالا. كان لها أنعامٌ يقوم عليها رهطٌ من المعاونين يحجرون المُشرَع تماما الي صدر الضحى في يوم الضِّما وهم يسقونها بالدلو والبكّارية التي يجرها "مَلُولَح" جمل جدي الذي تركه مع بقية النعم بعد موته. كان كبيرهم "عم خُوجال" يترنم بحداء لطيف في الفجر وهو يتناول رشاء المَخُو المعلق على شِعبة في مدخل الزريبة وهو في طريقه للبئر. يٌسمع حداؤه دائما في نفس الوقت كل يوم ضِما وهي ينوني مرددا مقطعا من بيتين: السَخَلِي أم عاج منِدُوكِرها / وبالكُرباج مندوكرها. وأحيانا يتغير اللحن قليلا الى لحن حفظنا كلماته عن ظهر قلب يُرَدد عم خوجال دائما مع رنات الزُمّارة تقول كلماته: يا بَراقَة الزول زولنا / ومن قديم الزول زولنا / وحَاتْ أبٌوي الزول زولنا. وقد جاء في شرح هذا المقطع الشعري الغزلي الرائع أن إحداهن كانت تعشق فتىً ولكن تأبى بَراقة (كلبة الأسرة) إلا أن تعلن على الملأ مجيئه ليلا حينما تنبح.
كنا بجانب الطعام الشهي ورائحة المكان نحب قصص حبوبة وحكاويها. كانت تشحذ ذهني وتطلق خيالي الى آفاق بعيدة. ومِن أحبّ قصصها القديمة الي نفسي قصة عرس أبيها سِمَاعِين ود نورالدين على أمها بخيتة بت عركي ود النعيم. لا تفتر حبوبة من تردادها ولا أكاد أشبع أنا من سماعها.
تعشينا في الضراء في ذلك اليوم كالعادة بعد مغيب الشمس بقليل. صلّت حبوبة العِشاء وقرأت أورادها بتمتمة تمضغ فيها الكلمات حتى تضيع معها كلمات الأوراد تماما. ثم جلستْ على تبروقة عتيقة أقرب في صنعها الى الشُكّابة منها الى فصيلة البروش. كان ذلك المجلس هو مكانها المفضل في الأمسيات. تجلس هناك كل مساء. في يدها سوط من المَرِخ الليّن تهش به الدجاج الذي يأتي بالقرب من برشها الكبشور المهترئ من وقت لآخر. تربعتْ حبوبة في مجلسها. تنحنحتْ. ونظرتْ الى وجهي الصغير وأنا أجلس أمامها في شوق. و بدأت الحكاية موجهة حديثها لي وكأنها تحكى الحكاية لأول مرة:
- رَسَّلتْ حبوبتك رابحة الجِرِتْليّة أبو عيالها يخطب ليها بخيتة بت عركي لولدها سماعين. واسمع نكلمك: بخيتة بت عركي ترا بت ناسا عزاااز بالحيل. العمراب ناس المختاري وجِلْد الفيل ولاد علي. كانوا في بكانهم هِنِي. هِني. في الدار القديمي. دار الهِجْليج. كنّو حبوبتك بتدور بخيتة عروس لولدها سماعين. سار جدك أقْرُوب شايل عصاته في كتفه. ينوني ساااكت، تاري زولك راقد ليه في راي. كانت المسافة بين الحلتين قريبة بالحيل ما بتدّور ركوب زاملة. نزل ضيف مكرم معزز علي أم فَضَالي بت موسى، أم الخطيبة. وحاتك سلّم عليها وعلى أهلها. نزلوه. وضبحوا ليه. وأكرموه زيين. كانت تربطه بها وبزوجها عركي ود النعيم قرابة رحم. لقاها وِحِيدَها. راجلها كان خَاتِر في الصعيد. زولك أكل وشرب وأكرمته بت موسى. شأن سيدات ذلك الزمن ينبن عن الزوج تماما في كرم الضيف. وسقته الجَبَنَة. وقعدت في البنبر في خشم الراكوبة بحيث يراها بطرف عينه اليسرى. وقالت:
- إن شاء الله خير يا ود أبوي. شن بجيبك حلتنا الليلي؟
- والله جيت كايس لي عروس عندك آ بت عَمِّي.
فقالت بصوت خفيض بعد أن صمتت برهة كأنها حسبت طولها بدقة حتى بدت للسائل كأنها دهرا:
- خير إن شاء الله. عروس كايسّها لي منو في عيالك؟ أحمد ولا سماعين؟
فباغته سؤالها. اضطرب الرجل وتنحنح وجف حلقه. بلع ريقه الذي نشف فجأة. ثم تشجّع وقال لها:
- والله مندورها لي روحي دحين!
وهنا قفزت بت موسى من جلستها في البنبر كمن لدغته عقرب، وكأنها تأمره بالأنصراف. قالت له بصوت قاطع وهي واقفة:
- بَرِيْ وحات أبِويْ إتّ ما منديك بِتّي. داير كنّو تطبق بيها فوق بت عمِّي الجرتليّة؟ حااااشا آ خِيْ. حرمان عَلِيْ. والله الجرتليّة بت أم حُمّد ود خليفة ترا ما المرة البطبقوا فيها يا ود أمي. وكان دي حديثك شوف ليك بكان تاني. غادي غادي.
لم يدر الرجل الكهل أي ورطة أدخل فيها نفسه. نظر إليها بعين كسيرة وشفاهٍ مرتجفة وطلب منها مترجيا أن تنسى طلبه وأن لا تحدث به إنسا أو جنا. قائلا لها:
- طلبتك بالنبي الكلام دي تحفري ليه هِنِي وتدفني في البكان دِيْ. ما تحدثي بيه إنس ولا جن.
لم تقل هي شيئا. ولم ينتظر هو حتى يكمل فنجان القهوة الذي كانت قد صبته له وقد رشف منه رشفة واحدة قبل هذه القنبلة التي انفجرت للتو في وجهه. حتّ التراب من نعليه. ألقاهما أمامه مسافة عود فاس. وخرج مسرعا يطربش النعلات في محاولة لبسها علي عجل وهو لا يلوي علي شئ. يرتكز علي عصاه في المشي فتغوص في الرمل فينتلها نتلا من الغيظ حتى يكاد أن يكسرها الى أن غاب عن بصرها.
مرّت الأيام رتيبة. نسيت حبوبة رابحة الجرتليّة الإهانة التي ظنت أنها تعرضت لها وأسرتها من بت موسى وقومها حين رفضوا ولدها سماعين. وبدأت رحلة البحث عن عروس أخرى لسماعين. فكرت أن تمشي لأولاد سِخِيل في هَجّام جوار بنيّة الشيخ المجذوب. أو دار الجليدات في نواحي المزروب وأم كريدم حيث قومها عيال بلال وشيخهم أُم حُمّد الجِلِيدي. أو المساعيد ناس التلب وبابكر وجمعة ود مسعود في دار صباح في الحُمَرَة وكواية وأم عزيز على مشارف بحر أبيض. إنهم أيضا من تَرَب جدها مسعود ود مُردس ود بَلِّي وأهل أبوها لزم. بل كانت تنوي الذهاب أبعد من ذلك للصَعِيد نواحي كَعابِر وكَدْروكة وكندوة وبريمة النار وخور أم تَقَرقَر. هناك يقطن نفرٌ من قومها الطريفية أيضا. ولم تنس أن تراجع بنات الحي حتى اللائي رفضتهن في السابق وظنت قبلا أنهن لا يصلحن زوجات لسماعين. خاصة وسماعين قد صار شابا بلغ مبلغ الرجال. صار يضرب به المثل في الشجاعة وركوب الإبل وفي الكَرِير في الصَفقة والبُطان. صار اسمه يذكر في الشكرة في أغاني الحسان واللائي يلقبنه ب "الضَيْ". ولكن أين هي العروس التي تليق بمقامه الرفيع. إنه ابن أحد سيدات المجتمع المكرّمات – رابحة الجرتلية بت أُم حُمَّد ود خليفة ود رملي؛ سليل شيوخ لهم صيتٌ في البلد. وفجأة بدأ في الحي همس مفاده أن العمراب في حقيقة الأمر، لم يرفضوا سماعين. بل رفضوا والده. جاء الوالد خاطبا لنفسه وليس لولده! بلغ الخبر رابحة الجرتليّة. أغضبها هذا الفعل. تحققت منه تماما. وعزمت أن يكون ردها شافيا.
كانت الجرتلية سيدة من سيدات قومها وشيخة مَطْريّة تذكر بين القبائل بجاهها وكرمها ومالها. كانت تدعى كالرجال لمجالس الجودية لتدلي برأيها خاصة في الأمور التي فيها قضايا نساء من طلاق وصداق وخلافه. كان لها إرثٌ متصل من مشايخ التنادلة آبائها وأجدادها، جعلها هذا الإرث علي الدوام في عِلية قومها. وفي ذات صباح ودون أن تخبر زوجها أرسلت أحد معاونيها لمراح بقرها في الفَضْوَة. قالت له:
- أمشي للفضوة و أعْزِل من بقري سبعة عجول رباعيات وسوقهن لدار الهجليج مباشرة حيث يقيم أهل بخيتة وقومهم. لاقيني بيهن هناك.
طبقت هي صُرّة من المال. واصطحبت معها مجموعة من النساء ممن هن في مقامها تتقدمهن أم عِزّين الجباديّة بت عمها رَجَب. كانت أم عزين جميلة فارعة الطول وحسنة الصوت في الزغاريد. ويتبع أم عزين رهطٌ من النساء؛ كنّ في ثياب مزركشة يحملن عُمار من البِنُو ورِياك مملوءة بكل ما لذ وطاب تزهو بألوان حمراء فيها من التمر والأرياح المدقوقة ما يشبه الشِيلة. لم تنس أن تغشى في طرف الحلة بيت حسناء أخرى ذات حسب ونسب مثلها، حَدْالزين بت ود حَرّان. كانت حسناء هي الأخرى تلقب ب"فرع بلا شوك" من فرط جمالها الأخاذ. بلغ الخبر بت موسى أن ذلك الرهط من نساء الطريفية تتقدمهن أم عِزِّين ورابحة الجرتلية و"فرع بلا شوك" والزِينة بت ود كُوتَرِي يقصدن بيتها. أستقبلتهن بترحاب وفتحت لهن الدار. إلا أن الجرتلية رفضت الدخول وقالت بإباءٍ وشمم:
- مانا داخلين يا بت عمي كما غرضنا الجايين ليه انقضى.
فقالت بت موسى ولعلها عرفت ما هو الغرض المقصود:
- خير آ بت أبوي. غرضك أنقضى تب. بأذن الله. دحين مديني ياتو في العيال؟
- مديك سماعين
قالت بت موسى:
- حباب سماعين. حباب ضّيْ القبيلي. البتاباه ندماني وحاتِك.
وهنا انطلقت زغرودة أم عزّين تشق عنان السماء: "آيووي، أيووي، آيووووي". وتبعتها زغاريد النساء الأخريات اللائى أتين معها. انتقلت العدوى لنساء حي بت موسى. وفجأة بدأت الإبل تتجمع في سباق عجيب نشأ هكذا بغتة كالإعصار. عم الفرح المكان وتجمع الناس شيبا وشبابا نساء ورجال يباركون الخطبة. وفجأة وقفت الجرتلية وقالت للجمع الغفير بصوت قوي:
- هووي آ قبيلي. هووي آ ناس. أسمعوا هِنِي. إني ما جيت ليْ خطبة. إني رابحة الجرتلبة بت أم حُمّد ود خليفة ود رملي. جيت بي شرطي وبي مالي ودايري نعقد لولدي سماعين على بخيتة بت عركي ود النعيم ود أرباب. كان فيكم رجال بتمّوا الكلام دي يمرقوا لي جا!
اضطرب القوم وشعروا بالتحدي. ومنهم من ساورته شكوك بالإهانة. هاج المكان وماج. انبرى لهم مختار ود البُر. عم بخيتة. كان رجلا حكيما واسع الصدر كثير الثقة بنفسه. فقال للقوم:
- حباب بت ود خليفة. حبابك عشرة يا بت أخوي. أتفضلي.
ثم قال لأحدهم آمراً:
- أجري يا وِلِيد بسرعة ونادي الفكي من بيته
قرأ الفكي مراسيم العقد دون لجج. ناب ود البُر عن العروس ونابت رابحة الجرتلية عن ولدها سماعين. نسي الفكي أن الرجال قوامون على النساء. كانت في السابق من أحب أقواله الدينية إليه؛ ما جلست أمامه امرأة إلا ومحطها بهذا السوط الديني والذي يخفيه تحت فروته على الدوام وكأنه لم يقرأ في كتب الفقه غير الجلد والحط من قدر النساء.
بارك الجمع العقد. دفعت الجرتلية للفكي مبلغا من المال تلقَّفه وأخفاه في قفطانه الأزهري. وأمرت نساءها بالأنصراف والرجوع لدارها بعد أن سلمت أهل العروس العجول الرباعيات: سبعة عجول كصداق ومؤخر صداق ومعهن الصرّة التي فيها المال- سبعة ريال جَيّد. تركت الجرتلية عُمار البِنو والرِيَاك بما حوت ايضا. وعادت لقومها مزهوّة. تتقدمها زغاريد أم عزين وحد الزين وفرع بلا شوك والزينة بت ود كُوتَري. تتبعهن كترابة أرجل الحريم يزفهن الفخر والفرح.
تجمع الناس وهم يتبعون هذه الزفّة السعيدة الي أن وصلوا بيت الجرتليّة. أمرت بالذبائح أن تذبح. وفي الحال تكّوا تور فحل كان مربوط ومعلوف من يوم الضِماء في اليوم السابق ونحروه. نادت علي سماعين أن يتخترى التور تلاتة مرات كما جرت العادة الافريقية القديمة في طقوس متداولة تحت رنين الزغاريد والبَشَر: " أبشر يا سماعين. أبشر بالخير. ابشر يا عريس. أبشر. أبشري يا رابحة. أبشري يا أم العريس". وجاء من الأعمام والعمات من يطلب من سماعين أن يتخترى التور المذبوح مرة تانية وتالتة. في ذلك الفعل طرد للعين والعارض. وفي كل مرة يفعل سماعين ذلك يرن المكان بالزغاريد والبَشَر. أبشر يا سماعين. أبشر بالخير. ابشر يا عريس. أبشر. أبشري يا رابحة.
وفجأة بدأ شَتَم الدلّوكة في النحيب من داخل أحد الحيشان. نادوا علي حكّامة البلد الرَضيّة بت ود الباجة. جلست وتحكّرت وقحّت الدلوكة. ماج المكان بالمُشكار والطرب. هاج العيال وعرضوا في الدلوكة. نقزوا فيها ونقطوا المال في الراقصات. غنت الحكامة في مدح سماعين ما غنت. وسرت عدوى الطرب في المكان. تحلقت حلقة أخرى من النساء أمام أحد الحيشان وبدأن في الغناء علي نغمات أم عزّين في الجراري. ومن يضاهيها فيه. كانت خضراء عديلة، أعدل من خيزرانة، ريّانة على الدوام كعِرق الأرْقَسٍي المسلول لتوه من رملٍ ممطور. أمرأة كاملة من أي زاوية تنظر إليها؛ في بداية العقد الرابع من عمرها تعرف أنها جميله، تراقبها الأعين أينما ذهبت. صفقّت يديها بقوة وصلّ ورنّ عاجها وذهبها والذي تلبسه في مثل هذه المناسبات. صدحت بصوتها الجميل بوصف سماعين وقالت:
سِيد الجُود والشَكَر
برّاق العِينة النَتَر
يا جنا سماعين
تمّ دِينُه وانستر
ففار المكان وتعالت صرخات الاستحسان. وكرّ سماعين علي غناها وحمحم وهو يقود مجموعة من الصبيان يشبكون أيديهم، أحدهم في كتف الآخر. يكروون ويزومون من خلفه كالأسود. يضربون الأرض بأرجلهم التي عليها مراكيب جلد البقر قطع النبيط والذي كان بارعا في صناعة المراكيب. كانت أم عزين تعجب به سِراً. فلما أعجبها كريره خلفت الأغنية بسرعة لتسمعه قولها في جودة كريره فغنت:
الضَيْ دي زولا زين
وفي قلبي رِيدُه دَفِين
كَرِير الدرافين
كركاب مَطَر ياسين
وجاءت كسرة اللحن أجمل من سابقتها في المعنى في قولها:
يا والدة حِنِّي علي
الزول مِسَهِّر بي
جراري ناس الضَيْ
في النوم بزاول لي
وهاج سماعين والذي كان يعرف أنها تعجب به. والكل يعرف أنها تقصده خاصة وهذا يومه. دَبَل سماعين كراعه وكرّر الدَّبل وكأنه ينوى خرق الأرض. تطاير الغبار من تحت رجله اليمنى. وكان يوما مشهودا لا مثيل له. لم تكن هذه المرة الأولى التي أسمع هذه الحكاية من حبوبة ولكنها كانت تشوقني في كل مرة وكأني أسمعها للمرة الأولى..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
/////////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.