جاء الاتفاق بين الثوار الذين مثلتهم "قوى الحرية و التغيير" و المجلس العسكري الانتقالي ممتازا و منحازا انحيازا لا غبش لقضايا التغيير ، و من ثم ممهدا الطريق لقيام الدولة السودانية التي راوغتنا كثيرا منذ الاستقلال في يناير 1956 . حيث ، لأول مرة ، لا يكون للطائفية و المنظومات السياسية الكلاسكية ، باع طويل في حركة الجماهير المتعطشة للانتماء لدولة يفخرون بالاشتراك في قيامها . و كانت هذه الطائفية و المنظومات السياسية الكلاسكية تشكل وجودا قويا عند كل المنعطفات السياسية الكبرى التي مر بها الشعب السوداني . كما كانت الأحزاب العقائدية تنمو مع الطائفية و يتحالفون معها ، و في منحنيات صراعهم يستعينون بالموسسة العسكرية لحسم أيلولة الأمور لهم ، و بالتالي يستمر الاعوجاج في توزيع الثروة و السلطة ، فتفقد الأخيرة حيادها مرة تلو الأخرى . و لذلك ، فإن قيام الثورة الحالية ما هو إلا ترجمة فعلية لغياب الفكرة القومية التي تمثل صمغا وطنيا يجمع كل مكونات الشعب السوداني الكريم ، و هو ما عجزت المنظومة السياسية بشكل عام عن إنتاجه ، و لعل ذلك ما يفسر مغايرة الوعي الذي أنتج الثورة للوعي السياسي السائد عموما و الحاكم خصوصا . و غني عن القول إن الوعي الحاكم يشمل كل المجموعة السياسية التي تنسمت الحكم يوما . على أي حال ، لم يلم بالشعب السوداني نحس أو لعنة أبدية أقعدته عن الانطلاق ، إنما هو ضعف العمل السياسي الذي يطور بدوره المنظومة السياسية لتكون على قدر المسئولية و على التطلعات الطبيعية للشعب السوداني . و بالطبع لاحت فرص عديدة ، أهمها اتفافية نيفاشا 2005 ، التي برغم كلفتها الباهظة فتحت طريقا للنضج السياسي لقيام الدولة السودانية ، و لكن أهدرت لضعف الخيال السياسي و من ثم ضعف العمل السياسي ، حيث لم تر أحزابنا السياسية في الاتفاقية سوى شوك ثنائيتها التي فرضها الواقع حينها ، و عميت أن ترى ندى إمكانات قيام الدولة السوية المدفونة فيها . حيث وفرت تلك الاتفاقية فضاء سياسيا رحبا لتغيير تركيبة المتصل السياسي و الاجتماعي ، إذ إنها أحدثت هزة زلزالية في رواسخ السياسة السودانية . و عندي ، أنه بغير هذه الهزة لا يكون قيام دولة محترمة في أرض السودان ممكنا . و شاء الشعب السوداني أن يقوم بثورته الديسمبرية التي كلفت أرواحا و دموعا ، كنت و ما أزال أستكثرها على عملية التغيير ، فقد كان يمكن بقليل من الخيال السياسي وضع السودان في طريق التغيير التدريجي و الآمن ( راجع مقالنا الذي حمل عنوان "إشكالية تنغيم الوعي الفردي و انتقال السلطة" ) . فدائما ما أعول على العمل السياسي لإحداث التغيير التدريجي باعتباره أقل كلفة في الزمن و الطاقة ، كما إنه يسمح باستطلاع و استكشاف طاقات الشباب و توظيفها لصالح قضايا التغيير . على أي حال ، أنجزت ثورة ديسمبر عملية الخلخلة المطلوبة لرواسخ الفكر السوداني الكلاسيكي ، و حازت على اتفاق مع المجلس العسكري الانتقالي الذي أجبر للانحياز للثوار و مطالبهم . و كما جاء في الأخبار ، أن حازت قيادة الثورة الحالية ، ممثلة في "الحرية و التغيير" ، على كامل الجهاز التنفيذي و ثلثي الجهاز التشريعي . و ذلك يعني عدم مرور أي تشريع لا يخدم قضايا التغيير إلا بموافقتها هي ، ثم و ماهي الجهة التي تنفذ هذا التشريع ؟ أنها هي نفسها! و هذا ، يا ابن ودي ، أكثر من كافي لوضع السودان على طريق التطور السريع . أما المجلس السيادي ، فأنا لا أرى أهمية لكونه رمزا مدنيا أو عسكريا أو بأغلبية مدنية أو عسكرية . و في حقيقة الأمر ، اتضايق كثيرا لتعطيل العمل السياسي الذي هو الأهم في إنقاذ السودان من تركة "الإنقاذ" . فكلما مر الزمن ، قل زخم الثورة و طاقتها الاحتجاجية ، و زادت كلفة الإبقاء عليها . كما أنني لا أرى وجاهة ، في الوقت الحالي ، للاشتراط الفوري لمدنية دولة ، دولة منقوصة السيادة ، يجيش في أحشائها خمسة جيوش !! بل أرى أن من الصواب أن يشكل العسكر حضورا جيدا في المجلس السيادي حتى يكونوا أمام أعيننا ، نراهم كل يوم و يروننا ، لنعرف ماذا يفعلون في ثكناتهم . علاوة على أن ذلك من شأنه خلق ثقة تسهل لنا العمل السياسي معهم و من ثم توضيح دورهم في الدستور المرتقب . أ ليس ذلك افضل من إجبارهم إلى العودة السريعة لثكناتهم دون أن نعرف أي أفكار سوداوية تراوضهم في هذه الثكنات ؟ ثم أين هي ثكنات هذه الجيوش ؟ على سبيل المثال أين هي ثكنات "قوات الدعم السريع" و كيف تمضي الاتصالات بينهم و امتداداتهم الخارجية ، التي ليست بالضرورة من أولوياتنا ؟؟ أرى أن يتم التوقيع على هذا الاتفاق مع المجلس العسكري الآن ، و من ثم تشكيل الحكومة دون أي اشتراطات ، فالعمل السياسي ، عندما يتحرك ، كفيل بوضع كل شيئ في مكانه في الوقت المناسب ، داخليا و خارجيا . فكل المطلوب الآن تحقيق السلام و فتح ملفات الفساد ، فهما الترياق الأبدي للثورة المضادة . إذن إقبلوا بالاتفاق كما هو و أقبلوا على إقامة الدولة السودانية ، و حين تقبض على اللحظة و هي ساخنة ، تكون لدنة بين يديك ، تشكلها كما تشاء . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.