عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. دولة القانون والمؤسسات تقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، ومقتضى ذلك لا يجوز لأي سلطة من السلطات الثلاث (التنفيذية – القضائية – التشريعية) أن تتدخل في عمل السلطة الأخرى وأن تتولى كل سلطة مهامها بمعزل عن السلطة الاخرى ، ويجب ان تعمل هذه السلطات وفق مبادئ ومعايير استقلال مهني يرتكز على مفاهيم حقوق الانسان والعدالة الجنائية. في مقال سابق بهذه الصحيفة الغراء تناولت استقلال النيابة العامة ودورها في مكافحة الفساد وتحقيق العدالة، ولان النيابة العامة يفترض ان تقوم بدور اساسي وفعال بوصفها طرفاً أساسياُ في مجال إقامة العدل في الدولة، لذلك نعود مجدداً لتناول استقلال جهاز النيابة العامة عن السلطات الثلاث في الدولة. وحيث أن الأممالمتحدة أعدت مبادئ توجيهية لمساعدة الدول الاعضاء في ضمان استقلالية جهاز النيابة العامة وحياده وعدالة الاجراءات الجنائية، وسميت هذه المبادئ بالمبادئ التوجيهية بشأن دور أعضاء النيابة العامة واعتمدت في مؤتمر الأممالمتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين في هافانا 1990م ، ومن أهم هذه المبادئ أن يكون اختيار أعضاء النيابة العامة من الاشخاص المؤهلين الذين يتمتعون بالنزاهة وان يكونوا قد تلقوا تدريبات ومؤهلات ملائمة للقيام بمهامهم، وأن تتضمن معايير الاختيار ضمانات تحول دون تحيزهم أو محاباتهم لأي جهة مهما كانت ومهما علت، وايضاً ضمانات تحول دون تعيينهم على أساس أي تمييز ضد الأشخاص يستند إلى العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي وغيره، وأن يكون منصب النائب العام منفصل تماماً عن السلطة القضائية في الدولة، وأن يؤدي اعضاء النيابة العامة واجباتهم الوظيفية والمهنية دون تحيز وبإنصاف واحترام لحقوق الانسان وكرامته اسهاماً في سير اجراءات العدالة الجنائية باعتبارهم ممثلين للصالح العام نيابة عن المجتمع. حيث ان النيابة العامة تقوم بمهام وظيفية ومهنية في غاية الاهمية، تتمثل في ملاحقة الجرائم التي يرتكبها الموظف العام ولا سيما فيما يتعلق بقضايا الفساد واساءة استعمال السلطة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. وقانون النيابة العامة لسنة 2017م نص على أن: ( يولي أعضاء النيابة العامة الاهتمام الواجب بالدعاوى المتصلة بالجرائم التي يرتكبها موظفون عموميون ولا سيما ما يتعلق منها بالفساد وإساءة استعمال السلطة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وغير ذلك من الجرائم التي ينص عليها القانون الدولي) علما بان هذا النص مأخوذ من المبادئ الدولية بشان استقلال النيابة العامة، وعلى الرغم من ذلك نلاحظ فجوة كبيرة بين النظرية والتطبيق، وبين الرؤية التي تقوم عليها المبادئ التوجيهية المعتمدة من الاممالمتحدة والحالة الفعلية الماثلة في البلاد، لذلك يتعين على الدولة تطبيق هذه المبادئ حتى تصبح واقعاً ملموساً للعيان. في الأساس النائب العام يعين من قبل رئيس الدولة، ومن المفترض بمجرد تعيينه واعطائه الصلاحيات اللازمة بموجب الدستور والقانون، يكون النائب العام مستقلاً عن السلطة التنفيذية تماماً، وهذا الوضع لا يتأتى الاًّ في ظل نظام ديمقراطي منتخب من الشعب، اذاً لا يتصور ان تكون النيابة العامة مستقلة في ظل حكومة غير منتخبة أو حكومة انتقالية او شمولية، لأن تعيين النائب العام من قبل سلطة غير ديمقراطية يعرض عضو النيابة العامة لخطر التحيز والتوجيه وتلقي الاوامر من السلطة التنفيذية التي عينته ويخشى على نفسه من الاقالة والعزل. علما بان الاوضاع الاستثنائية تخلق اجهزة وسلطات استثنائية لا توفر الضمانات الملائمة لتحقيق العدالة الجنائية . والبلاد تشهد حالياً تحولات سياسية كبرى واوضاع قانونية في غاية التعقيد خاصة بعد تجميد ووقف العمل بدستور السودان الانتقالي لسنة 2005م والابقاء على المحكمة الدستورية قائمة، وهي المحكمة التي يكون اساس الادعاء امامها مخالفة القوانين او النصوص القانونية للدستور او انتهاك الحقوق الدستورية للمواطن، لا شك ان هذا الواقع القانوني المعقد يجعل سبل التقاضي واللجوء الى العدالة منقوصة، ويسهل الافلات من العقاب ويعزز ارتكاب الجرائم، لذلك يجب ان يقوم المجلس العسكري أو الحكومة الانتقالية القادمة باستئناف العمل بالدستور الانتقالي لسنة 2005م فوراً، لأن سلطة النيابة العامة ومهامها واستقلاليتها مستمدة من الدستور نفسه، ويجب أن لا تقوم الحكومة الانتقالية المدنية بإجراء اصلاحات قانونية ودستورية الاًّ بعد انتهاء الفترة الانتقالية وانتخاب حكومة ديمقراطية تعددية، حتى لا تكون آليات العدالة الجنائية مشوبة بالعسف والتحيز وعدم الاستقلالية، حيث أننا لا نريد أن نبدأ حقبة سياسية جديدة في مسيرة السودان الناهضة بتكرار نفس الممارسات التي كانت سائدة في العهد البائد، نريد أن نؤسس لدولة القانون والعدالة دون تشفي أو مكايدات، لذلك يجب أن لا تشكل محاكم خصيصاً لمحاكمة اشخاص او كيانات في الوقت الحالي بالمخالفة للقانون والاعراف الدولية، ذلك لضمان عدم محاكمة اشخاص امام محاكم شكلت خصيصاً من اجل قضيتهم. نحن نتطلع بعد انتهاء الفترة الانتقالية وتشكيل حكومة ديمقراطية تعددية الى دستور دائم ، واجهزة عدالة مستقلة ومنصفة، وضرورة أن تكون الاوضاع الدستورية والقانونية ملائمة للمبادئ والاعراف والاتفاقيات الدولية، لتأسيس دولة القانون التي يكون فيها الحاكم والمحكوم امام القانون سواء، لضمان عدم الافلات من العقاب، وضرورة ان يعاقب كل من ارتكب مخالفة في حق الوطن والمواطن وان يخضع لمحاكمة عادلة وعلنية توفر فيها كل ضمانات المحاكمة العادلة.