هذه الثورة التي لم تنطفيء نارها بعد، مازالت تؤخذ بشيء من الإستغراب، هي ثورة أشبه بثورة القمع العنصري بجنوب أفريقيا. البلد الذي ظل فيه أهله غرباء عليه ولعدة عقود من الزمان. لقد قضى شعب جنوب أفريقيا الذي يتكون في أصله من المواطن ذو البشرة السوداء، بل يوجد فيه أيضا من نزح من قبل من جنوب شرق أسيا أو أنقطع به الأمر في منتصف الطريق، وتوجب عليه أن يستوطن هناك. بعدها أتى المستعمر الأبيض بما هو ليس بجديد. أتى لكي يفرق بين الألوان، ويجعل من أهل البلد الأصليين، أقلية في ذيل ركب القارة السوداء. جعل منهم فئة غريبة في وطنها، لا يحق لها أن تعمل أو تكتسب من عملها زهيد أجر، بل يجب عليها أن تخدم وتستدين من مستخدميها، مكبلة بالقيود، ومطأطأة الرؤوس. أن تخدم دون دوام معروف في مناجم الماس والذهب، الذي يتم تصديره إلى كل بلاد العالم، وبأغلى الأثمان. وتكن النتيجة ميلاد طبقة من البرجواز البيض، الذين حق لهم أن يستمتعوا بخيرات جنوب أفريقيا من ثروات معدنية وغابات ومزارع وشركات وغيره. يحتفلون في أوقات فراغهم بما لذ وطاب من نعيم، ويمارسون هواياتهم المتمثلة بدائيا في صيد الغزلان والجاموس ووحيد القرن والأفيال. لقد كان فصل عنصري جبار بصنع يد عنصرية حديدية. وبه لم تتمكن الكنائس وقتها من جمع شمل أهل جنوب أفريقيا من سود وملونين وبيض معا، لكي يقولوا ربنا واحد، وديننا واحد ووطننا واحد في ظل القمع العنصري. كان كل هذا بسبب التكبر والترفع، والقمع والطغيان، والإفراض في الظلم والعدوان تجاه السود والملونين. ولنقارن ثورة السود في جنوب أفريقيا، بما شابهها من ثورات مثل ثورة الشباب في السودان. الثورة التي قامت من أجل وضع حد للتمادي في جرح حقوق الإنسان، متمثلة في هضم حقوق المواطن في بلده. لقد كان السبب هو الفصل العنصري الآخر بإسم الدين: لقد عانى الشباب من العطالة وعدم التوظيف في بلادهم "السودان"، الشيء الذي تبعته ملحقات أخرى مثل عدم الإيفاء بما يسد الرمق من متطلبات الحياة اليومية، نقصان في الزاد، ونضوب في الماء، وشح في الوقود، وعيش في الظلام. في نفس الحين نجد إنتشار المحسوبية، وتفشي الفساد، في وقت تدوي فيه الطبول الدينية المضللة، وتنتشر فيه الشعارات الحزبية المزيفة، وتتفشى فيه الوعود الحكومية الكاذبة. لقد أدرك الشباب وقتها، أن البنيان المؤسس لهم ولسنين، شيد على صروح من الكذب والنفاق والمداهنة. ولذا لم يفلح أهل النظام المندثر في جمع شمل هؤلاء الشباب في المساجد، لكي يقولوا ربنا واحد وديننا واحد، ووطننا واحد بوجودكم. ومن هنا يأتي الفصل العنصري في المجتمع بإسم الدين. تقسيم الناس إلى فئات: متدين جدا، متدين، غير متدين، ولا يصلح ليكن متدين. هذا الفصل الذي يلاحظه الكل في تمعن الوجوه الموالية الكاذبة، التي تترسم حياة الزهد والبساطة، وتعلوها إبتسامة قبيحة ومصطنعة، لا تقوى نفس الإنسان النظيف على هضمها. إبتسامة تتجسد في دواخل أصاحبها كل معاني الحسد والحنق والحقد والخبث والرجعية والرشوة والمحسوبية مجتمعة. ولنتساءل مرة أخرى؟ كيف لهؤلاء أن يحكموا؟؟ وكيف لهم أن يحكموا هذا البلد إلى ثلاثون عام وحين؟؟ وكيف لهم أن يعدلوا فيما بينهم، وفيما هم له حاكمون؟؟ وفي مجمله: أن يأتيك القمع من أهل بلدك، أحر من أن يأتيك من مستعمر دخيل عليها. لنرجع للثورة التي قادها الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، بعد أن قضى سبعة وعشرون عاما في سجن الجزيرة "جزيرة روبن آيلاند" على المحيط الأطلنطي، والتي تبعد حوالي أثني عشر كيلومترات من مدينة الكاب. كانت سبعة وعشرون عام من التجاهل والتنكيل والتعذيب والإحتقار والإستخفاف والإستفزاز. كان المستعمر الأبيض لبلاده يدري رجاحة عقله كمحامي جدير وخبير في أمور القانون، ومناضل جسور لا يخشى في قولة الحق لومة لائم. لم يترك المستعمر البغيض درب يسلكه لإغراء هذا الزعيم المناضل، لكي يتراجع عن فكره ونضاله الدؤوب. باتت كل المحاولات تجاه قمعه بالفشل، والتي كانت تتأرجح بين الفينة والأخرى، من الإغراء إلى التهديد. كانت الحياة لا تعني للزعيم المناضل مانديلا غير رحلة عبور قصيرة، كرت سفرها هو تمتع مواطن بلاده بالحرية لا غير لذلك. ولذا دفع الزعيم مانديلا الغالي والنفيس من أجلها، دفع بحرية نفسه، لكي تنعم بلاده وشعبها بالحرية المطلقة. سجن الزعيم مانديلا مع عقارب وثعابين سامة، تعودت على وجوده معها ولم تجرأ على إيذائه. كان ينظر لها ويقل لنفسه "إذا لم يقتلني سجن هؤلاء الأوغاد، فلن يقتلني سم هذا الحيات ". وكانت الحيات السامة تتحرك بقربه بعد أن ألفته، وكأنها تدري ما في قرارة نفسه، بأنه مناضل بريء في نضاله وعما يحاك به، لما يناضل، ومن أجل أي الأشياء يناضل. خرج الزعيم مانديلا من سجنه في العام 1990 وبعد قرابة ثلاثة عقود من الزمان. خرج مبيض شعر الرأس، ولكنه منشرح النفس. كل هذا من أجل قول كلمة حق أمام سلطان جائر، حيث أحتفل به ولغرابة الأمور سجانه، قبل أن يحتفل به أهل بلاده، المضطهدين من نظام بريتوريا العنصري. لنتمعن نظام القمع العنصري، ما هو وكيف كان؟؟ هو أسوأ نظام قمعي رآه العالم، النظام الذي كان إذا تعرض فيه الأسود لحادث حركة أثناء سيره، وكان قائد الشاحنة أو مسبب الحادث أبيض اللون، تم سؤال الأسود في المحكمة: بأي سرعة كان يسير على الطريق. خرج الزعيم مانديلا لكي يلقن العالم درس آخر، بعد أن لقنه درس لا ينسى في النضال الجسور الذي لا يعرف الإعياء والفتور: كان همه الأول والأخير، هو أن تظل جنوب أفريقيا موحدة ويكون للسود فيها مكان يليق بهم. قاد الزعيم مانديلا الحكم في بلاده "كرئيس دولة" لدورة واحدة، وهي أربعة أعوام لا غير، ثم تنازل عن الحكم دون راغب فيه. وكان دأبه، هو أن يرى الأجيال الجديدة أمامه تحكم نفسها، وهو يراغب فيها بدقة، رغم تقدمه في العمر، تلازمه آلام البدن وآثار السجن في زانزين سجن جزيرة "روبن آيلاند" الرطبة والباردة. كان يراغب عن كثب ناصحا بحكمة، دون أن يتدخل كثيرا، كيف هي هذه الأجيال جديرة بذلك، كيف لها أن تكن متمكنة في قيادة جنوب أفريقيا المستقبل. لم يتوقف الزعيم مانديلا هنا فقط، بل لقن العالم أجمع، ولقن المستعمر الأبيض درس ملائكي في الأخلاق، لم يحدث في التاريخ إطلاقا: عفى الزعيم مانديلا عن كل مستعمر أبيض، جار في حقوق أهل جنوب أفريقيا الأصليين. الشيء الذي أدخل مستعمر الفصل العنصري، والعالم كله في إحراج عظيم. وكان سبيل الهدف الذكي: أن يخجل كل فاعل فعل لما فعل من طغيان وظلم واستبداد، وحرمان المواطن الأسود من النهوض والتقدم في مجتمعه الجنوب أفريقي. وبهذا الفعل الحكيم منح الزعيم مانديلا جائزة نوبل للسلام في العام 1993، زيادة على ذلك تم منحه ما يفوق 250 جائزة تقديرية أخرى من شتى دول العالم، بما فيها جائزة الحكومة الأمريكية من أجل الحرية. لقد أتى مانديلا بعد كفاح ونضال مريرين بالقول الفصل، والخبر اليقين لمجتمعات العالم الحديثة: هاهم السود يشاركون البيض في رياض الأطفال والمدارس والجامعات. يعملون معهم في المكاتب والمؤسسات، يشاركونهم المكان في المستشفيات والكنائس، ويقتسمون معم الحق في الثروات والمزارع، الشيء الذي كان في الماضي ولوقت قريب، ضرب من ضروب الخيال. هاهو مانديلا يرحل عن عالمنا بهدؤ تام في الخامس من شهر ديسمبر، للعام 2013، وهاهي اللعبة السياسية تدور بغيابه غير متوقفة. فهناك نوعين من السياسيين: السياسي الرخيص والغبي، والذي يمكن شراءه بأبخس ثمن، وهناك السياسي الغالي والمحنك، والذي لا يمكن أن يشترى بأغلى الأثمان. فعلى كل سياسي أن يختار ما يشاء، فعجلات الأيام تدور، والتاريخ لا يرحم. رحل عنا الزعيم مانديلا، وترك لبلاده ولأهلها إرث غالي يفتخرون به على مدى الحقب والأزمان. ما زال هناك الكثير لتحسينه في جنوب أفريقيا، من عامل نشط وسياسي وطني، وحاكم طموح، وحكم رشيد، وتوزيع عادل لثروات البلاد. العقبة الكبيرة التي ظلت جنوب أفريقيا تسعى جاهدة لتخطيها من بعد رحيل زعيمها المناضل الجسور نلسون مانديلا بعد رحيله. وهذا حتى لا تقع جنوب أفريقيا في نفس الخطأ التاريخي القديم. ربما كانت لنا في قصة هذا المناضل الجسور، النضال الفريد من نوعه، عبرة لنا ولزماننا، نأخذها معنا في رحلتنا مع التغيرات اليومية الطارئة على بلادنا، سواء كانت تغيرات إقتصادية أو تغيرات سياسية. الزعيم الراحل نلسون مانديلا - لعل تعلمنا منه القليل. مهم أن يكن دأبنا مصلحة المواطن ومصلحة الوطن، قبل مصلحة الفرد، والإنتفاع الذاتي، والمنفعة الشخصية. أن ننظر للتطورات العرقية في بلادنا بتأني ومن منطلق الحكمة العميقة، من أجل جمع الشمل، ونبذ التفرق والفتن. أن نشارك كمواطنين بما أوتينا من قوة، مشاركة فعالة في الأمور، ولا ننزوي في صفوف المتفرجين أو في أركان الشامتين. أن نعارض بوطنية، ونفارق مصطلح المعارضة القديم "العصلجة السياسية"، ونستخدم الجديد منه، والذي يعني المشاركة في الحكم مشاركة نشطة، وبنقض الحكم نقضا بناءا، بعيدا عن المهاترات الكلامية، بالرغم من الإختلاف في الرأي. ولنتذكر جيدا أن كل رأس دولة أو مسؤول أممي أتى أو يأتي لزيارة بلادنا، لا يأتي حبا فينا أو في بلادنا، بل يأتي ببرتكول سياسي منسق، ومدروس بعمق وتأني. برتكول يخدم في المقام الأول قضايا وهموم بلاد الزائر، قبل قضايا وهموم البلاد التي يزورها. ولذا، إذا لم نقف على أمر بلادنا بأنفسنا، فمن البديهي أن يقف الآخرون متفرجون علينا. علينا. يقفوا على منصة المتفرجين من منطلق "خلونا نتفرج شوية" - ونكن نحن وقتها الفيلم المسلي للجميع - فهيا بنا للعمل، ولنترك كل مخلص للبلاد يعمل بوطنية، من أجل المواطن، ومن أجل الوطن. E-Mail: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.