مركز البرماب وأهالي شولين وجزء من الدكيج (الجيم يكتبونه بثلاث نقاط لأن نطقه يختلف عن الجيم ولا يوجد في العربية) كان في نهاية دبيرة المتاخمة لقرية سرة شرق والمتداخلة معها ، نعم ، نهاية دبيرة ومبتدء سرة شرق ، وكانت مساكنهم منذ قديم الزمان ، بداية الخلق والتاريخ ، تجاور النيل ؛ الهادئ الوديع حيناً ، المعتكر الصاخب أحياناً ، والمتمرد الشرس في أحيان قليلة ، منها ما يرويه الأقدمون في المنطقة من أنه وقبل طوفان العام 1946 كان قد زأر في وجوههم مرتين في ثلاثينات القرن العشرين نفسه ، فكان نزوحهم أمتاراً قليلةً نحو الشرق وسرعان ما يهدأ المارد فيستقرون ، أما طوفان العام 1946 فقد كان عارماً أجبرهم على النزوح لحوالي الكيلومترين شرقاً عند سفوح التلال الرملية المتاخمة للصخور الجبلية الكبيرة ، فكانت عودته إلى مجراه الأصلي أن زادت لهم المساحة الزراعية الخصبة أضعاف ما كانوا يمتلكون ، مستقراً هنالك إلى حين قيامتهم الأولى ( إذ قيامة الجميع طي الغيب) .. شقيقتها الكبرى (فرحة) كانت قد تزوجت (سيد أحمد) أكبر أبناء عمتها (سكينة حبيبة) سكينة فضل ، التي ما لبثت أن توفت مع ابنتيها في الأعوام اللاحقة ، وفيما بعد تزوجها على فارق واضح بينهما في العمر ، إلا أنها إبنة خاله على أي حال(وهناك ثقافة التعويض المعروف في المجتمع السوداني) ، واصطحبها إلى مصر متنقلاً بين بعض حواضرها مستقراً في مدينة الإسماعيلية حيث كانت رئاسة الجيش البريطاني التي كان يعمل في مجال الترجمة والخدمات مع قيادتها فيها ، وفي مستشفى الجيش البريطاني بالإسماعيلية انجبت ابنتيها ثم ابنيها الأكبرين قبل أن يعودا إلى قريتهم دبيرة شمال عقب جلاء الجيش البريطاني عن مصر واستقلال السودان فقد تم نقله للعمل في مصلحة الري المصري بوادي حلفا .. وهناك ، في دبيرة شمال ، وفي أواخر خمسينات القرن الماضي ، بدأت شخصيتها القيادية تبرز وتسطع ، فيها وفي سرة شرقاً وغرباً ، فهي السيدة الشابة الذكية العارفة بحياة البندر المصري والمترفة قياساً بقريناتها وعموم نساء المنطقة في ذلك الزمان والمتحدثة بشيء من العربية .. ومثل الغالبية العظمى من بنات جيلها والأجيال السابقة لها نشأت وعاشت في ظلام الأمية الأبجدية رغم أضواء البصيرة التي زانت عقلها وكل مراحل حياتها .. ظروفها الاجتماعية وطبيعة حياتها أضاعت عليها فرصاً رسمية للتعليم ، وكانت تذكر أن الخالة هانم أباظة رحمها الله كانت قد هيأت لها إحدى تلك الفرص (كذلك سمعت دونما تأكيد أن المرحومة جنيهة محمد حسن قد حاولت نفس الشئ معها) ، والمرحومتان هانم وجنيهة كانتا من أوائل المتعلمات والمعلمات في منطقة حلفا .. وسمعت أن الأخ والصديق مصطفى محمد أحمد الأزهري ، وقد كان صاحب أفكار متقدمة ومبادرات مفيدة ، كان قد أقام فصلاً "على الأرض" لمحو أمية النساء بدأها بوالدته المرحومة نفيسة أحمد بك وخالتي المرحومة نفيسة وبصاحبتنا ، وهي المحاولة التي أوقفتها تلك القيامة المسماة ب "التهجير" المشؤوم .. نعم ، لم يطل بها المقام ، بل قامت قيامة وادي حلفا عندما أقدمت حكومتا مصر والسودان على تهجير أهاليها بإقامة سد الشؤم ، إغراق موئل الموت والحياة وموئل الكون عندهم ، إغراق ديارهم بما تحتويه من مقابر الآباء والأجداد وكنوز أسلافهم الآثارية و...إلخ ، دفنوا حياتهم هناك تحت الماء الذي جعل الله تعالى منه كل شيء حي ، فذهبوا مذهولين هائمين متوسلين بالحي القيوم ، ذهبوا إلى حيث كانت الأمطار برعودها وبروقها في انتظارهم ، والبعوض الناقل للملاريا وأمراض أخرى لم يعرفوها ، وحيث لا رمال تتبلل بالمياه فتمتصها .. سكناها حزن وتوتر عميقين ؛ حزن نسج نفسه في العيون التي كانت واثقة متفائلة ، وتوتر في الصوت وفي الروح .. تداخلت في أخيلتها المناظر والخواطر مع صور الأودية والسفوح والتلال الرملية ، نيل الحياة ، والحياة الهانئة مع ابنائها بين غابات النخيل وأحواض الخضر وأصوات الساقيات تنوح بلا ملل .. كما الآخرين تركت جزءاً عزيزاً من الحياة والأهل في تلك المدافن المتراصة على سفح الربوة الجبلية الممتدة بين دبيرة شمال وسرة شرق ، مقابر موتاهم من العصور الحديثة والمعاصرة تجاور آثاراً متناثرة مزدحمة بعظام أسلافهم من القرون القديمة ..كانت البعثات الآثارية قد حفرت في عمق تلك الصخور المسطحة ووصلت إلى غرف مظلمة كريهة الروائح (ينزل اليها المرء بسلالم محفورة على جدرانها للأقدام) مليئة بعظام بشرية ومعها أشياء عجيبة ، لم تكن المخيلة قد استوعبتها بعد ، ولكن الذي تذكره أن الناس كانوا يخافون لمس تلك الأشياء ناهيك عن أخذها .. ويذهب بها التذكر إلى السنة الأخيرة ، عام سيهاجرون، عندما هبطت ديارهم بعثة من القوم البيض (الخواجات) ، نساء ورجال من علماء الآثار الأوروبيين أوفدتهم " الحملة العالمية لإنقاذ آثار النوبة " .. ترتد الذاكرة إلى حيث هي في "القرية 7 هاجر" بدلاً عن دبيرة ، ومسخ إسمها حلفا الجديدة بدلاً عن وادي حلفا وديار النوبة ؛ تستعرض "الباقيات الصالحات" من الخالات والجدات وعموم الأهل ، تأمل معي - حياك الله - عذوبة الأسماء : مياسة ، ملكة ، ريا ، ظريفة ، أليفة ...إلخ بجانب الأسماء النوبية الخالدة: نبرة ، هجلة ، تماية ...إلخ وتتذكر أن منهن من لم تكن لها عائل ، أعز ما كن يملكنه أشجار نخل عملاقة قوية تماثل الملجأ الآمن والتقليد الموروث عند الحياة والموت وما بينهما من أعراس وابتهاجات ، والأهم أنها العائل ، الضامن أمام صاحب المتجر الذي يزودهن بكل مستلزمات المعاش طوال العام لحين جني التمر من تلك النخيل الضامنة .. عند الهجرة اللعينة أخذن تعويضاً عن نخلاتهن تلك ؛ دراهم بائسة ومصيراً مجهولا .. عند الإخفاء القسري ، الأبدي لوادي حلفا كان الزوج قد تم نقله إلى رئاسة المصلحة - مصلحة الري المصري - في الخرطوم .. والبلاد التي أسموها بالجديدة لن تستقيم لها فيها حياة ، فهي مزيفة ، فيها زيف يشحنها حزناً وأسىً وتوتراً ، فلتجرب الخرطوم ، بندر السودان .. تتوالى عليها النوازل ، رحل عنها بعيداً بعيداً الأخ الأكبر الخلوق/الزوج الطيب الوقور في مارس 1972 وهي بعد منهمكة في ترتيب دارها الجديدة وعلاقاتها مع الجيران الجدد في الصحافة ، الجيران الذين سيصبحون لها أهلاً وأصدقاء ، عزيزات وأعزاء ، طوال الأعوام الخمسين اللاحقة .. كانت بطبيعتها عالية الشعور بالمسؤولية ، وضاعف عليها هذا الفقد مسؤوليات أخرى لم تترك لحزنها عليه أن يطول ويعيق مباشرتها للواجبات الجديدة .. كان قدراً مقدوراً عليها أن تقود الحياة والعائلة منفردةً عند منتصف الطريق ، حياتها وأبناءها ، في دارهم الجديدة ومجتمعها الجديد .... قلنا إن النوازل عليها لا تتوقف ؛ الابن الذي ادخرته عوناً ، وقد أكمل دراسته ، منعوه من العمل ثم اعتقلوه اعتقالاً استطالت سنواته لتقضي ستاً وستين شهراً في زيارته اسبوعياً ثم كل أسبوعين بين كوبر وسجن بورتسودان حاملةً معها كل ما يلزم المعتقل من أطعمة وغيرها .. وفوق ذلك ، وخلال سنوات الاعتقال تلك ، اشتدت عليها النازلات أكثر ، رحلت ابنتها (الثانية عمراً والأولى زواجاً) وقد انجبت مولودها الرابع ، قاصمة ظهر وزلزالاً "مزلزلاً" ، غير أن ظهرها عصي على القصم وبيتها محصن ضد الزلازل ، فكان عليها أن تبدأ من جديد ؛ تربية وتعليم ومتابعة تفاصيل يومية لأحفادها الاربعة أبناءها الجدد .. كانت فترة الديمقراطية الثالثة قصيرة كسابقاتها ، لم تهنأ طويلاً بابنها الذي حررته انتفاضة ابريل 1985 لتأتي نازلة البلاد الكبرى في 30 يونيو 1989 ببيوت أشباحها وكوارثها التي لا شبيه لها في التواريخ ، "تمت الناقصة" ب "العهد الغيهب" (والمألوف عند الناس كلمة الغياهب : غياهب الجب ، السجون ، الغابات ...إلخ أما مفردها "غيهب" ، الغيهب : الظلمة ، ومن الرجال : الثقيل ، البليد ، الضعيف ، الغافل ، كما جاء في القواميس ) لم يكن متداولاً إلى أن استعمله الدكتور منصور خالد في نعت عهد الإنقاذ "العهد الغيهب" متعه الله بالعافية وطول العمر . وهل لمثل هذا العهد الغيهب إلا أن ينطوي على ظلمات ومآس لا تقل عن بؤسها هي ؟.. أغلب العائلات والجماعات في السودان أصابتها مصيبة تحت ظل العهد الغيهب ، وكان لها من تلك المصائب أنصبة ؛ بجانب صديقنا الذي تردد على معتقلات نميري والآن على بيوت أشباح النظام الاسلاموي ، بجانبه ، أمسكت بشغافها كارثتان : الأول : وفاة صهرها ، ابنها الأكبر ، زوج ابنتها الكبرى/صديقتها ، الشاب العالم في علوم الهندسة والطاقة الشمسية بمجرد ملاريا على تخوم القرن الواحد والعشرين "تسعينات القرن العشرين" !! وثانية الكوارث القاسية عليها كانت الرحيل المفاجئ لابنها الكبير ، الأول بعد البنتين ، تاركاً ثلاثة ابناء .. لم تتردد ولم تردد : رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا اصابتني سهام تكسرت النصال على النصال من خريدة "الشاعر" في نعي والدة سيف الدولة .. ثلاثة ابناء ، ولدين وبنت ، اذن رحلة ثالثة مع التربية والتعليم والتفاصيل اليومية ، من جديد ، ضمتهم إلى الأربعة ، اشقاء وليسوا مجرد ابناء خال وعمة ، أرضتها وأسعدتها تلك المشاعر والرحلة هي نفس الرحلة التي تعودت عليها ، بصدق ومحبة تخفيها خلف الصرامة والجدية الظاهرة .. تسحب من رصيد العمر ولكنها الرسالة التي أوقفت لها عمرها منذ فقدت مسقط الرأس ثم الرفيق .. تغير إيقاع الحياة في عصر الشتات .. ولكنها قرت عيناً بزواجهم جميعاً ، زواج الحفيدات والأحفاد .. غير أن العمر يجري ، والظروف ضد الرغبات والأشواق .. فرص اللقاء كانت قليلة ، شحيحة ، للإبحار معها في احاديث الذكريات ؛ البرماب ، الدكيج والولياب ، اغنيات صالح ولولي وجديد محمد وردي النوبية ، وصلات الدم خاصةً في سرة غرب التي تقول الأغنية التراثية عنها وعن حي "نورية" الساحرة فيها ، ما يعني بالعربية : في سرة غرب ، مدخل الجنة يا غرب سرة قبالة "نورية" ذات الصيت الآسر ، وغاباتها حيث تؤانسك النجوم ؛ هل كتب علي أن أبقى حارساً ، أحرس آشة (عائشة ) أن أحرسها أسفل النافذة ؟ دعيني أحرسك أسفل نافذتك في "الراكوبة" يا طاهرة ، يا آخر حارسات الصور القديمة والأنساب والتفاسير ؛ من نسأل بعدك ؟ أي امرأة كنت ؟ محمد عتيق ———————— * أربعين طاهرة محمد فضل 27 نوفمبر 2019 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.