"صَحْب الاسم سالم"، هذه عبارة خاصة بالسودانيين يبدأون بها الحديث عندما يقرن اسم شخص ما، وغالباً هو متلقى الحديث نفسه، بأي شيء منبوذ أو مكروه، وهى مشابهة لعبارة "بعيد عنك" أو"بُعد الشر" أو "بلا مؤاخذه" عند اخواننا المصريين، وهذا ان دلّ على شىء انما يدل على أدب الحديث بين السودانيين أيام زمان، لكن للأسف فقد انعكست الآية الآن، حيث صار الحديث من وراء حجاب "اسكايب، تانقو، واتساب وهلمجرا..."، أما نوعية العبارات المستعملة ومستويات الكلام فحدِّث ولا حرج . في اعتقادي أن هذه الظاهرة السلبية تعود لسببين رئيسيين، الأول هو أن هذه الوسائط أعطت بعض الناس جرعة معتبرة من الجرأة، فأصبحوا كالسكارى يقولون ما لا يستطيعوا قوله في حالة الوعى، فيخرجوا من باطنهم ولا-وعيهم كل ما قد يكون جارحاً لطرف آخر، فيستوي ظاهرهم وباطنهم، فتقوم المعارك الكلامية – زوبعة في فنجان، المصحوبة بالعبارات النابية أحياناً، أما السبب الثاني فليس فيه قصد، انما ينتج عن جهل أو سوء فهم أو استخدام كلمات مؤذية أو مستفزه من بعض الناس قد تثير المتلقي، فتشتعل المعارك اللفظية من دون معترك، بيد أن سوء استعمال هذه الوسائط من البعض لا يقلل من دورها وأهميتها فى الحياة والتى تعتبر طفرة كبيرة فى عالم الاتصالات. كانت هذه مقدمة لأعرفكم بشخصية بسيطة جداً لكنها شخصية تستحق تسليط بعض الضوء عليها، ثم الاشادة بقدرة تمّيز بها. ليس بالضرورة أن يكون الشخص عالماً أو مخترعاً أو فناناً حتى يكون نجماً تعرفه البشرية جمعاء، بل هناك رجال ونساء بسطاء مغمورون ومنهم من لا يفك الخط، الا أنهم أصحاب قدرات وامكانات ممّيزة تستحق الاشادة والانتشار محلياً وعالمياً، لكى يكونوا قدوة فى دائرة تمّيزهم ومنهم "سالم" صاحب الاسم. اسمه "سالم" ولقبه "أبيض" لكن فى واقع الامر هذا السالم لم يّسلم من المرض العضال وهذا الابيض هو لامع السمرة كشجرة الابنوس... شخصية جمعت المتناقضين لكن ما بيده حيلة...المرض هو قدر لحق به، فى ظاهره ضرر لكن ربما يكون في باطنه نفعٌ ، أما لقبه فكان من اختراع والدته عطر الله ثراها، امعاناً فى مداعبته حيث كان أسمر البشرة وسيم الطلعة أبيض الضمير خفيف الظل. أبتلى سالم بمرض نادر أصابه وهو فى ريعان شبابه، هذا المرض شُخص بمرض ضمور المخ والاعصاب وقد حاول علاجه فى الداخل والخارج فى القاهرة لكن ظل المرض ينخر كالسوس فى جسمه النحيل يوماً بعد يوم الى أن أصابه شلل تام أقعده فى السرير بعد سنتين من المعاناة ومحاولات انقاذ ما يمكن انقاذه من براثن هذا الداء الذى كان قد أحكم قبضته عليه.. وأخيراً سلم أمره لله ولم ييأس من سعة رحمته، وكما تعلمون فمرض الشلل يقهر الانسان ويجعله عاجزاً تماماً بل أقرب الى الموت، الا أن سالم صارع المرض حتى قهره.. كان ضعيفاً كعود ثقاب، قليل البنية كالطفل، الا أنه كان قوى العزيمة وشديد الشكيمة، يعيش حياة طبيعية ويمارس كل أنشطته وهو على فراش المرض، أشرف على تربية أبنائه واهتم بتعليمهم حتى وصلوا الجامعات، لم يتوقف ابداً عن مجاملاته للآخرين سائلاً عنهم بهاتفه الذى لم يجد الراحة معه، يذهب اليهم حيث كانوا، قريباً أو بعيداً، محمولاً على الاكتاف أو على كرسيه، منزله كان قبلة للزوار من كل مكان وخاصة من المغتربين في السعودية ودول الخليج وليبيا، رأيته في الخرطوم مجاملاً رغم صعوبة المشوار، وهو الذى يبادر بالسؤال عن المرضى وكبار السن واذا سألته هو عن حاله يرد عليك: "مفيش أحسن من كده"، الابتسامة العريضة تعلو وجهه دائماً حتى تكاد لا ترى عينيه. لم يشتك من المرض أبداً بل لم يشتك حتى من شظف الحياة العامة فى السودان حيث التفاؤل في الغد يملأ حياته. والدتي الحاجة "هانم أباظة"، أطال الله عمرها، تعز هذا الانسان وتجله وفى الوقت نفسه تعطف عليه حتى تذرف دموعها حين يتصل بها من حلفا دائماً سائلاً عن صحتها وهو العليل. كنت في المسجد النبوي في المدينةالمنورة الاسبوع الماضي معتمراً، وفى صلاة العصر عندما لامست قدماي "باب الملك فهد" سمعت رنة من هاتفى المحمول اشارة بأن هناك رسالة قد وصلت للتو، فترددت في بادئ الامر خشوعاً للمسجد وتفرغاً لاداء المناسك على أكمل وجه ، لكن عندما تكرر النداء خفت أن يشغلني عن صلاتي، واستجبت له فاذا هو خبر أليم.. سالم قد التحق بالرفيق الأعلى الآن .. انا لله وانا اليه راجعون .. حزنت عليه كثيراً لكن سرعان ما استدركت بأننى فى أطهر مكان على الارض، قريب من الله حيث يستجاب فيه الدعاء، فكانت أولى دعواتى فى المسجد النبوى الشريف، وقبل أن يوارى جسده الطاهر الثرى، أن يرحمه الله رحمة وسعها السموات والأرض وأن يجعل مرضه كفارة لذنوبه كلها، ثم بعد ذلك دعوت لوالديّ وإخوتي وأهلي وأصدقائي وكل من طلب منى الدعاء..الموت حق، لكن الشاهد أن لحظة سماعى للنبأ وقداسة مكان وجودى ومقصدى فى تلك اللحظة كان مصادفة غريبة أخالها تنم عن صلاح ذلك الفتى فندعو اله الاستجابة لدعواتى ودعوات كل من دعا له فى حياته وبعد موته. سالم هذا ربما لا يعرفه الكثيرون لان حياته كانت محصورة فى منطقة حلفا الجديدة وقراها، ولفترة وجيزة في ليبيا، لكن رحلته الطويلة مع المرض، والتي امتدت لأكثر من عشرين عاماً، والطريقة السهلة التي واجه بها هذا المرض الصعب وتعامله الواقعى معه وحمده لله على ما ابتلاه، لابد أن يعرفها ثم يقتدى بها كل انسان أبتلى بمرض .. فالمؤمن مصاب. وهنا أذكر ما قاله الداعية المعروف والمصاب بالشلل الكلى عبدالله بانعمه: "كنت أظن أنه لايوجد أحد أسوأ من حالتي" لأنه مشلول لا يتحرك الا من رأسه، فاذا باحد المشايخ يقول له: "تعال معى لاريك من هو أسوأ من حالك"، فذهب معه وفعلاً رأى رجلاً مثل حاله مشلول، لكنه زيادة على ذلك لايسمع ولا يتكلم!! هذا الشخص المشلول حدث له موقف مبكٍ : دخلوا عليه أهله ووجدوا بقع من دم على ثيابه وهو يبكى، ثم وجدوا اثنين من أصابعه مقطوعة! ماذا حدث؟ دخل عليه فأر جوعان وجلس يأكل فى أصابعه وهو فى مكانه لا يستطيع الحراك ولا طلب النجدة!! ولايقوى على أى مقاومه تجاه هذا المخلوق الصغير الضعيف، لأنه كان كالجثة الهامدة لاحراك ولا صوت.. وعندما رأى الداعية هذا المنظر المحزن، أغمض عينيه، وتنفس نفساً عميقاً وقال: الحمد لله أنى أتقلب فى النعم " اللهُمّ لك الحمد كما ينبغيّ لِجلال وُجهك وعظيم سلطانكّ" اسمه الكامل سالم صيام أحمد صيام بينما شهادة ميلاده تحمل اسم "صلاح". لكن هذا الاسم الرسمى والذى نحرت له العقيقة، طغى عليه الاسمان سالم وأبيض، ولربما كان اسمه مركباً "صلاح سالم"، تيمناً بالبكباشي صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة المصرية آنذاك حيث ولد هناك الا أنه مع الزمن وعودتهم للسودان اختفى اسم صلاح واشتهر اسم سالم اختصاراً والله أعلم. ولد فى عام 1957 بمدينة الاسكندرية وكان والده قد هاجر من وادى حلفا ليعمل هناك كعادة معظم النوبيين انذاك، وعند قيام السد العالى حين غمرت مياه النيل مدينة وادى حلفا وقراها، عادت الاسرة الى السودان عام 1964 وهاجرت الى حلفا الجديدة بشرق السودان حيث توفى والده، رحمه الله، بعد سنوات قليلة من الهجرة ثم كافحت والدته، مستعينة بجدته من أمه، في تربية سالم واخوته. درس مرحلة الأساس في قرى اشكيت والمتوسطة فى دبيرة ثم عمل محاسباً فى دواوين الحكومة ثم انتقل الى العمل فى مطاحن الغلال بحلفا الجديدة الى أن أصابه مرض ضمور المخ والاعصاب عام 1994 والذى أقعده نهائياً عام 1996 واحيل الى المعاش المبكر عام 1999 .. رزقه الله بثلاث زهرات زوج لهن الثلاث ابان مرضه، وله ستة من الاحفاد، وولدين، محمد قيد الدراسة بالمرحلة الجامعية بالخرطوم، أما الابن الاكبر صيام، المسمى على جده، فقد ترك الدراسة من مرحلة الجامعة وتفرغ لرعاية والده واشتغل بزراعة الحواشات فى حلفا الجديدة..ومما يجدر ذكره هنا، أن ابنه صيام هذا كان قد حصل مؤخراً على عقد عمل فى المملكة العربية السعودية عن طريق أصدقاء والده هناك، ليعين أسرته، الا أن والده لم يشجعه على ذلك، وكأنه كان يعلم بدنو أجله، فصرف صيام النظر عن الاغتراب تنازلاً لرغبة والده. توفى سالم فى عصر يوم 23 أبريل الماضى تاركاً خلفه زوجته الفضلى "شمائل" التى وقفت معه فى محنته وقوف الصناديد وصبرت صبر أيوب على ابتلاء من الله لم ينته حتى بعد أن فارق الحياة حيث ترك لها مسئولية تربية أسرة دون معين، لكن عزاءنا في الحديث الشريف إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ.. وكما قيل المحبة سر الحياة...فاللهم أجزها خيراً وزدها صبراً وأفتح لها أبواب رزقك. التحق سالم بوالده ووالدته، اللذان سبقاه الى دار البقاء، حيث عاش مع مرضه يتيماً محروماً من حنان الوالدين ومن دعائهما له. شقيقه الأكبر عوض صيام، هو رجل يحدث ويبتدع، صاحب عقلية جبارة، أذكر مثالاً واحداً على ذلك، فهو أول من اخترع جهاز تحويل ثمرة شجرة التبلدي "القونقليز" الى مسحوق لصناعة مشروب جميل ومفيد يقدم فى كل البيوت السودانية خاصة فى شهر رمضان المعظم كما ويخلط هذا المسحوق مع مسحوق الصمغ العربى والماء كشراب لعلاج أمراض الكلى والمعدة ثم استخرج من بذرته زيتاً يعالج بعض امراض السرطان فى مراحله الاولى وبعض الامراض الجلدية وقشرة الشعر ويحمل عوض صيام براءة الاختراع لهذا الجهاز المفيد للبشرية جمعاء. الشاهد أن سالم كان يحمل نفس العقلية الابداعية الا أن المرض داهمه فى عنفوان شبابه، فتوجهت ابداعاته للتعايش مع مرضه. وللمرحوم شقيق أصغر هو عوض الله وشقيقتان هما عيشة ولوزة. كانت هذه، في ايجاز، رحلة سالم في الحياة، وكانت في معظمها رحلة مع مرض عضال، لكن بفطنته أدرك الفتى ادراك اليقين أن الحياة مهما طالت، فهى رحلة قصيرة ولا تتكرر، والذى يكسبها هو من يبتسم لها، مؤمناً بالقضاء والقدر خيره وشره، والذى يخسرها هو من يحمل همومها، غافلاً عن فرج الله فيعيش أيامه عبوساً قمطريراً. فكانت فلسفته فى الحياة أن يبتسم لها مهما كشرت له عن أنيابها ومهما اشتد عليه المرض حتى عجز المرض عن صبره ثم صارا صديقين، وقد كان سالم يؤمن فى حياته بالاقوال المأثورة للامام على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وخاصة فى وصفه للصبر ومرارته، التى كطعم العلقم، كما جاء فى كلماته أدناه : سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبرى سأصبر حتى ينظر الرحمن فى أمرى سأصبر حتى يعلم الصبر أنى صبرت على شىء أمر من الصبر فيا أيها الحبيب البشوش، يا من ابتسم حتى لملك الموت، فقد خلفت وراءك الاحزان والدمع السخين في مآقي رفيقة دربك في رحلة امتدت لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، فلذات الاكباد والأحفاد واخوتك يفتقدونك في كل لحظة، قريتك بأسرها بات يخيم عليها الحزن والسكون وأصبحت من بعدك كهيروشيما، فالتعازي الحارة لأرملته السيدة/ شمائل ولذويها ولأخيها معلم الاجيال الاستاذ/ بكري أنور واخوانه الكرام، لشقيقيك عوض وعوض الله وشقيقتيك عيشة ولوزة وخالك الباقي الحاج حسن أمين جابر، أطال الله في عمره، وأبنائه، وابن وبنتي خالك المرحوم صادق أمين وأبناء خالتك الاخوين شعبان واسماعيل أبوالريش وأبناء وبنات أعمامك المرحوم حسن صيام والمرحوم فتحي صيام والمرحوم محمد صيام وخالاتك الحاجة لوزة بتيك والحاجة هانم أباظة ولكل من حزن على فراقك. وداعاً أيها الحبيب الراحل، انا لفراقك لمحزونون، ولما كانت هذه هى سنة الحياة، فلا نملك الا أن نمتثل لأمر الله وأن نتمسك بقوله عز وجل في محكم تنزيله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ... ودعوانا لصاحب الملك: اللهم أبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وأدخله الجنة بغير حساب، برحمتك يا أرحم الراحمين، وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار، اللهم عامله بما أنت أهله ولا تعامله بما هو أهله، اللهم أجزه عن الاحسان احساناً وعن الاساءة عفواً وغفرانا، اللّهم أجعل قبره روضة من رياض الجنة ولا تجعله حفرة من حفر النار، اللّهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا و له واجمعنا معه في جنات النعيم يا رب العالمين، اللّهم أنزل على أهله الصبر والسلوان وأرضهم بقضائك وقدرك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. شوقى محى الدين أبوالريش [email protected]