للمفارقات الربانية في الكون أكثر من مدعاة للتأمل. فالماء والنار يجسدان هذه المفارقة. والمعروف عن النار أنها القوة التي تقضي علي الأخضر واليابس ولا تقنع بالإتيان عليهما لتقول بلسان نهمها المستعر (هل من مزيد؟). وبالنار يخوف الله عباده إن هم أتوا الكبائر التي نهي عنها في دينه الحنيف. ولشدة خطورتها يتم التحذير دائما من اللعب بها لأنها في الأصل غير خاضعة لللعب ، وإنما يتم الاستفادة منها بحذر نسبة لما يكتنفها من خطر مجرب علي جلود بني الإنسان. غير أنها كمصدر للطاقة تيسر سبل الحياة ، فبها يطهو الإنسان موائده من الطعام طبخاً وشواءً ، ومنها يستمد التدفئة من غمرة البرد القارس ، ومن حمية اصطلائها تُصهر المعادن فيلين له الحديد كي يطوعه كيفما شاء. وتُشيد الحضارات بدفع من كامن طاقتها اللاهبة. بالمقابل لا تستكن المياه في عقل الإنسان الباطن بذات القدر من الخوف كما هو الحال من النار ، فالماء هي اكسير الحياة، ومنها خلق الله كل شئ حي ، فهي سر الوجود . وفيما حولها تنشأ الحضارات وتزدهر ، وبها تزدهي الطبيعة بأفخم الحلل ، فتتحول الأرض الجُرز الي طيلسان مُورق يسر الناظرين. ولذلك قيل أن في حضرة (الماء والخضرة والوجه الحسن ) تنفرج أسارير الإلهام لينظم الشعراء شواردهم من وحي خيال محلق في جمال لا متناهي. فيرتفعون لمقامات سامية تراهم بها يهيمون في كل واد. كما أنها مصدر مهم للطاقة. وعليها تُحمل الفلك لتنقل الناس وأمتعتهم لمسافات ما كانوا ليبلغوها إلا استواءً عليها بدفع من ريح رُخاء تجري بإسم الله حلاً وترحالاً . غير أنه وبالمقابل فإن للماء وجهاً آخراً لا يدركه الشعراء ، ولا يشتهيه ربان السفن. ففيها من القدرة التدميرية ما سلطه الله عقابا علي غير أمة تنكبت طرق الحق بالطوفان العظيم الذي عم أمة نوح عليه السلام. فاستحالت الأرض تساباً لا ساحل له. أغرق الأرجاء. وابتلع حتي قمم الجبال التي ظن من أبق أن بها ثمة فرصة للنجاة ، حيث لم يكن فيها من عاصم إلا الله. وهنا يجب التأمل في المفارقة بين الماء والنار كنعم وبين ما تحتويه من قدرات تدميرية كامنة في جوفها اللجب ، حيث أن ما ينطبق علي النار ينطبق علي الماء بذات المنطق. وهاهنا يتوجب وقف اللعب بالماء لأنها واحدة من قوي الطبيعة الباطشة. غير أن الإنسان يجنح في سعيه اللاهث للتدخل في مجرياتها بحثا عن فردوس تنمية مفقود ، فيفقدها صوابها الذي جبلت عليه. فإذا ما اعترض جريانها الأبدي بالسدود ، استحالت لقوة كاسحة تدمر كل شئ أمامها. فالآن جيراننا في إثيوبيا يشيدون سدا قبالة سهولنا المنبسطة بإرتفاع يبلغ مقام العمارات السوامق التي تلامس أكمام السحاب ، في لعب بالماء غير محسوب العواقب ، ليضمنوا به ما يتمنون لأنفسهم من " نهضة " وليطبق علي مكمن الحياة فينا من زَورنا، لنصبح تحت رحمة مسخ مشوه متي ما إنهار وكيفما شاءت له الأقدار أن ينهار ، إنهارت معه حياتنا ، لينبذنا في يم الامواج المتعالية المطلاطمة ، كما نبذ الله فرعون وجنوده عندما أنكروا رسالة السماء. في حين أن حكومتنا بغفلة منها ، أو في حالة صحو مغيب تشغل بالها بكيفية ملأ جوف هذا الكائن الأسطوري المخيف و تشغيله بوعد كذوب بأننا سنستفيد من منتجه في الطاقة المتولدة من الماء بسعر زهيد ، في الوقت الذي تبيعنا فيه بسعر أكثر من زهيد.