ارتفعت الأصوات التي تدعو إلى إجراء عاجل لتعديل تشكيل المحكمة الدستورية، تفادياً لأي قرارات مفاجئة يمكن أن تصدر عنها وتؤدي إلى إعاقة مسار التحول الديمقراطي في البلاد، وأكثر هذه الأصوات علواً هو صوت الأستاذ سيف الدولة حمدنا الله في مقاله ذائع الصيت (ماذا لو ألغت المحكمة العليا الوثيقة الدستورية). وهذه الدعوة حق وتتماشى مع نصوص الوثيقة الدستورية التي هدفت إلى تفكيك بنية نظام الإنقاذ ، إلا أنها يجب أن تؤخذ وفق القواعد التي نصت عليها الوثيقة الدستورية، وبما يرسي دعائم دولة القانون والمؤسسات. تم تشكيل المحكمة الدستورية في ظل دستور السودان الانتقالي لسنة 2005، واستمر عملها بعد انفصال جنوب السودان. وطوال الفترة من العام 2011 وحتى سقوط نظام الانقاذ في 2019 رفعت أمام المحكمة عدد من القضايا الدستورية ذات الصلة المباشرة بالحريات العامة والحقوق الدستورية، وكانت تقديرات المحكمة الدستورية تميل إلى جانب مراعاة السلطة الحاكمة، وتقدير الأوضاع السياسية، و مثلت بذلك أحدى الآليات التي ساهمت في إرساء وتعزيز وسائل نظام الإنقاذ وقيوده القانونية لدعم سلطانه. وقد أوضحت المحكمة الدستورية نفسها مسايرتها للوضع السياسي الذي كان سائداً، والظروف التي كانت تكتنف البلاد للابتعاد عن القواعد المستقرة قانوناً، فذكر رئيس المحكمة الدستورية في أحد الأحكام التي صدرت عنها (نعم، هذه المحكمة ليست محكمة سياسية؛ ولكنها ليست جزيرة معزولة عمّا يحدث في البلاد. وهي لا تستطيع حسب رأيي عند النظر إلى اللوائح المطعون فيها، أن تفعل ذلك دون قبولها ببعض التباعد عن الأعراف المعتادة. وهذا ليس ابتكارا، ففي نورمبيرج أجبرت الخسائر الخطيرة في الأرواح، والقسوة والوحشية التي جرت بها الحرب، من كانوا في السلطة على تجاهل أحد أهم المبادئ المستقرة للقانون، مثل رجعية القانون). وأعتقد أن مثل هذا النص وحده كاف لتبرير إعادة تشكيل المحكمة الدستورية. فالعقلية القانونية التي تسوغ للنظام الحاكم صحة ابتعاده عن قواعد القانون المستقرة لدواعي سياسية من الصعب أن ترسي قواعد نظام قانوني في فترة تحول، يستند إلى أحكام العدل المجرد وحقوق الإنسان. ويحتم تكوين العقل الجمعي لقضاة المحكمة الدستورية الذي تشكل في ظل النظام الإنقاذ والقواعد التي أرساها إلى ضرورة إجراء تعديل عاجل على تشكيل المحكمة الدستورية. فالنظرة لعدد من الأحكام التي أرستها المحكمة الدستورية تؤكد مسايرتها للاجراءات السياسية التي تبناها نظام الانقاذ، ففي عدد من القضايا التي رفعها محكوم عليهم بالاعدام أثاروا فيها ادعاءات بأن اعترافاتهم تم انتزاعها تحت التعذيب، لم تمنح المحكمة المحكمة الدستورية نفسها الفرصة لتأكيد ضرورة المحاكمة العادلة والالتزام بمعاييرها الصارمة خاصة عندما يتعلق الأمر بتنفيذ عقوبة الاعدام، وإنما اكتفت بنفي المزاعم المثارة. وأكدت المحكمة الدستورية على الأساس القانوني للرقابة القبلية على الصحف وسايرت جهاز الأمن في ادعاءاته بأن الرقابة القبلية لا تمثل انتهاكاً لحرية الصحف واعتبرت أن حرية التعبير ليست مطلقة في وثيقة الحقوق والقانون الدولي، ويمكن تقييدها في حالة تعارضها مع مقتضيات الأمن. كما استخدمت المحكمة الدستورية المبدأ القانوني بوجود مصلحة لدى مقدم الطلب عند تقديمه طلباً للمحكمة الدستورية، في رفض قضايا دستورية ذات وزن وتتعلق بحقوق دستورية جوهرية ، فعلى سبيل المثال رفعت إحدى الصحف دعوى ضد توقيفها لأمد غير محدد، مثيرة تساؤلات حول دستوريته ومدى استحقاقها لتعويض عن ذلك الايقاف، وأثناء إجراءات الدعوى الدستورية تم إلغاء قرار الايقاف، فاستندت المحكمة الدستورية لمبدأ انتفاء مصلحة المدعين ومن ثم قامت بإلغاء الدعوى الدستورية. وكان يمكن للمحكمة أن تسير في الطريق الأعدل وهو تفسير المصلحة تفسيراً أوسع للنظر في دستورية إجراء خطير يتعلق بإيقاف الصحيفة لفترة طويلة أو لفترة غير مددة لإرتباط ذلك بحق أساسي هو حق التعبير. ورغم أن كل هذه الموضوعات عرضة للأخذ والرد من ناحية قانونية إلا أن المحكمة الدستورية قد اختارت الموقف السهل الذي يتسق مع أهداف النظام الحاكم، ويدعم خطه، والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيفية إعادة تشكيل المحكمة الدستورية. وقد حددت الوثيقة الدستورية آلية التشكيل بوضوح ووضعت خارطة طريق لبناء محكمة دستورية بعيداً عن بنية التمكين التي صنعها النظام السابق، فنصت في المادة (29) على إنشاء مجلس للقضاء العالي يحل محل المفوضية القومية للخدمة القضائية ويتولى مهامها ويحدد القانون تشكيله ، كما نصت على أن يختار مجلس القضاء العالي رئيس وأعضاء المحكمة الدستورية. فلماذا إذن التأخير في تشكيل مجلس القضاء العالي طيلة هذه الفترة منذ أن تم اعتماد الوثيقة الدستورية في 20/8/2019 . أعتقد أن واجب الساعة هو إصدار تشريع بشأن مجلس القضاء العالي ومن ثم تشكيل المجلس وفق مقتضيات ذلك التشريع. وأن يقوم مجلس القضاء العالي بإعادة تشكيل المحكمة الدستورية، وهذا هو السبيل الذي يرسي دولة المؤسسات والقانون عوضاً عن إقامة مفوضيات استثنائية لا ترتكز إلى أساس مؤسسي. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.