عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. شُغلت منذ الستينات بأمر الأستاذ محمود محمد طه، رحمه الله. وتصادف أن حضرت له مرة محاضرة فوجدت الرجل شيمته السكينة والوقار وانفتاح العقل، على عكس ما كنت أتصوره وفقا لما سمعته من آراء البعض فيه. وباطلاعي على بعض مؤلفاته، شعرت بأن لدى الرجل شيئا جديدا يريد أن يقوله. وأتيحت لي مؤخرا فرصة الاطلاع على المزيد من مؤلفاته فبدا لي أن أكتب عنه في إيجاز كلاما منصفا بين غلواء خصومه وإيمان أتباعه. بدأ الأستاذ تأملاته في خضم الحركة الوطنية السودانية والنضال ضد الاستعمار، فوجد أمامه الطائفتين الدينيين الكبيرتين وحزبيهما والطرق الصوفية والاتجاهات العقائدية الحديثة اليسارية والإسلامية، فاختلى بنفسه بضع سنوات دارسا وباحثا ومتأملا ومتعبدا حتى خرج بمنظومة فكرية فريدة لا تقل شمولا عن التركيبة الماركسية، ومقابلة لها، وإن كانت بالضرورة أقل منهجية وأكاديمية بالنظر إلى شواغل الأستاذ السياسية والتنظيمية والاجتماعية المتعددة وبالنظر إلى تفرُّد المحاولة. قصد الأستاذ إلى إيجاد تصور إسلامي عالمي شامل يستند إلى العقل والنقل معا ويمكن أن يكون مقبولا لدى أي إنسان منصف أيا كانت ديانته، اقتناعا من الأستاذ بان الإسلام سيعود إلى قيادة العالم في المستقبل المنظور. وجعل الأستاذ محمود نظرية وحدة الوجود (المنسوبة إلى ابن عربي) الأساس النظري لمنظومته الفكرية، متبنيا بذلك التصور الفلسفي المثالي للوجود، في مقابل التصور الفلسفي المادي الذي تقوم عليه الماركسية. ومزج الأستاذ بين نظرية وحدة الوجود ونظرية التطور (المنسوبة إلى تشارلس دارون)، ليستنبط نظرية لنشأة الكون والإنسان من منبعهما الإلهي من خلال "التنزلات" الإلهية ثم عودتهما إليه عن طريق التطور والارتقاء وصولا إلى الإنسان الحر الذي تتطابق إرادته مع الإرادة الإلهية فيكون سائرا إلى الله إلى الأبد، في طريق الذات الإلهية التي يمكن الاقتراب منها ولكن يستحيل بلوغها، معتبرا الإنسان الحر مرحلة قادمة من مراحل التطور البشري. وبذلك جعل الغاية التعبدية المتمثلة في القرب من الذات الإلهية هي الغاية النهائية للسمو البشري، مرتئيا أن "الفرد" هو الغاية والمجتمع وسيلة لبلوغها. رأى الأستاذ أن إعادة الإسلام إلى صدارة العالم غير ممكنة من دون تطوير الشريعة الإسلامية لتلائم العصر. ورأيه هذا موافق لآراء معظم المفكرين الإسلاميين المعاصرين الذين يدعون إلى التجديد الإسلامي، لكن الاختلاف في أن محمود اتخذ في ذلك نهجا جذريا، حيث دعا إلى نسخ معظم أحكام المعاملات التي اشتُرعت للدولة الإسلامية في المدينةالمنورة (ما اسماه الأحكام المدنية)، باعتبارها أحكاما مؤقتة مرتبطة بالواقع الاجتماعي والاقتصادي لتلك الفترة التاريخية، واستبدالها بأخرى تلائم واقع العصر وتستند إلى مبادئ الإسلام العامة (ما أسماه الأحكام المكية)، التي يشترك فيها الإسلام مع جميع المذاهب الإنسانية السامية الأخرى، حيث أن الغاية من أحكام المعاملات هي المصلحة العامة، ومن ثم فهي قابلة للتكييف بما يلائم تغير الظروف، واستثنى من ذلك أحكام القصاص باعتبارها قائمة على قاعدة الجزاء بالمثل. وليس هذا الرأي غريبا تماماً إذا تذكرنا أن سيدنا عمر بن الخطاب أوقف العمل بحد السرقة أثناء المجاعة وأسقط نصيب أهل الصفة من الصدقة ومنع توزيع أراضي العراق المفتوحة على المحاربين باعتبارها فيئا، وكل هذه أحكام شرعية، وإذا تذكرنا أنه لا يكاد أحد اليوم يرى بقاء العمل بأحكام الرق والاسترقاق، مثلاً، ولا أن علينا غزو كل "ديار الكفر" وفتحها. وجعل الأستاذ محمود، في منظومته الفكرية، أساس النظام السياسي والاقتصادي هو الديمقراطية والاشتراكية، التي اعتبرها تتمثل في ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وأساس الحقوق هو المواطنة. هكذا أنشأ الأستاذ منظومة فكرية شاملة، مستندة إلى المصادر الإسلامية وغير الإسلامية. وهذه محاولة فذة ربما لم يسبق لها مثيل في عصرنا الحاضر، وربما تشبه المنظومة الفكرية التي أنشأها حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في عصره. ولعل كثيرين ممن كتبوا عن الأستاذ لم ينتبهوا إلى النظر في أفكار الأستاذ باعتبارها منظومة متكاملة، فكأنهم رأوا الشجر ولم يروا الغابة. وعبَّر محمود عن تلك المنظومة الفكرية بأنها "الرسالة الثانية للإسلام"، التي يبدو أنه اعتبر نفسه صاحبها، حيث قال: "مَن رسول الرسالة الثانية ؟؟ هو رجل آتاه الله الفهم عنه من القرآن ، وأذن له في الكلام ." (الرسالة الثانية من الإسلام، مقدمة الطبعة الرابعة). وبذلك فتح على نفسه الباب، غير هياب، أمام كل من يريد أن يقدح فيه وفي دعوته. ونظرية وحدة الوجود ليست نظرية الحلول والاتحاد. فليس عند محمود حلول أو اتحاد بل " تنزلات إلهية" من "الذات الإلهية الصرفة"، مرورا بعالم اللاهوت إلى عالم الملكوت إلى عالم الملك، عالم المادة، ثم صعوداً من جديد عن طريق التطور والسمو على الطريق الذي لا نهاية له، طريق الله. ففي مقابل النظرية المادية التي ترى أن العالم هو المادة ولا يوجد شيء غيرها (لا إله والكون مادة)، وأن العقل ما هو إلا نتاج للمادة، وفي مقابل نظريات الحلول والاتحاد أيضا، اعتبر محمود أن الوجود الحقيقي هو وجود الله سبحانه وتعالى وأن وجود العالم بمثابة ظل أو انعكاس لوجود الله سبحانه وتعالى وليس وجوداً قائما بذاته. وهذا الموقف مشابه للموقف الذي اتخذه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي والذي كان سبباً لإحراق كتبه في بعض الممالك الإسلامية القديمة. ولم تأت هذه النظرية عبثاً أو اعتباطاً بل حلا لمسألة أنه إذا كان للعالم وجود قائم بذاته فإن ذلك يعني قيام وجود مستقل إلى جانب وجود الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يمكن أن يفسَّر بأن هناك حدوداً لوجوده سبحانه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وهذه مسائل فلسفية وعقائدية شائكة لست أهلا للخوض فيها، ولكن عرضتها فقط لأوضح العمق الذي ذهب إليه تفكير الأستاذ محمود. أما نحن العوام فنؤمن بما وجدناه مكتوبا عندنا في كتاب الله في هذه الأمور ولا نحاول تأويلها أو تفسيرها، حمانا الله وإياكم من الزلل. ختاما، هل كان محمود كافرا مرتدا يستحق الإعدام؟ أرى أن من الواضح بداهة أن الأستاذ كان مؤمنا عميق الإيمان بالله ورسوله ودينه، ربما أكثر كثيرا من بعض خصومه، وقد كرس حياته كلها لنصرة هذا الدين من خلال نشاطه الفكري والسياسي والتربوي والاجتماعي، من وجهة نظره، وعاش زاهدا لا يطلب من متاع الدنيا إلا الكفاف. وقد كان في آرائه متأوِّلا مجتهدا، أخطأ أو أصاب، ولم يأت بآراء لم يسبقه عليها أحد من علماء المسلمين المشهود لهم بالعلم. أما الصلاة فلم يطلب إلى الناس تركها بل كان طلبه إلى الناس بإلحاح منذ بداية دعوته إلى نهاية عمره هو إتقانها، لكونها، مع الصيام، السبيل الأساسي للقرب من المولى عز وجل. وهو نفسه لم يترك الصلاة بل كان يصلي وحده منفردا، ولا نعرف على وجه اليقين كيفية صلاته هذه التي يسميها صلاة الأصالة، ولذلك لا نستطيع الحكم لها أو عليها. ولا شك في إن منظومته الفكرية قابلة في نهاية المطاف للنقد العلمي والمناقشة الموضوعية، ولعل تلاميذه أولى من يقوم بذلك. لقد انتقد محمود نقدا لاذعا كل فئات المجتمع السوداني تقريبا واستعداها: الفقهاء، وأصحاب الطرق الصوفية والأحزاب السياسية الطائفية والشيوعيين والبعثيين والناصريين والقوميين العرب والمايويين والإخوان المسلمين والحكام، ...الخ، فكان مكروها لدى معظمهم، ولكنه كان قريبا إلى أفراد الشعب محبوبا لديهم، لتواضعه وزهده وحسن خلقه وشجاعته وجرأته في قول ما يراه حقاً، كما اتضح من صدمة معظم الناس عند إعدامه. وكان آخر خصومه النميري بعد أن انتقد الأستاذ إصدار قوانين الشريعة الإسلامية أو ما يسمى قوانين سبتمبر، وهي قوانين استند معظمها إلى نصوص يرى محمود أنها منسوخة، مثل حكم قتل المرتد. وكان قضاته هم خصومه أنفسهم، وكانوا حريصين على سرعة الحكم عليه وإعدامه كيفما اتفق، كما يتضح من أن المحكمة العليا أسقطت الحكم الصادر عليه، بسبب خلل إجراءات المحكمة الابتدائية. ولو أنصف خصومه لأقاموا له قبل المحاكمة مناظرة فقهية مع من يتهمونه بالردة والزندقة، كما كان الخلفاء العباسيون يفعلون في مثل هذه الحالات. وأغلب الظن أنه كان سيتغلب على مناظريه لو أجروا له مثل تلك المناظرة، فقد كان من المعروف عنه أنه لم يناقش أحدا إلا غلبه. المراجع: موقع "الفكرة الجمهورية" (https://www.alfikra.org) ومصادر أخرى متاحة على الشبكة العالمية. فؤاد العجباني - فيينا - 20/3/2020.