كلما استعادت الذاكرةُ كابوسَ الإنقاذ وسنواته الثلاثين العجاف، وما عاناه شعبُنا إبّان هذه العقود الثلاثة من حرمان.. وأخصُّ الحرمان من الحرية - أغلى خيارٍ وهب الله الإنسان - وما ذاقته الملايين على يد الإنقاذ من مسغبة وحروب وتشريد.. كلما تذكرت ذلك ، أو حامت أطباف شهدائنا الأبرار الذين وهبوا ترابنا دماءهم الزكية وأرواحهم الطاهرة حتى نفوز بالحرية في ثورة شهد عظمتها العالم بأسره .. كلما استعدتُ هذا الشريط البديع والقاسي من الصور ، تداعت معه لذاكرتي أبيات شاعر الإنسانية، وضميرها الحي محمد مفتاح الفيتوري في رائعته " إبتسمي حتى تمر الخيل"، إذ يقول : فابتسمي حينَ يجئُ قمَرُ الثورةِ.. في أرديةِ القتْلَى، ويمشي الهودجُ الأسودُ محمولاً ... على محفّةِ الأصيلْ ! إبتسمي ، حتى تمُرَّ الخيلْ !! بديعة وقاسية حكاية الثورة السودانية. وهي إذ نتملّاها، شديدة التوهّج، طويلة المشوار. فالذي يمعن النظر والتفكّر في تاريخ الشعوب، يعرف أنّ مشوار ثورتنا لمّا يزل ماضياً في طيِّ المراحل ملحمة بعد أخرى. فالثورة السودانية التي نادت بالإستقلال وقيام الدولة الحديثة منذ ثلاثينات القرن الماضي ، كان سلوكها حضارياً. إذ سعت منذ ذلك الوقت البعيد سعياً يرفض رفع السلاح الهمجي، لكنه يعبّيء الملايين ويزحم بها الشوارع. كانت تجربة المهاتما غاندي لتحرير الهند - مقاومة الإستبداد باللاعنف - في بدايتها ، لكنها ألهمت الشعوب المستعمَرة. ونحن السودانيون ليس بدعاً أن ندهش العالم اليوم بثورةٍ صرعت الطغيان المسلح بسلميةِ شارعِها ، وإصرار شبابها على مقابلة الرُّصاص الحيِّ بصدورٍ عارية وحناجر تصدحُ بالهتاف: (حرية ، سلام وعدالة .. والثورة خيار الشعب!!) في 6 أبريل 2019 سجّل شعبُ السودان حضورَه في دفتر بطولات الإنسانية حين أعلن للعالم أنّ دولة الإستبداد التي قادت مليشيات "الجهاد"المزعوم ضدّ مواطنيها في جنوب البلاد، وشنّت حرب إبادة في دار فور ، كان ضحيتها فوق الثلاثمائة ألف إنسان، وحرب القصف بالقنابل والبراميل المتفجرة في جبال النوبة والنيل الأزرق ، إضافة إلى ضحايا النظام المستبد في الشرق والشمال وفي الخرطوم حاضرة البلاد.. ليس بدعاً حين أعلن شعب السودان في 6 أبريل 2019 أن ذلك كله أصبح في ذمة التاريخ. لكن شعبنا - حتى اليوم لم يقل بأنّ ثورته قد بلغت منتهاها. فالحرب جولات.. و6 أبريل 2019 بكل ما أنجزته ليست سوى محطة من محاط ثورة السودان لبناء وطن العدالة والمساواة. وهذا مشوار بدأ بمؤتمر الخريجين - جيل احمد خير المحامي ومدثر البوشي وآخرين في ثلاثينات القرن الماضي. إلا إنّ مشوار الثورة كما قلنا يعجُّ بالصعودِ والهبوط. هل منكم من يخبرني كم من السنوات والصراع المرير طوته الثورة الفرنسية أو ثورة الهند بقيادة غاندي لتصنعا تاريخاً يحتذى في الحرية والكرامة والمساواة؟ أودّ في خاتمة مقالي أن أهمس لشباب ثورة ديسمبر العظيمة بأننا ننتظر جولة جديدة وصعبة في مسيرة نضال شعبنا وسعيه لبناء دولة الحقوق والمساواة - دولة مدنية غير مغشوشة.. أنتم من يحرس شارعها. أقول ذلك لأنّ الزواحف ما يزال فحيحها حولنا ليل نهار! شكراً لشمس الحرية التي منحتهم ما كانوا يبخلون به على الملايين من أبناء وبنات شعبنا- الحرية. ما نزال يا شباب الثورة ولجان المقاومة نسعى لتحقيق حلم تتهدده السرقة و الخيانة ممن يرتدون أقنعة الثورة ويشحذون لها المدي والخناجر !! ما نحن فيه الآن ليس نهاية المشوار.. وما أنجزه الشارع منذ أبريل الماضي ليس سوى بعض مشوار الثورة السودانية الطويل والرائع صوب الدولة المدنية الحق..دولة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. دولة ليست ضد أن يعتقد الإنسان ما يشاء، لكنها ترفض التجارة بالعقائد. وكفانا من ملأوا الأجواء بالتكبير ثلاثين سنة : (هي لله ، هي لله) بينما شهد عهدهم الظلم في أقصى درجاته. وهل من ظلم أكثر من أن يطعموا - وهم العصبة القلة- ما لذا وطاب ويسكنوا القصور باسم التمكين، بينما يطعم جل شعبنا الفتات ويأكل ألاف المشردين من قمامة ما يلقونه من فضلات موائدهم المكتظة بحرام ما سرقوه من عرق الملايين من أبناء وبنات شعبنا؟ دولتنا المقبلة لا تشبههم من قريب أو بعيد. لذا فهم يكثرون من التباكي هذه الأيام. بل الأغرب تهديدهم باللجوء للشارع! أيُّ شارع؟ حقاً .. الإستحوا ماتوا ! هناك شارع واحد يا اخوان يا مسلمون: هو الشارع الذي كتب نهاية عهدكم.. ذلك الفصل الذي سيظل هو الصفحة الوحيدة الشائهة في دفتر تاريخ بلادنا الناصع! أخيراً.. يا شيخي شاعر الضمير الإنساني المعذب - محمد مفتاح الفيتوري، أستميحك أن أردّد ما قلته للحبيبة قبلي. أنَ أردد قولك: فابتسمي حين يجئ قمر الثورةِ.. في أرديةِ القتْلَى، ويمشي الهودجُ الأسْودُ محمولاً ... على محفّةِ الأصيل ! ابتسمي ، حتَّى تمرَّ الخيلْ!! لك ولوطنٍ غنّيتَ له قبلي، المجد والخلود. فضيلي جمّاع - لندن 6 أبريل 2020 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.