تُعتبر نظرية اللعبة أو ما تعرف في العلاقات الدولية وعلم الاقتصاد وغيرهما من العلوم ب Game theory واحدة من أهم معالم طرق التفكير الإستراتيجي. وتتوقف على بعض المعطيات ، أهمها وجود اللاعبين في مضمار التنافس. وأن لكل لاعب مصالح قد لا تتوافق بالضرورة مع مصالح الطرف الآخر. وأنها تقود لخيارات يضمن فيها اللاعب ما يبقيه في المضمار بغض النظر عن خيارات أو اختيارات بقية اللاعبين. ومن أهم ما تتضمنه نظرية اللعب هي معضلة السجينين Prinsoners' dilemma التي تتعقد فيها الاختيارات والاحتمالات. ليكون كل لاعب في مواجهة مباشرة مع مصلحته مع الوضع في الإعتبار صعوبة التكهن بما يمكن أن تستقر عليه خيارات الطرف الآخر فيما يعرف بمنطقة التوازن... أو بشكل أدق توازن ناش Nash equilibrium نسبة لعالم الرياضيات الامريكي جون فروبس ناش 2015 - 1928م وهي النقطة التي يصل فيه المرء للخيار الصعب في حدود الممكن دون أن يبلغ نقطة الخسارة الكاملة. يمكن تطبيق معضلة السجينين على خيارات الفرقاء على السد الإثيوبي لمعرفة كيف تم ابتلاع المفاوض السوداني في جوف المصالح الإثيوبية ، أو معرفة مستوى التفريط التي أوصلت المفاوض السوداني أن يفقد كينونته في لعبة مفاوضات السد بالدرجة التي حملته أن يكون أقرب للوسيط منه للمفاوض الأصيل داخل اللعبة. ولفرز المواقف بين فرقاء السد يركز هذا المقال على فاعلين فقط هما الجانب (السوداني والاثيوبي) ... هنالك لاعبون أخرون بالطبع، ظاهرين وخفيين لايهتم المقال بهم لأن هذا المقال معني بشكل أساسي لتبيين كيف أخرج الاعب السوداني نفسه من حلبة المفاوضات ولم يعد وجوده مهما. وكمدخل أولي لابد من شرح مبسط وسريع لمعضلة السجينين التي سيُبني عليها التحليل... في المجمل تقوم معضلة السجينين على الخيارات المطروحة أمام كل سجين. فالمعضلة في افتراضها الأساسي تقول :( بأن هنالك سجينان ألقي القبض عليهما بتهمة في جريمة ما... وُضع كل منهما في حجز منفرد... يَعرض المحقق أمام كل واحد منهما على حدا أربع خيارات... الخيار الأول : أن تنكر التهمة وتلقي بها على الزميل الآخر بحيث تضمن لنفسك البراءة وتخرج حراً ويسجن الآخر 10 سنوات. الخيار الثاني: أن تعترف بالتهمة وينكرها الآخر بحيث تسجن عشر سنوات ويصير الآخر حرا. الخيار الثالث: أن يعترف كلاهما بالتهمة بحيث يكون السجن خمسة سنوات لكل منهما بتقاسم مدة العقاب. الخيار الرابع: أن ينكر الطرفان التهمة ويحكم على كل منهما بسنة واحدة لعدم كفاية الأدلة). هكذا انتهى عرض المحقق لتبدأ معضلة السجينين. والتي تتمثل في أن أياً من السجينين لا يستطيع التكهن بكيفية تصرف الطرف الآخر إزاء العرض. وبذا تبدأ اللعبة ويدخل كل منهما فيما يُسمى بالتفكير الاستراتيجي أو صناعة القرار الاستراتيجي لضمان الخروج بأقل الخسائر. تجسد الخيارات الأربعة أعلاه حاصل اللعبة لكلا الطرفين بالصورة الآتية في الخيار الأول Win- loose الخيار الثاني loose - Win الخيار الثالث loose - loose والرابع Win - Win. تقرر العلاقات الدولية مبدئيا أن كل دولة هي كيان قائم بذاته وله مصالحه التي يجب أن يحققها في المسرح الدولى إما على حساب الآخرين بالقوة. أو بالتوافق معهم بالتفاوض. كما أنها تقرر من جهة ثانية أنه لا مجال في سبيل تحقيق المصالح للركون لما يسمى ب (حسن النوايا). هنا يمكن الولوج لموقف المفاوض السوداني وتتبع نقاط ضعفه في العملية التفاوضية باستصحاب معضلة السجينين... فالواضح أن المفاوض السوداني بني كل خياراته على الفوائد المتعددة التي وعدته بها اثوبيا من السد أو التي مَنّى نفسه بتلك الأماني ( وتجلي هذا الموقف في توقيع السودان على إعلان المبادئ 2015م والذي وردت فيه للمفارقة عبارة "بحسن نية" بشكل متكرر) وأخذ بالتالي يبشر بالسد باعتباره غنيمة مجانية للسودان. ولمعرفة تفاعل معضلة السجينين في حسابات كل منهما ، يمكن ولتقريب الصورة ضرب مثل بشخصيتين رمزيتين (عباس وتسفاي) في التعامل مع عرض المحقق في الخيارات الأربعة. يفكر عباس في الخروج من المعضلة بالتزام خيار الإنكار على "أمل" أن يتخذ تسفاي نفس الموقف. غير أن حسابات تسفاي تختلف في كونه يفكر بطريقة تجعله لا يخسر على الإطلاق بغض النظر عن الموقف الذي قد يتبناه زميله. فيذهب لخيار الإعتراف على زميله ويضمن لنفسه البرءاة. يُلاحظ أن عباس لجأ لخيار حالم وساذج. ولم يفكر في ما قد يذهب إليه تسفاي. في حين أن الأخير قد حصن نفسه تماما بانكار التهمة ورمي زميله بها. وهنا يكون قد استفاد من توازن ناش واتخذ قراراً استراتيجياً بغض النظر عن موقف زميله حيث وضع نفسه في منطقة الأمان، لأنه لن يكون الخاسر ابدا. فبالرجوع لموضوع السد، المؤكد أن إثيوبيا قد قامت ببناء سد ضخم بسعة 74 مليار متر مكعب وعلى الأراضي السودانية في إقليم بني شنقول. ويشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي السوداني من جهتين الاولى التحكم في المياه مما يمكِّن إثيوبيا من منعها منه كيفما شاءت ومتى شاءت. الثانية بتدميره حال انهيار السد لأي سبب كان. هذا فضلا عن بقية المخاطر التي كان يجب أن يضعها المفاوض السوداني في الحسبان مثل اثر التغير المناخي والمردودات البيئية الناتجة عن السد وانعكاساتها على أوضاع سبل كسب المعيشة لدى آلاف السودانيين المستفيدين من النيل الأزرق وعلى إيكولوجية النهر والمنطقة المحيطة به. لم يعبأ المفاوض السوداني بهذه المخاطر ولم يطرحها على طاولة المفاوضات طبقا لمبدأ الإنكار ولاذ بالصمت، ونظر لجني الربح الكامل من السد ( بحسن نية) في حين لم تضمن له إثيوبيا في المقابل أيما شيئ - تماما كما فعل تسفاي مع عباس- . فحاصل الأمر أن السد بالنسبة لإثيوبيا هو مشروع استراتيجي وأطلقت إسم سد النهضة دلالة علي انها تبني عليه آمال نهضتها وتحقق من خلاله مصالحها وتعظمها. والمعروف أنه وفي اطار تحقيق المصالح لا تَقدم الدول على كشف تلك المصالح ، وإنما تحمل الآخرين حملاً بالاغراء أو تجبرهم بحكم الأمر الواقع على الامتثال لها وعدم الاعتراض عليها. وهذا ما حققته من الجانب السوداني الذي لم يبد اي إعتراض على السد بل بالعكس راح يروج له (بموجب الإنكار وافتراض ذات حسن النية) ولم يطرح في جولات المفاوضات المختلفة المخاطر المرتبطة بالسد كما لم يثر قضية الأرض التي يشيد عليها السد ولو على سبيل كسب المزيد من كروت الضغط لضمان موقف تفاوضي متقدم. عند هذه النقطة تتبدى أهمية نظرية اللعب من خلال معضلة السجينين. إن ركض السودان وراء تحقيق كل المكاسب من السد بإيثاره خيار الإنكار تماما كما فعل عباس جعله يفقد خيار الخروج بأقل الخسائر أو بلغة أخرى افقده خيار اتخاذ القرار الاستراتيجي الذي يضمن القبول ببعض الخسائر مقابل عدم الخسارة الكلية. والخسارة الكلية هنا هي اصالة الموقف التفاوضي السوداني (كتخفيض سعة السد مثلاً وجعلها في حدود المقبول دون أن تشكل بقية مخاطر السد اي عواقب كارثية عليه). هنا تنطبق معضلة السجينين على الحالة السودانية، فقد آثر السودان ومنذ الوهلة الأولى وبدون تروي وتفكير إستراتيجي أن يخرج بكل المكاسب دون مراعاة لحساب الطرف الآخر تسفاي الذي أنكر التهمة عن نفسه وحملها لزميله عباس، فضَمِن لنفسه البراءة بينما سيقبع زميله الساذج في السجن. تجسد مواقف كل من عباس وتسفاي في اللعبة أن عباس قد نزع لأن يكون الموقف وبحسن نية win- win غير أن تسفاي وبناءً على اتخاذه قرارا استراتيجيا مكنه من الخروج غانماً دون يخسر شيئاً بغض النظر عما ينتظر زميله من عواقب. د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.