تميزت الفترة الماضية بجهد حثيث لمركز الأيام وربانه استاذنا محجوب محمد صالح، وبمشاركة قوى سياسية ونقابية واكاديمية بإعداد مسودة لقانون النقابات الجديد. كما شهدت نفس الفترة تحركات محمومة وصراعات خفية حول القانون. وصل بعضها الى مكاتب منظمة العمل الدولية في جنيف، التي أعلنت دعوتها لنا للالتزام بالمعايير الدولية المعروفة للحريات النقابية. أتقدم بمساهمة متواضعة، لإيماني بأهمية الوعي العام بقضية القوانين النقابية، وللمساعدة في التحضير لاستعادة الحركة النقابية. سأبد بقانون 1948، الذي بدأ تنفيذه في 1949، لأنه أول قانون للنقابات، ولان البعض يستخدمه كمرجعية للقوانين اللاحقة. سأبدأ بخلفية مختصرة لإصدار القانون، وما صحبها، ثم أقدم قراءة مختصرة لبعض لمواد. نشأة متفردة: تفردت الحركة النقابية السودانية، عن معظم الحركات النقابية في العالمين العربي والأفريقي، انها اسست من قبل العمال أنفسهم، بعيدا عن وصاية السلطات الحاكمة او الاحزاب السياسية، حاكمة أو معارضة. هذه الحقيقة الأساسية والهامة، شكلت هويتها واسلوب عملها، وطريقة ادارتها. فنشأت منذ البداية حركة ديمقراطية ومستقلة ومصادمة. تلك السمات حددت مسيرتها وأعطتها مكانة وطنية متميزة، ولكنها في نفس الوقت جلبت لها عداء الحكومات، والطامحين في السيطرة عليها. لعب بعض خريجي مدرسة الصنائع دورا قياديا في انشاء لجنة تمهيدية وتحولت دارهم، بمدينة عطبرة، لمقر لنشاطهم النقابي. وتم اعداد مذكرة لإدارة السكة الحديد تطالب بالاعتراف بها والتعامل معها كتنظيم نقابي. ماطلت الادارة وتهربت من الرد وادعت انها لن تتعامل مع اللجنة لأنها لا تمثل العاملين. قرر العمال تسليم مذكرة بموكب عمالي بعد ساعات العمل الرسمية لتأكيد دعمهم وتأييدهم لقيادة لجنتهم. مارست السلطة العنف ضد العمال واعتقلت قياداتهم فتقرر اضراب فورى لكل عمال السكة الحديد. صمد العمال واغلق اضرابهم شبكة النقل الحديدي التي تعتمد عليها الدولة الاستعمارية. قررت السلطة احتواء مطلب العمال بكيان بديل عن طريق تقديم مشروع اخر يتمثل في قيام لجان استشارية في مختلف الوحدات تحت الادارة المباشرة لمدراء تلك الوحدات الانجليز، ولكن العمال رفضوا ذلك المشروع بشدة، وأصروا على لجنتهم النقابية المستقلة. بعد النجاح التام للإضراب بدأت السلطة تتراجع وتمت مفاوضات بمشاركة وفود من الخرطوم، واخيرا تقرر اجراء استفتاء حول شرعية اللجنة فجاءت النتيجة بالإجماع لصالح اللجنة. وهكذا انتزعت النقابة شرعيتها بدعم جماهيري قوى وصارت الممثل الشرعي لعمال السكة الحديد. رأت السلطات الاستعمارية فورة الحماس، وسط العاملين، لإنشاء نقابات بعد الانتصار الكبير لعمال السكة الحديد. قررت السلطات المبادرة بتنظيم ذلك النشاط، حتى تتحكم في مشروعية النقابات، وتضع أسس واضحة لعملها. هناك بنود أداريه، في قانون 1948، لن اتعرض لها، وهي تتركز حول كيفية كتابة وارسال الارانيك ونوع المكاتبات المطلوبة وكيفية اعداد وحفظ الحسابات، في إطار عقلية الاستعمار، الموثقة في مكاتباتهم، بان العمال السودانيين لا يفقهون أبسط الاعمال النقابية. ولكن سأنتقي المواد المقصود بها التحكم في أنشطة النقابات وطبيعة علاقاتها بالمخدمين أو تعاملها مع النقابات الأخرى أو تنسيقها مع الهيئات والمنظمات الوطنية. قراءة في بعض بنود قانون 1948: القسم الأول :" نقابة عمل تعني أي اتحاد سواء اكان بصفة مستديمة أو مؤقتة، أغراضه الأساسية بمقتضى دستوره تنظيم العلاقات بين العمال ومخدميهم أو بين العمال وعمال مثلهم" نلاحظ النص على تنظيم العلاقات، وهو نص معمم ومضلل وغير دقيق، لأنه لا يحوي أي تعريف لما يقصده بتنظيم العلاقات. النقابات في كل العالم قامت لغرض أساسي هو الدفاع عن حقوق أعضائها وتمثيلهم امام المخدم أو الحكومة. ويمكن للمخدم، ببساطة، اتهام النقابة إذا طالبت بحقوق العاملين انها تعمل لتخريب العلاقات، مما يستوجب عقابها أو حلها. القسم الثاني: ليس في كل هذا القسم ما يخول لأي محكمة أن تقبل أي دعوى رفعت بغرض إلزام أو تحصيل تعويض للإخلال باي من الاتفاقيات المتعلقة بالعمل. وهذا شيك على بياض للمخدمين بعدم الالتزام باي اتفاق ( اكبر مخدم هو حكومة السودان نفسها). المادة ( 10) والمادة (12. أ): للمسجل سلطة مطلقة في ان يرفض تسجيل أي نقابة. والمادة ( 15) تحل النقابة في مدى 3 شهور من ابلاغها قرار المسجل، مالم يرفع المسجل المسألة للسكرتير القضائي. في حالة موافقة السكرتير الإداري على رفض التسجيل أو الحل ، تحل نهائياً في ظرف 3 شهور. وفي حالة عدم التزام لجنة النقابة بالحل يدان أعضائها ، ويغرم، كل منهم، مبلغ خمس جنيهات عن أي يوم يمر بعد الحل ( يساوي بالتقريب مرتب شهر لبعض العمال). المادة ( 17) تأمر الا تباشر أي نقابة أو عضو بها أي عمل لتحقيق أغراض النقابة حتى يتم تسجيلها. ويمكن ، للمسجل، التأجيل أو المماطلة في الإجراءات. وقد رأينا سلطات المسجل والسكرتير القضائي في رفض تسجيل او حل أي نقابة. المادة ( 27. 2) " لا يسوغ لنقابة عمل مسجلة مكونة من اشخاص يعملون في الخدمات العامة ان تتحد او تنتسب أو تقوم بعمل مشترك في تحقيق اغراضها بموجب قانونها مع أي نقابة عمل أخرى أو هيئة مكونة من أشخاص ليسوا مستخدمين في الخدمات العامة أو مع أي هيئة سياسية." هذه المادة مقصودة أساسا لتحريم العمل المشترك بين النقابات أو قيام اتحاد للعمال. وأستخدمتها الدارة الاستعمارية لرفض التعامل مع اتحاد العمال باعتباره غير قانوني. ومعلوم تاريخيا النشاط الوطني الذي قامت به النقابات بالاشتراك مع القوى الوطنية الأخرى. ونلاحظ ان نفس هذه العقلية تظهر دائما لحرمان النقابات من الاسهام في القضايا الوطنية. المادة ( 27) تحرم على العمال الشباب ( ما بين 16 – 21 عاما) ان ينتخبوا في لجان النقابات أو أن يكلف أي منهم بأي اعمال فيها. " نلاحظ العداء للعمال الشباب لأنهم كانوا الأكثر صداماً مع الاستعمار. وحدد القانون ان أي اضراب هو عمل غير قانوني، وان أي مطالبة بتغيير شروط العمل غير قانونية، كما ليس للمحاكم النظر في الدعاوى المرفوعة من النقابات. ويصف القانون أي شخص يدعو أو يطالب الآخرين بالتوقف عن العمل بانه يمارس عملاً إرهابيا. ويقدم للمحاكمة بهذه التهمة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.