شاهد.. مقطع فيديو للفريق أول شمس الدين كباشي وهو يرقص مع جنوده ويحمسهم يشعل مواقع التواصل ويتصدر "الترند"    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحركة النقابيَّة السودانيَّة وثورة أكتوبر.. هل رَضِيَت مِنَ الغنيمة بالإياب؟! .. بقلم: د. الواثق كمير
نشر في سودانيل يوم 12 - 11 - 2014


تورونتو: أكتوبر 2014م
مقدمة:
بمناسبة الذكري الخمسين لثورة أكتوبر السودانيَّة، تهدف هذه المساهمة المتواضعة إلى تقديم قراءة في التاريخ السياسي، ورؤية سوسيولوجيَّة وسياسيَّة، لدور الحركة النقابيَّة السودانيَّة، في مسيرة الثورة وتداعياتها على مستقبل الحركة وآفاق تطوُّرها. وتقوم الدراسة على فرضيَّة: أنه بالرغم من أن كل من الدولة والمجتمع المدني بالسُّودان عموماً قد اتَّسما تاريخياً بالضَّعف، إلا أنَّ الحركة النقابيَّة استطاعت أن تحتفظ بقدرٍ من القُوَّة والحيويَّة حتى انقلاب الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة على السُّلطة في 30 يونيو 1989، إذ ظلَّت تتمتع بنفوذ نسبي، مقارنة بمنظمات المجتمع المدني الأخرى، خصوصاً الأحزاب السياسيَّة. وفي هذا السياق، فإنَّ التنظيمات النقابيَّة في السُّودان، بجانب ما تُوفِّره من حمايةٍ لمصالح أعضائها، قد ظلَّت تصارع الدولة تاريخياً من أجل الإصلاح الديمقراطي، كما أنها كانت رأس الرمح في النضال ضدَّ الاستعمار. كما لعبت النقابات دوراً نشطاً وفعَّالاً فى الصِّراع من أجل استعادة وتمكين الديمقراطيَّة، من جهة، والحفاظ على استقلاليَّتها ووحدتها، من جهة أخرى. فقد ميَّزت النقابات في السُّودان نفسها عن باقي تنظيمات المجتمع المدني بنشاطها الفاعل في العمل العام، مِمَّا أهَّلها لاحتلال موضعاً محورياً في التكوين الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد.
وللوصول إلي فهمٍ صحيح وموضوعي لدور الحركة النقابيَّة قي ثورة أكتوبر، فإنه من المهم: أولاً، التعرُّض لظروف مولد، نشأة وتطوُّر الفعل النقابي، في سياق الصرع والنضال ضدَّ الاستعمار، وتحوُّل الحركة من "النقابيَّة المطلبيَّة" إلي "النقابيَّة السياسيَّة".. ثانياً، الانقسامات والانشقاقات، ذات الطابع السياسي، التي شهدتها الحركة العُماليَّة في بدايات تكوينها، وظلت تلازمها، حتى في الفترة التي أعقبت الثورة.. ثالثاً، أدخلت فترة الحُكم الذاتي، وتلك التي أعقبت الاستقلال مباشرة، علاقات العمل والدولة في مرحلة جديدة اتَّسمت بالمُواجهات والصِدَامات بين النقابات والحكومات الائتلافيَّة المتعاقبة، حتى استولت قيادة القوَّات المُسلَّحة على السُّلطة في 17 نوفمبر 1958.. رابعاً، يبدو أن العداء المتبادل بين ما دَرَجْنَا علي تسميته ب"القوى التقليديَّة" وبين الحركة النقابيَّة، والحزب الشيوعي الدَّاعم لها، خلال فترة الصراع ضد المستعمر، قد تمَّ نقله إلى مرحلتي الحُكم الذاتي والاستقلال الوطني، مع اختلاف أنظمة الحُكم.
من خلال هذا التناوُل التحليلي، تتلخَّص أطروحة الورقة في أنَّ الدور القيادي للحركة العُماليَّة في التصدِّي للاستعمار ومناهضة سياساته، وتقديمها لتضحياتٍ جِسَام في هذا الطريق، أهَّلَ الاتحادات العماليَّة والمهنيَّة والفنيَّة واتحادات المزارعين لتلعب دوراً مفتاحياً في مقاومة النظام العسكري الأوَّل، ومن ثمَّ إشعال وقيادة ثورة اكتوبر، ومشاركتها في قسمة السُّلطة الانتقاليَّة بنصيبٍ وافر، ولو أنها مشاركة لم تدُم طويلاً. ومع ذلك، أخفقت الحركة النقابيَّة عموماً، والمهنيَّة خصوصاً، في تحقيق أهدافها السياسيَّة المُعلنة وفي تحويل نفسها إلى تيَّارٍ سياسي له قاعدة اجتماعيَّة عريضة وقوَّة انتخابيَّة معتبرة. ولو أن الحركة النقابيَّة ظلَّت من الدُعاة للديمقراطيَّة التعدديَّة، وكسبت نفوذاً واسعاً خلال فترة "الاستجمام" الديمقراطي، 1964-1969، إلاَّ أنها لم تُفلِح في إقامة تحالف سياسي عريض، أو تستقطب قاعدة جماهيريَّة يُعْتَدُّ بها، كما أن صراعها التاريخي مع القوى السياسيَّة "التقليدية"، والذي تفاقم في هذه الفترة، محدثاً استقطاباً سياسياً حاداً، دفعها للتوجُّس من النظام الديمقراطي التعدُّدي، بل وبذل التأييد والدعم للمُنقلبين عليه من العسكريين في 25 مايو 1969. فقد أصدَرَ الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان بياناً، في نفس يوم الانقلاب، يدعو فيه: «كل طلائع النضال الثوري إلى توجيه الضربة القاضية على بقايا النظام السياسي الرَّجعي، الذي دحرته ثورة مايو، واستلام الضُبَّاط الأحرار للسُّلطة باسم الشعب والجماهير الكادحة»! فهل يا ترى: رضيت الحركة النقابية من الغنيمة بالإياب؟! يبدو أن الأمر كذلك إن أكملنا التأمُّل في المسيرة اللاحقة للحركة، وهذا فصلٌ آخر!
اعتبارات منهجيَّة:
سيتَّبِع التحليل منهجاً متكاملاً يقوم على عددٍ من الافتراضات المنهجيَّة:
1- إنَّ الحركة العماليَّة في السُّودان، بما في ذلك النقابات المهنيَّة، ظلت تاريخياً تمارس نفوذاً اقتصادياً وسياسياً مقدَّراً نسبة لمَقدرتها على حماية المكتسبات الماديَّة. أيضاً، تمتلك النقابات قاعدة مستقلة من الموارد الماليَّة تتيح لها قدراً من حريَّة الحركة، وهامش أوسع نسبياً للفعل. غير أن العامل الحاسم الذي ساعد النقابات في تعزيز سطوتها الاقتصاديَّة والسياسيَّة يكمُنُ في الموقع العضوي والإستراتيجي الذي تحتله في القطاع العام وفي قلب المؤسَّسات الإنتاجيَّة والخدميَّة، خصوصاً تلك التي تملكها وتديرها الدولة.
2- تُميِّز الدراسة بين "الطبيعة السياسيَّة" للحركة النقابيَّة وبين "تسييس" الحركة واستقطابها على نحوٍ سياسي-حزبي. يساعد هذا التمييز المنهجي في التوصُّل إلى فهمٍ صحيح لطبيعة النزاع المُلازم لتطوُّر العلاقة بين الدولة والحركة النقابيَّة، وفي تفسير مساندة مجمل الاتحادات النقابيَّة لانقلاب 25 مايو 1969، مع أنها، للمُفارقة، ظلت تاريخياً في طليعة المناصرين والمدافعين عن الديمقراطيَّة.
3- تميَّزت سيرورة الصراع السياسي-الاجتماعي في السُّودان، خاصَّة خلال المرحلة التي أعقبت الاستقلال، بالتنافُر والصراع بين القوى السياسيَّة "التقليديَّة" والقوى "الحديثة" من ناحية، وبين الحركة النقابيَّة والدولة، من ناحية أخرى، سواءً كان النظام الحاكم عسكرياً أم مدنياً، ولو بدرجاتٍ متفاوتة. فالطبيعة الاجتماعيَّة والسياسيَّة للدولة ونظام الحُكم تحدد إلى قدرٍ كبير، في رأيي، كما لها وقع عظيم وتأثير كبير على الدور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للنقابات. وتتمثل المعايير الأساسيَّة لهذا الدور في صراع الحركة النقابيَّة من أجل الديمقراطيَّة والمحافظة على استقلاليتها ووحدتها. وفي سبيل ذلك، دخلت الحركة النقابيَّة في تحالفاتٍ مع القوى السياسيَّة المختلفة، وإن لم تُفلح في خلق تحالفٍ سياسي عريض يوفر قاعدة انتخابيَّة مستقلة.
4- ليس من التعسُّف في شيء أن نَصِفَ بعض التشكيلات الاجتماعيَّة ب"التقليديَّة" وأخرى ب""لحديثة" في سياق التطوُّر التاريخي والموضوعي للمجتمع والاقتصاد السودانيين. كما صاحب هذا التطوُّر نشوء كياناتٍ سياسيَّة ذات توجُّهٍ تقليدي (الطائفيَّة السياسيَّة) وبرامج تخاطب التكوينات التقليديَّة، من جهة، وبروز قوى سياسيَّة جديدة (الحزب الشيوعي) ونقابيَّة صاغت رُؤاها وبرامجها لمخاطبة التشكيلات الحديثة. ومع ذلك، لا ينفي هذا التقسيم، الذي تقتضيه ضرورة التحليل، التقاطعات والتمفصُل بين هذه التكوينات. وتستخدم الورقة مصطلحي "القوى التقليديَّة" و"القوى الحديثة" كمفهومين سياسيين يُميِّزان بين قُوى اجتماعيَّة تتباين في برامجها السياسيَّة ومواقفها حول قضايا السُّودان الأساسيَّة، خصوصاً العلاقة بين الدين والدولة والهُويَّة وحقوق المواطنة. ارتبط تعبير "التقليديَّة" بالقاعدة الاجتماعيَّة الطائفيَّة أو القبليَّة أو الإثنيَّة، والحركات القائمة علي أسُسٍ دينيَّة، مع مختلف مُسميات حركتهم السياسيَّة، بالرغم من استنادهم أساساً على الشرائح الاجتماعية الوُسطى التي نالت قسطاً من التعليم، غير أن ما يُميِّزهم عن القوى الطائفيَّة هو تنظيمهم العقائدي الذي يجنح نحو الأصوليَّة.
5- على صعيد النظريَّة السياسيَّة، ارتبطت نشأة القوى الحديثة ارتباطاً وثيقاً بما انتهجته الدولة الاستعماريَّة في السُّودان من عدة طُرُق للتحديث الجُزئي لأساليب الانتاج وأدواته بحيث تنسجم مع توجه الإنتاج نحو السوق العالميَّة. وكانت من أهم نتائج هذه السياسات على البنية الاجتماعيَّة بالسُّودان ظهور فئات وشرائح جديدة أفرزتها عملية الانتاج التصديري الحديث. وظلَّ وجود ودور قوى الإنتاج الحديث (عمَّال ومزارعين ومهنيين وموظفين وفنيين) يتعاظم أن على كافة أصعدة الحياة في المجتمع السُّوداني. فالحديث عن القوى الاجتماعيَّة، سواء كانت حديثة أم تقليديَّة، هو حديث يجري على المستوى السياسي، كما أن مصطلح القوى الحديثة في جوهره مفهومٌ سياسي.
مولد ونشأة الحركة النقابيَّة: مقاومة السياسة الاستعماريَّة
1- بالرغم من أن الحركة العماليَّة لم تتخذ شكلاً منظماً حتى الفترة التي أعقبت الحرب العالميَّة الثانية، إلا أن بدايات الحركة ترجع إلي مطلع القرن الماضي، إذ رصدت السجلاَّت الرسميَّة العديد من نزاعات العمل والإضرابات في أنحاء مختلفة من البلاد في 1903، 1907-1909، 1913-14، 1919 و1920 (الساعوري، 1986، بشير، 1987). وقد كانت كل هذه الاحتجاجات والإضرابات العماليَّة، إلى حدٍ كبير، ذات طبيعة اقتصاديَّة، واندلعت بدوافع الظروف البائسة للعمل والمستوى المتدني للأجور، كنتيجة للسياسة الاستعماريَّة التي هدفت إلي التحكُّم في سوق العمل. ومع ذلك، فإن الطلب المتزايد علي العمالة الأجريَّة للعمل في مجالات التشييد والأشغال العامَّة، خاصَّة في بناء السكك الحديديَّة، أفضى إلى نُمُوٍ ملحوظ في قوَّة العمل. أدَّى هذا، بدوره، إلى بزوغ مبكِّر لوعي العمَّال بمصالحهم الاقتصاديَّة المباشرة، وضرورة العمل الجماعي للحفاظ على حقوقهم، خاصة بعد الارتفاع الحاد في أسعار السلع بسبب الحرب العالميَّة الأولى.
2- شكَّل العام 1924 معلماً هاماً في تاريخ تطوُّر الحرمة العماليَّة، حيث بدأت جمعيَّة اللواء الأبيض في تعبئة وحشد العمَّال لخدمة الغايات السياسيَّة الوطنيَّة، والانخراط الإيجابي في النشاطات السياسيَّة للجمعيَّة. ولو أن الظروف الموضوعيَّة لم تنضج بعد لظهور حركة عُماليَّة منظمة، إلاَّ أن الإرهاصات الأولى لتبلوُر الوعي العُمَّالي قد باتت ملحوظة (سلام، 1991.. بشير، 1987.. حاج حمد، 1996). لكن، تظل الفترة بين نهاية الثلاثينيات وبداية الأربعينات تمثل العلامة الفارقة في تطوُّر الحركة النقابيَّة نحو الفعل المنظم لحماية حقوق العمال، في ظِلِّ التداعيات القاسية لكساد عام 1929 العالمي على اقتصاد البلاد، وبالتالي ظروف ومستويات المعيشة، خاصَّة بعد الانخفاض الهائل في الأسعار العالميَّة للقطن.
3- تميَّزت هذه المرحلة بتطورين هامين، أثَّرا بقدرٍ كبير على مستقبل الحركة النقابيَّة: أولهما، ساعد الاهتمام المتعاظم بالعمل المنظم والفعل الجماعي العمال السُّودانيين في ابتداع فكرة "نوادي العمال". وقد كانت هذه النوادي بمثابة منبرٌ للاجتماعات واللقاءات الخاصَّة بمخاطبة مصالح العُمَّال الاقتصاديَّة ورفاهيَّتهم وكافة قضاياهم، وخلق الروابط الاجتماعيَّة، والتداوُل بشأن قضايا البلاد الوطنيَّة. وثانيهما، نزوع الحركة العماليَّة نحو التفاعُل الإيجابي مع حركة مؤتمر الخِرِّيجين والمشاركة النشطة في الجدال حول القضايا العامة والوطنيَّة.
4- ثمَّة ملاحظة هامَّة تستحق الإشارة إليها في هذا الخصوص، فبالرغم من هذا التعاطي الإيجابي، وبينما كانت الحركة العماليَّة في أمَسِّ الحاجة لدعم، والتعاون مع الخِرِّيجين، لم تُبدِ حركة "المُثقفين" أي حماسة نحو قضايا العُمَّال، أو أي محاولة جادَّة للمساهمة في تطوير القوى العاملة. عوضاً عن ذلك، اكتفي الخِرِّيجون بإبداء التقدير للحركة العُماليَّة إزاء موقفها ضد الاستعمار، بينما ظلوا مرتبطين بولاءاتهم الطائفيَّة (حاج حمد، 1996). ولعلَّ عدم مبالاة القوى الطائفيَّة بقضايا العُمَّال قد مهَّدت الطريق لتطوُّر حركة عماليَّة مستقلة ومنفصلة عن هذه الكيانات، وشكَّلت قاعدة متجذِّزة في المنظمات الحضريَّة اللامركزيَّة للمجتمع.
5- شهدت هذه الفترة سعي العمال لترجمة إستراتيجيَّة الفِعْل الجماعي على أرض الواقع، بالدخول في سلسلة إضراباتٍ عن العمل، وصل عددها الي 19 إضراباً بين 1936 و1942. شكَّلت هذه الأحداث مدخلاً لمطلب العُمَّال المتواصل لتكوين نقاباتهم المستقلَّة. وقد قُوبل مطلب الحق في التنظيم بالتشكيك والرَّفض المُتشدِّد من قِبَل الإدارة الاستعماريَّة.
6- تمثل بداية الحرب العالميَّة الثانية نقطة تحوُّل في تطوُّر العمل النقابي كحركة احتجاج اقتصاديَّة وسياسيَّة طوال المرحلة الاستعماريَّة. فقد كانت للحرب آثاراً سلبيَّة على الأوضاع الاقتصاديَّة بالبلاد مِمَّا انعكس في الزيادة الحادَّة في تكاليف المعيشة وتدهوُر دخول العُمَّال ومستوياتهم المعيشيَّة، مع نُدرةٍ شديدة في السلع الأساسيَّة. ذلك إضافة، إلى الحجم المُتزايد للقوى العاملة في المناطق الحضريَّة، وبداية سلسلة جديدة من الإضرابات في 1946. وفي نفس العام، تمَّ تأسيس "لجنة العُمَّال" في رئاسة مصلحة السِكَك الحديديَّة في مدينة عطبرة، مطالبة بالاعتراف بها من قبل إدارة المصلحة، والتي رفضت هذا المطلب بصلفٍ، حتى بعد أكثر من ستة أشهر من المفاوضات.
7- في ظِلِّ ضغوط العُمَّال المتواصلة، رضخت الإدارة، ولو تكتيكياً، لمطلب حق العُمَّال في التعبير عن مطالبهم عن طريق هيئة تمثيليَّة. فاقترحت الادارة "لجان العمل" كجسمٍ استشاري على غرار التجربة البريطانيَّة، بحيث ضمَّت عضويَّة اللجان ممثلين منتخبين للعُمَّال وأعضاء تقوم الإدارة باختيارهم وتعيينهم، ليُشكِّلوا مستشارين للإدارة. ومع ذلك، لم تقصد الإدارة الاستعماريَّة بهذه الترتيبات، بأي حالٍ من الأحوال، تشجيع التنظيم النقابي، بل هدفت أساساً إلى إبطاء حركة الإضرابات العماليَّة. لكن، لم تغِب هذه المناورة عن فطنة العُمَّال، فرفضوا المفهوم برُمَّته وامتنعوا عن أن يكونوا أعضاءً في لجان العمل، بل، بدلاً عن ذلك، امتلكوا زمام المبادرة بأنفسهم وثابروا علي تأسيس "هيئة شئون العُمَّال" (بشير، 1987).
8- وفي مواجهة تعنُّت الإدارة، مضت هيئة شئون العُمَّال قُدُماً في الفعل المُنظَّم، والذي شمل تقديم المذكرات وتنظيم المظاهرات والدخول في إضرابٍ مُطوَّل، استمرَّ من 12 إلى 23 يوليو 1947 (الساعوري، 1986، بشير، 1987). ولو أن السُّلطات اعترفت بالهيئة في نهاية الأمر، إلا عُمَّال السكَّة حديد أسرعوا بالمطالبة المشروعة بحقهم في تكوين نقابة تمثلهم تمثيلاً صحيحاً، فدخلوا في إضرابٍ مُطوَّل استغرق شهراً كاملاً (16/3-18/4/1948) من أجل تحقيق هذا الهدف. وللإنصاف، وجد الإضراب تأييداً وتضامناً من القوى السياسيَّة الرئيسة، وإن جاء متأخراً، واقتصر على المساعدة المعنويَّة والماديَّة والتوسُّط في النزاع الناشب بين هيئة شئون العُمَّال وإدارة السِكَك الحديديَّة (طه، 1970). واستسلمت الإدارة لنضال العُمَّال المتواصل لتأسيس نقاباتهم الديمقراطية المستقلة. وهكذا، اضطرَّت الحكومة لإصدار قانون النقابات في 1948، وتشريعاتٍ أخرى ذات صلة.
9- وبالرغم من أن قانون 1948اعترف بحق العمال في تنظيم النقابات في أماكن عملهم، إلا أنه لم يسمح بتأسيس الاتحادات النقابية، وبالتالي إعاقة وحدة العمال. علاوة علي ذلك، منح القانون مسجل النقابات، وهو موظف حكومي، سلطات غير محدودة في ما يلي إجراءات تسجيل النقابات. كما اشتمل القانون علي أحكام تقييد حرية العمال في التنظيم، مما يعد مخالفا لاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 84 لعام 1948.
الانتقال ل"النقابيَّة السياسيَّة"
1- لم يتوقف العُمَّال عن مقاومة السياسة الاستعماريَّة الرامية إلى تشجيع تكوين النقابات، شريطة أن تظلَّ كتنظيمات اقتصاديَّة واجتماعيَّة الطابع، تنأى بنفسها من التورُّط في أي نشاطٍ سياسي. فقد واصل العُمَّال نضالهم بقوَّة لإزالة كل القيود وأوجه القصور في قانون 1948. وهكذا، في 5 أغسطس 1949، نظمت هيئة شئون العُمَّال في السكَّة حديد و14 هيئة أخرى المؤتمر الأول للعُمَّال لمناقشة كل عيوب القانون، والقوانين الأخرى، ولتحديد المفاهيم الأساسيَّة للحركة النقابيَّة في سياق التوجُّه الوطني للحركة، وعلاقاتها مع القوى الاجتماعيَّة الأخرى. كسب مؤتمر العُمَّال اعتراف الحكومة به وشَرَعَ في مفاوضاتٍ أفضت إلى تعديلاتٍ في قانون 1948 وقانون تسجيل النقابات. وفصَّل المؤتمر المبادئ الرئيسة والموجِّهة للحركة العماليَّة، ومن بينها: وحدة العُمَّال كعمود فقري للحركة النقابيَّة، استقلال الحركة من أي نفوذ حزبي أو طائفي، توافق مصالح العُمَّال مع المصالح والأهداف الوطنيَّة والقوميَّة، تغليب ولاء العمال لتنظيماتهم النقابيَّة على أي انتماءاتٍ حزبيَّة أو طائفيَّة، وترسيخ الإرادة الحرَّة للعُمَّال وحقهم في انتخاب قياداتهم (سلام، 1991). كثف العُمَّال في مختلف القطاعات الاقتصاديَّة جهودهم لتنظيم وتسجيل نقاباتهم وفقاً لقانون 1948 (المُعدَّل 1949). ففي مايو 1950، وصل عدد النقابات المُسجَّلة إلى 80 تنظيماً، وهو تطورٌ قاد الي تحوُّل مؤتمر العُمَّال إلى "الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان"، والذي عقد مؤتمره العام في 15 نوفمبر 1950.
2- إضافة إلى سوء أحوال العُمَّال الاقتصاديَّة، وقسوة سياسات العمل الاستعماريَّة، فإن تزايُد الوعي الوطني في أعقاب الحرب العالميَّة الثانية ساهم بشكلٍ كبير في الانتقال من "النقابة الاقتصادية" إلى تسييس وتجذير الحركة النقابيَّة. وتشير الدلائل المتوفرة إلى أن امتعاض العُمَّال من البريطانيين، كمُخدِّمين وحُكام على حدٍ سواء، لعب دوراً رئيساً في صعود الحركة العُمَّاليَّة (طه، 1970). كما أن نشأة القوى العاملة في السُّودان «قد سبقت نُمُوِّ البرجوازيَّة المحليَّة، وبالتالي فإن التطوُّر الاجتماعي للحركة العماليَّة ووعيها بنفسها لم يتحدَّد بتناقُضها مع قوى البرجوازيَّة السودانيَّة، بل عن طريق النضال ضد المُخدِّم، الذي تمثله الدولة الاستعماريَّة القمعيَّة، بطريقة تشابكت فيها المطالب الاقتصاديَّة مع القضايا الوطنية في المواجهة مع "المُخدِّم الاستعماري"».
3- منذ إنشائه، تفاعَلَ الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان، بشكلٍ وثيق، وشارك بفعاليَّة في النشاطات السياسيَّة، وأقام الروابط مع الحركة الوطنيَّة الوليدة. وبالرغم من أن دستور 1950 لاتحاد العُمَّال ركَّز على الدفاع عن حقوق ومصالح العُمَّال، إلاَّ انه لم يأخذ الاتحاد وقتا طويلاً حتى بدأ في الانخراط بحماسٍ في العمل السياسي. وهكذا، على سبيل المثال، دوراً بارزاً في إنشاء اتحاد مزارعي الجزيرة، الاتحادات الطلابية، فضلاً عن اتحادات المزارعين في جبال النوبة والنيل الأزرق والنيل الأبيض وشمال السُّودان.
4- ومع ذلك، فالمؤتمر العام الأول للاتحاد العام للعُمَّال، ديسمبر 1951، هو الذي أدخل الاتحاد في دهاليز السياسة الوطنيَّة. ركَّزت أجندة المؤتمر على القضيَّة الوطنيَّة، بطريقة سمحت علناً لاتحاد العمال بالاشتغال بالسياسة الوطنيَّة. أضاف المؤتمر أربع تعديلاتٍ كأهدافٍ سياسيَّة، مع تحديد وسائل تنفيذها: أولاً، الهزيمة الفوريَّة للاستعمار في السُّودان.. ثانياً، المثابرة لنيل حق تقرير المصير للبلاد والتحرُّر من النفوذ الأجنبي.. ثالثاً، عدم التعاون المُطلق مع النظام الاستعماري.. رابعاً، توحيد الشعب السُّوداني في جبهةٍ متحدةٍ تضُمُّ كل المجموعات السياسيَّة، وغيرها، التي تتشابه أهدافها (طه، 1970). وقد شهدت فترة انعقاد المؤتمر نزاعاً سياسياً محتدماً حول مبادرة الإدارة الاستعماريَّة لتشكيل "الجمعيَّة التشريعيَّة" و"المجلس الاستشاري" للحاكم العام، وذلك بهدف إعداد البلاد للحُكم الذاتي. وقد تعاون الاتحاد العام لنقابات العُمَّال مع الأحزاب الاتحاديَّة والحزب الشيوعي، ضمن تنظيمات أخرى، في معارضة كلتا المؤسَّستين.
التحالفات السياسيَّة وانشقاق الحركة العماليَّة الوليدة
1- مع أنَّ النضال ضدَّ الاستعمار كان "قومياً" في طبيعته، إلاَّ أن الانقسامات بدت تطفو على السَّطح نتيجةً للخلافات حول مستقبل البلاد، مِمَّا أفضى إلى انقسام الحركة الوطنيَّة إلى معسكرين متصارعين بمرارة. فمن جهة، هناك الاتحاديين، بدعم من طائفة الختميَّة، ويُنادون بالوحدة مع مصر. ومن جهة أخرى، هناك حزب الأمَّة، المدعوم من طائفة الأنصار، وهؤلاء يتشكَّكون في النوايا المصريَّة، كما شاركوا في المُؤسَّستين الدستوريَّتين الاستعماريَّتين. أما موقف الاتحاد العام للعُمَّال من النزاع المحتدم هو تشكيل الجبهة المتحدة لتحرير السُّودان، والتي ضمَّت، إلى جانب الاتحاد، الحزب الشيوعي والأحزاب الاتحاديَّة واتحادات الطلاب وتنظيمات المزارعين، ومجموعات أخرى. عملت الجبهة المتحدة على هُدى برنامج محدَّد المعالم، معادٍ للإمبرياليَّة، تمَّ تصميمه بغرض رفع مستوى المواجهة ضد الحُكم الاستعماري. وفي عام 1952، كانت الجبهة نشطة في تنظيم الليالي السياسيَّة والمظاهرات، وعموماً في حملات التأجيج ضد الحكومة. وطالبت الجبهة بالرحيل الفوري لكُلِّ القوَّات الأجنبيَّة، ومنح الشعب السُّوداني حق تقرير المصير. قادت هذه الأحداث إلى توقيع الاتفاقيَّة البريطانيَّة-المصريَّة حول تقرير المصير في 1953.
2- وبينما أيَّدت الأحزاب التقليديَّة، والطائفتان الدينيَّتان الاتفاقيَّة، انضمَّ الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان للحزب الشيوعي السُّوداني في معارضتها. وذهب الاتحاد أبعد من ذلك، بمحاولته تعبئة عُضويَّته ضد الاتفاقيَّة، كما دعا إلى إضراب لمدة ثلاثة أيام احتجاجاً. وهو موقفٌ واجه الاتحاد بسببه انتقاداتٍ حادَّة من المراقبين، والذي اعتُبِرَ بمثابة خطأ جسيم، إذ حشر اتحاد العُمَّال في نزاع سياسي حزبي، مِمَّا ألحق ضرراً مقدَّراً بشعبيَّته وسط عُضويَّته من النقابات وقواعده العماليَّة. وقد كان لهذا الموقف تداعيات خطيرة، فقد وضع الاتحاد على مسار تصادُمي مع القوى السياسيَّة التقليديَّة، والتي ما زالت تبعاته تطارد الحركة العماليَّة. وربَّما يُفسِّر هذا التوترات الملحوظة في العلاقة بين النقابات والدولة خلال الفترات الديمقراطيَّة اللاحقة، حيث كانت الأحزاب التقليديَّة على سُدَّة السُّلطة في حكومات ائتلافيَّة (1957-58، 1964-69، 1985-89). والسبب في ذلك هو انضمام اتحاد العمال إلى الحزب الشيوعي، واليسار عموماً، في معارضته للاتفاقيَّة، مِمَّا بعث رسالة إلى القوى التقليديَّة مفادُها أن الشيوعيين واليساريين يتحكَّمون فيه، ويُسيطرون على الحركة النقابيَّة، وبالتالي لا بُدَّ من محاربة الحركة العماليَّة نتيجة لولائها السياسي (طه، 1970.. علي، 1996). ومن جهة أخرى، فَشِلَ الإضراب المُعلن عنه نسبة لتفضيل غالبيَّة النقابات طريق التوافق الوطني لصالح الاتفاقيَّة، فرفضوا المشاركة في الإضراب. وكان هذا بمثابة نذير لأوَّل انقسام خطير في صفوف الحركة العماليَّة، هدَّدت بنسف هدفها المنشود في الوحدة. وهكذا، ظلت الحركة منقسمة على نفسها حتى عقد الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان مؤتمره العام الخامس في مايو 1958.
3- أفضت الإستراتيجيَّة غير المدروسة التي اتبعها الحزب الشيوعي في معارضته لاتفاقيَّة 1953 إلى انشقاقٍ في أوساط الحركة النقابيَّة السودانيَّة، الحدث الذي ترك بصماته على مستقبل العلاقات بين القوى التقليديَّة والنقابات، والتي تراوحت من الارتياب والشكوك المتبادلة إلى الصراع المفتوح. وكما أكد الباحثون والمراقبون، فهذا لا يقدح في دور الحزب المفتاحي في إنشاء وتطوير الحركة النقابيَّة السودانيَّة، مِمَّا مكَّن الحركة من لعب دور فعَّال في الفترة بين 1947 و1954 (بشير، 1987). وقد يَسهُلَ فهم دور الحزب الشيوعي إن قرأناه في سياق التنافُس والصراع بين القوى التقليديَّة نفسها، خاصَّة بين طائفتي الأنصار والختميَّة ومناصيريهما، حول مستقبل السُّودان. فقد أحدث التنافُس المرير بين المجموعتين، وارتباط كل مجموعة بأحد طرفي الحُكم الثنائي، تشويشاً على هدف النضال الوطني، وبالتالي تنفير وعُزلة الجيل الصاعد من السُّودانيين المتعلِّمين في حواضر السُّودان. وبينما يتوق هؤلاء للانعتاق من الحُكم الاستعماري، إلا أنهم لا يميلون لفكرة "وحدة وادي النيل"، وفي نفس الوقت يشتبهون في تقارُب حزب الأمَّة اللصيق بالإدارة الاستعماريَّة. وهكذا، وجد الحزب الشيوعي تربة خصبة وسط هذه القطاعات الساخطة من المجتمع الحضري، ولبلورة مقاصد وأهداف الحركة الوطنية نحو تحرير البلاد من الهيمنة الاستعمارية وبناء السُّودان المستقل الذي يحميه شعبه (طه، 1970).
4- وفَّر الحزب الشيوعي للحركة النقابيَّة مصدر الأيديولوجيا والتنظيم والرؤية السياسيَّة، مِمَّا ترك بصمات واضحة علي الحركة العماليَّة لوقتٍ طويل (بشير، 1987). والشيوعيون أنفسهم، بالرغم من إدراكهم للظروف "الموضوعية" التي دفعت بنشأة الحركة النقابيَّة، يفخرون بتقديمهم لها القيادة، وهو العامل "الذاتي" الحاسم والضروري لتطوُّر الحركة. وبحسب رأيهم، فإنَّ «النمو المتزايد للحركة جاء نتيجة للدور المِفصَلي لهذا العامل الذاتي، في وقتٍ احتاج فيه إدراك هذه الظروف الموضوعيَّة إلى قدرٍ كبير من الوعي وبُعد النظر والخيال والقدرة على التغلب على الصعوبات» (القدَّال، 1993، ص 352).
الاستقطاب السياسي والصدام مع الحكومات الوطنية
1- نقلت فترة الحُكم الذاتي وحكومات ما بعد الاستقلال (1954-1958)، العلاقات بين الدولة والنقابات إلى مرحلة جديدة تميَّزت بالمُواجهات والنزاعات. فيبدو أن نفور القوى التقليديَّة من، أو على الأقل اللامبالاة تجاه الحركة العماليَّة خلال الفترة الاستعماريَّة، قد تمَّ ترحيلها لتَسِمَ هذه العلاقات في مرحلة ما بعد الاستعمار. فهكذا، تحوَّل "حُلفاء الأمس"، في النضال المُشترك ضد الاستعمار، إلى أشرس الأعداء في أعقاب استلام أوَّل حكومة وطنيَّة منتخبة للسُّلطة في عام 1954. وأضحى التوتر والصدام طابعاً مميزاً للعلاقة بين الدولة والنقابات في ظِلِّ كل الحكومات المنتخبة حتى نوفمبر 1958. فلم تكن للقوى التقليديَّة رغبة خالصة في إقحام نفسها في صراع العمال من أجل انتزاع حقوق التنظيم أو الاعتراف بتنظيماتهم. هذا قاد المراقبين إلى الاستنتاج بأن «سمةً أساسيَّةً للحُكم الاستعماري، وكذلك لحقبة ما بعد الاستقلال، تجلَّت في الاستقطاب السياسي للقوى السياسيَّة بالبلاد وانقسامها إلى مجموعتين متصادمتين. فمن جهة، العناصر التقليدية ممثلة في أحزابها (الأمَّة، الوطني الاتحادي، الشعب الديمقراطي)، وطوائفها الدينيَّة، ومن جهة أخرى، القوى غير التقليديَّة والتي شكَّلت تحالفاً سائباً بين الحزب الشيوعي، الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان، ومنظمات المهنيين والموظفين والفنيين واتحادات المزارعين» (مصطفي، 1993).
2- ومع أن هذا الاستقطاب، الذي يصور علاقة الدولة والنقابات كصراع بين القوى التقليدية والحديثة، يشخص السياسة السودانية جيداً، غير أنه ليس من الإنصاف في شيء أن نضع الحزب الوطني الاتحادي في سلة واحدة مع حزبي الأمَّة والشعب الديمقراطي، فيما يتصل بموقفهم العدائي من الحركة النقابية. ومن أجل فهم صحيح للعلاقات المتأزِّمة بين الدولة والنقابات، لا بُدَّ من التشديد علي ثلاث نقاط ومعالجتها تحليلياً. أولها، بالرغم من أن الشيوعيين، وحلفائهم، كانوا على قيادة الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان، إلاَّ أن علاقاتهم لم تكُن متوترة، على الأقل ظاهرياً، مع عضويتهم بسبب الانتماءات الطائفيَّة، بل أظهروا إدراكاً واضحاً بدور ووظيفة النقابة، وحاولوا إخفاء اتجاهاتهم الحزبيَّة والسياسيَّة "اليساريَّة" (علي، 1996). وفوق ذلك، عملت قيادات الاتحاد العام بجديَّة لتفادي عزل أعضائها ذوي الولاءات الطائفيَّة، خاصة المنتسبين للطريقة الختميَّة. بل واتبعت منهجاً هدف إلى غرس الروح النقابيَّة وتعزيز انتماء العُمَّال لتنظيماتهم النقابيَّة، مِمَّا جعلهم أكثر وعياً بهذا الانتماء وإعلائه فوق الولاءات الطائفيَّة.. ثانياً، كان الوطني الاتحادي بمثابة حزب "الوسط" السياسي المدعوم من قبل المُتعلمين والمثقفين والتُجَّار، خاصة في المُدُن، وقطاعاتٍ كبيرة من العُمَّال والمزارعين. وهكذا، فإن طبيعة مناصري الحزب الوطني الاتحادي، خلافاً لعضوية حزبي الأمَّة والشعب الديمقراطي، دفعت الحزب للسَّعي من أجل النفوذ في الحركة النقابيَّة وكسب بعض المواقع في قيادة الحركة.. ثالثاً، شكَّلت طائفة الختميَّة، إلى حدٍ كبير، القاعدة الاجتماعيَّة لغالبيَّة العُمَّال، إذ كان التوجُّه السياسي العام للعُمَّال ذو طبيعة "اتحادية".
3- إذن، فالظروف التاريخيَّة والموضوعيَّة التي نشأت في سياقها الحركة العماليَّة، كانت مُؤاتية تماماً لبناء تحالُفٍ استراتيجي بين الوطني الاتحادي، والاتحاديون عموماً، وحركة العُمَّال الديمقراطيَّة. وكان من الممكن لهذا التحالف أن يكون قابلاً للتحقيق، خاصة والشيوعيون في قيادة الاتحاد العام للعُمَّال كانوا يعملون من خلال الهيكل التنظيمي ل"الحركة السودانيَّة للتحرُّر الوطني - حستو". ولم تكن "حستو"، التي تحوَّلت للحزب الشيوعي السُّوداني في 1956، في ذلك الحين كياناً ماركسياً لينينياً على المستويين الأيديولوجي والتنظيمي، بل كانت مفتوحة للأحزاب السياسية الأخرى. وهكذا، كانت الأبواب مُشرعة للتفاعُل المتبادل بين العُمَّال وحركة المثقفين الاتحاديين. ومع ذلك، أضاعت القيادات الاتحاديَّة هذه الفرصة، وعوضاً عن ذلك، بحثت عن مصادر الدعم الجماهيري الجاهزة، ممثلة في قيادات الختميَّة، بينما نأوا بأنفسهم عن القوى الاجتماعيَّة الديمقراطيَّة الأكثر تأهيلاً تاريخياً وموضوعياً للوقوف بجانب المثقفين الاتحاديين في معركتهم ضدَّ القوى التقليديَّة الطائفيَّة. بمعنى آخر، استبدل مثقفو الوطني الاتحادي هذه المعادلة "التاريخيَّة" بتحالفٍ "ظرفي" مع الطائفيَّة على حساب التحالف مع القوى النقابيَّة الديمقراطيَّة (حاج حمد، 1996).
4- ومع ذلك، فقد جاء هذا التحالُف غير المدروس بنتائج عكسيَّة على أصحابه. فمباشرة في أعقاب اجتماع "السيدين" الأوَّل (السيِّد علي الميرغني والسيِّد عبدالرحمن المهدي) في اكتوبر 1955، تمَّ سحب البساط من تحت أرجُل المثقفين الاتحاديين. فالطريقة الختميَّة لم تعُد تحتمل هذا القدر من الاستقلاليَّة لهؤلاء المثقفين، فاتفق السيِّدان على إسقاط حكومة الوطني الاتحادي الوطنيَّة الأولى في نوفمبر 1955. ولو أن النجاح لم يحالفهما في هذه الخطوة، إلا أنَّ السيِّدين، في اجتماعهما الثاني في ديسمبر من نفس العام، تمكَّنا من حِرمان الحزب الوطني الاتحادي من الحُكم بمفرده، وشكَّلا حكومة ائتلافيَّة في الثاني من فبراير 1956. وكان هذا التحرُّك بمثابة تمهيدٍ لإزاحة الوطني الاتحادي تماماً من الحكومة، ومن ثمَّ الهيمنة الكاملة لتحالف الختميَّة والأنصار على حُكم السُّودان في 5 يوليو 1956، بعد أسبوع فقط من تأسيس حزب الشعب الديمقراطي كواجهةٍ سياسيَّة للختميَّة في 28 يونيو 1956.
5- بانصرافه عن العُمَّال وقضاياهم، وولوجها في زواجٍ غير مقدَّس مع البرجوازيَّة الوليدة والقوى الطائفيَّة، اكتسب الحزب الوطني الاتحادي روحاً معادية للنقابات، بل عَمَدَ إلي خلق الانشقاقات في أوساطها. فالحزب، حتي قبل وصوله للسُّلطة، شرع في سياسة إعاقة فعاليَّة الاتحاد العام للعُمَّال وذلك باختراق قيادات النقابات المُؤثرة، خاصة نقابة عُمَّال السكك الحديديَّة. وفور توليه السُّلطة، أعلن الحزب سياسته الموسومة ب"تحرير ولا تعمير"، والتي قوبلت بمقاومة قوية من قبل اتحاد العُمَّال بحُجَّة أن التحرير لا يعني شيئاً بدون تنمية اقتصاديَّة واجتماعيَّة، وأنه لخطأ جسيم أن تُحرَمَ القوى التي ناضلت وقدَّمت التضحيات من ثمار التحرير. ومن جهة أخرى، شعر الشيوعيون، تحت مظلتي "حستو" والجبهة المعادية للاستعمار، بالخطر من مثقفي "الوسط" السياسي بحُكم أنهم يمثلون المنافس الوحيد المحتمل للسيطرة على الاتحاد العام للعُمَّال، وبالتالي استخدموا كل الوسائل السياسيَّة المتاحة لحرمان الوطني الاتحادي من أي قدرٍ من النفوذ النقابي عن طريق عزل عناصر الحزب من المواقع القياديَّة في النقابات المنتسبة للاتحاد العام للعُمَّال.
6- من الجدير بالذكر، أن الموقف العدائي لحكومة الوطني الاتحادي نحو الحركة العماليَّة لم يقتصر على الحركة العماليَّة فحسب، بل سُرعان ما وجد اتحاد مزارعي مشروع الجزيرة نفسه في نزاعٍ مع الحكومة. وبعد صراعٍ طويل للاعتراف الرسمي بالاتحاد وحقوق المزارعين، جاءت القشة التي قصمت ظهر العلاقات بين الحكومة والمزارعين، علي وجه الخصوص، والحركة العماليَّة عموماً، عندما تمَّ اعتقال 281 مزارعاً من مشروع جودة (في التماس بين النيل الأبيض وأعالي النيل) وحبسهم في غرفة صغيرة في ثكنات الجيش بمدينة كوستي، مِمَّا أدَّى إلي مقتل 190 منهم اختناقاً. وقد قوبل الحادث بغضبٍ شعبي واستنكار وإدانة عبَّرت عنها سلسلة من التظاهُرات والإضرابات من قطاعاتٍ مختلفة من المجتمع السُّوداني (حاج حمد، 1996).
7- وفوق ذلك كله، أقدم الاتحاد العام لعُمَّال السُّودان علي التنسيق سوياً مع الجبهة المعادية للاستعمار، من جهةٍ، والقوى الطائفيَّة ممثلة في حزب الأمَّة، ولاحقاً حزب الشعب الديمقراطي، من جهة أخرى، بُغية الهجوم علي حكومة الوطني الاتحادي. وتمَّ ترفيع هذا التنسيق إلى مستوى أعلى، وذلك بتشكيل جبهة الاستقلال في 29 يناير 1955. وقصد الشيوعيون بالتحالف مع أكثر القوى تقليديَّة إلى توجيه ضربة قاضية إلى، واستباق أي تدخُّلٍ محتمل من جانب الحزب الوطني الاتحادي في الاتحاد العام للعُمَّال، وبالتالي خلق قاعدة اجتماعيَّة مستقلَّة، والحفاظ علي التحكُّم الكامل على الحركة العمالية. وقد أثبتت هذه الإستراتيجية أنها قصيرة النظر، فما أن آلت مقاليد الحُكم لهذه القوى، في يوليو 1956، حتى تحوَّلت علاقات التحالف إلى مواجهاتٍ وصراعاتٍ أبديَّة.
تبدل التحالفات وتصاعُد المواجهات: سقوط النظام النيابي
1- إذن، لم تدَّخِر القوى التقليديَّة أي جهدٍ لتجيير الانشقاق الذي وقع في صفوف الحركة العماليَّة، في أعقاب معارضة اتحاد العُمَّال لاتفاقيَّة 1953، لصالح إستراتيجيتها المحسوبة لإضعاف الاتحاد، الذي يُوفِّر له الشيوعيون القيادة والروح النقابيَّة. نجحت هذه الجهود في سعيها لإفشال الإضراب العام الذي دعا له اتحاد العمال في 27 أبريل 1956، احتجاجاً على سياسات وتوجُّهات الحكومة العدائيَّة. فقد عارضت نقابات العُمَّال الحكوميَّة المنشقة عن الاتحاد، بما في ذلك نقابة السكَّة حديد، الإضراب. وهي مناسبة لم تتردَّد الحكومة في استخدامها لتعميق الانشقاق وتجاوز الاتحاد، فأعلنت علي الفور استعدادها للتفاوض مع النقابات الحكوميَّة، كل على حده. وانسجاماً مع هذه الخطوة، دعت نقابات عُمَّال الحكومة المنشقة، بقيادة نقابة عُمَّال السِكَّة حديد إلى ما أطلقوا عليه "المؤتمر العام للنقابات المتحدة"، في أبريل 1956، للتداول حول ما أسموه خيانة اتحاد العُمَّال لأهداف الحركة النقابيَّة. وخرج المؤتمر بفكرة إنشاء ثلاثة اتحادات منفصلة، واحد لعُمَّال الحكومة، والثاني لعُمَّال القطاع الخاص، والثالث للحرفيين المستقلين وبقية قطاعات العُمَّال. هدف هذا الاقتراح، في جوهره، إلى الحل الفعلي للاتحاد العام للعُمَّال، مِمَّا جرَّده من قوَّته، ليُصبح منظمة سياسيَّة عاجزة تفتقر الى الأهليَّة. ومع ذلك، دعا مؤتمر لاحق للمجموعة المنشقة إلى إنشاء "اتحاد نقابات عُمَّال الحكومة السودانيَّة"، والذي شهدته 8 نقابات فقط من مُجمل 20 نقابة. وهكذا، لم يستطع الاتحاد حديث التكوين أن يصمُد، وفشل في تثبيت نفسه كتنظيم قابل للحياة (طه، 1970).
2- ومن جانبها، عملت قيادة الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان بجد لاستعادة النقابات المنشقة وإعادة الوحدة في صفوف الحركة العماليَّة. وقد أعطى تهديد الحكومة، بتخفيض بدل غلاء المعيشة، ابتداءَّ من يناير 1957، دفعة قويَّة لجهود الاتحاد المتواصلة للحفاظ على وحدة العمال. وهذا ما حدا بالاتحاد للدعوة إلي إضرابٍ عام وجد استجابة واسعة من العمَّال، بما في ذلك نقابة عمَّال السكَّة الحديد "المنشقة". وفي مواجهة حركة عماليَّة مُوحَّدة، سحبت الحكومة تهديدها (طه، 1970). انتهز اتحاد العمَّال الفرصة وأعلن عن استعداده، بهدف إعادة توحيد الحركة العمالية، لقبول تشكيل نقابة جديدة للعاملين بالحكومة ضمن هيكله التنظيمي (قسم السيد، 1979). وهكذا، حُكم بالفشل مرَّة أخرى على محاولات الحكومة الرامية لتوسيع الشرخ داخل الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان. وإن بدت غير مكترثة لانتصار اتحاد العمال، أدخلت الحكومة تعديلات علي قانون 1948، الذي سمح بتأسيس وتسجيل الاتحادات النقابية على غرار اقتراحات المؤتمر العام للنقابات المتحدة، السابق ذكره في أبريل 1956. وعلي الرغم من الموت المبكر ل"اتحاد نقابات عُمَّال الحكومة السودانية"، سعت الحكومة بشدَّة لتكوين اتحادٍ جديد، وان كان هذه المرَّة تحت مسمَّى "اتحاد نقابات عمال الحكومة المركزية".
3- وفي خِضَمِّ عداء الحكومة تجاه الحركة العماليَّة، نجح الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان في عقد مؤتمره العام الخامس، تحت شعار "مؤتمر الوحدة"، وإجازته لدستور جديد عالج قضيَّة موقف الاتحاد بشأن السياسة "الحزبيَّة" وأمَّن على استقلاليَّة الحركة العماليَّة من أي شكلٍ من أشكال النفوذ السياسي الخارجي. وهكذا، استطاع الاتحاد العام للعُمَّال استعادة مصداقيَّته المفقودة والاحتفاظ بشعبيَّته، كما استأنف التفاوض الجماعي، حول مطالب العُمَّال، مع الحكومة (سلام، 1991). ذهبت الحكومة لأبعد من ذلك، بإعلانها الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان منظمة غير قانونيَّة، بينما رفضت تسجيل اتحاد نقابات عُمَّال الحكومة السودانيَّة (طه، 1970).
4- تسبَّب إحباط الحكومة من نجاح الحركة العماليَّة في توحيد صفوفها، في تصعيدها لترهيب وتخويف الاتحاد العام للعمال، مستخدمة في كل يوم خدعة جديدة لإعادة فتح الجراح. ومن ناحية أخرى، كان الوضع الاقتصادي يتدهور بوتيرة متسارعة، بما في ذلك عدم القدرة على تسويق محصول القطن لموسم 1956-57، مع ارتفاع تكاليف المعيشة، في حين ظلت الأجور ثابتة. وقد تضاعفت هذه الأوضاع بالائتلاف الهش بين حزبي الأمَّة والشعب الديمقراطي، والنزاع المحتدم حول قضايا السياسة الخارجيَّة، والتصديق على اتفاقيَّة المعونة الأمريكيَّة. خلقت كل هذه الظروف بيئة مواتية للاتحاد العام للنقابات لتعبئة العُمَّال على أسُسٍ اقتصاديَّة وسياسيَّة، على حدٍ سواء.
5- أفضت هذه التطوُّرات إلى منعطفٍ درامي في الأحداث بعد أن أعلن الاتحاد العام عن إضرابٍ عام في أكتوبر 1958. اكتسب قرار الإضراب تأييداً إجماعياً من نقابات العُمَّال والعديد من المجموعات المنظمة الأخرى وأحزاب المعارضة. فشكَّل الإضراب منصَّة التقاء للمعارضة لشنِّ الهجوم على الحكومة، مِمَّا أسفر عن تشكيل الجبهة الوطنيَّة، والتي ضمَّت: الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان، اتحادات المزارعين، الاتحادات الطلابيَّة، الحزب الشيوعي السُّوداني، الوطني الاتحادي وعناصر أخرى. وكانت الجبهة تسعى إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء، عبدالله خليل، بذريعة الفشل الذريع لسياسات الحكومة الداخليَّة والخارجيَّة، عل حدٍ سواء، في التخفيف من حدَّة المشاكل التي تواجهها البلاد. وإدراكاً منه لعدم القدرة على البقاء في حال طرحت المعارضة صوت الثقة في الحكومة، دعا رئيس الوزراء الجيش، تحت قيادة الفريق إبراهيم عبود، للاستيلاء على السُّلطة في 17 نوفمبر 1958.
6- ومن المهم هنا أن نلاحظ، وللمفارقة، أن الحزب الوطني الاتحادي، بعد أن أضاع الفرصة التاريخيَّة لإقامة علاقات إستراتيجيَّة مع الحركة العماليَّة، قبل وأثناء تسنمه للسُّلطة، جاء في وقتٍ لاحق للتكاتُف مع الاتحاد العام للعُمَّال والحزب الشيوعي في المعركة ضد القوى الطائفيَّة التقليديَّة. وعلى قدم المساواة، ينطبق هذا على قيادة الاتحاد من الشيوعيين التي مدَّت يد العون لنفس القوى ضمن خُطتها لهزيمة حكومة الوطني الاتحادي. ويبدو أن هذا السلوك التكتيكي الانتهازي قد زرع بذور الشك والريبة في الحركة النقابيَّة، والعُمَّال على وجه الخصوص، من ناحية الأحزاب السياسيَّة.
الحكم العسكري الأول: التوجس من الحركة النقابيَّة
1- دائماً ما تكون الأنظمة العسكريَّة المتشدِّدة، وبطبيعتها، منشغلة بأمور الأمن والنظام العام، لا تحتمل ولا تطيق تنظيمات المجتمع المدني، خصوصاً النقابات والتي تعدُّها هذه الأنظمة خطراً على هيمنتها الكاملة على السُّلطة. وهكذا، فالأمر الرئاسي الأوَّل الذي أصدره "مجلس الثورة" الذي كوَّنته قيادة القوَّات المسلَّحة عقب الانقلاب، في 17 نوفمبر 1958، مباشرة قضى بإعلان حالة الطوارئ في كل البلاد، وحرمان الأحزاب السياسيَّة من ممارسة نشاطها، وحَلِّ التنظيمات والاتحادات النقابيَّة وإلغاء قانون النقابات لسنة 1948. وأعلنت السُّلطة العسكريَّة أن قرار تعطيل العمل بهذا القانون أملته ضرورة مراجعته، بغرض تعديله بما يتفق مع الوضع الجديد. بينما في الواقع هدف هذا الإجراء أساساً، ولو أن ذلك لم يُعلن على الملأ، إلى خلق حركة نقابيَّة ضعيفة وتابعة تخضع تماماً لسُلطة الحكومة.
2- لم يغِب هذا القصد الخفي على قيادة الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان والتي أعلنت على الفور مطالبتها بحق الاتحاد بمزاولة نشاطه كممثلٍ شرعي للعُمَّال والمشاركة في مراجعة القانون واحتفاظ العُمَّال بكافة الحقوق والامتيازات التي كفلها لهم ذات القانون. ولجأت الحركة العماليَّة، في ظِلِّ مناخ سياسي يبغض التعددية، إلى إتباع أساليب المقاومة والتحدي والدفاع حتى تستجمع قواها السياسيَّة في انتظار اللحظة المناسبة للمبادرة بالهجوم والمواجهة المفتوحة، التي اكتسبتها من خبرتها سيأسى التعامُل مع الحُكم الاستعماري وأنظمة الحكم الليبرالية معاً. بينما اعتبرت الحكومة العسكريَّة رد فعل الاتحاد تحدياً سافراً لسُلطتها، ولذا شرعت في حملة من الاعتقالات وإصدار الأحكام بالسجن في حق قيادات اتحاد العُمَّال، بما في ذلك السكرتير العام للاتحاد (طه، 1970).
الانتقال من المقاومة السرية إلى المعارضة الصريحة والانتفاضة الشعبية
1- ترهيب الحكومة وملاحقتها للقيادات العماليَّة بالاعتقال والمحاكمات، ضاعفت من تصميم العُمَّال على مقاومة وتحدِّي أوامر السُّلطات العسكريَّة التي هدفت إلى زرع الفتنة وسطهم، وشق صفوفهم، وحرمانهم من حق التنظيم. فتقدَّم عدد من قيادات التنظيمات النقابيَّة في مختلف أرجاء البلاد بعرائض الاحتجاج إلى الحكومة، مطالبين بعودة الحركة النقابيَّة على أساس قانون 1948، والإطلاق الفوري لسراح كل زملائهم النقابيين المعتقلين والمسجونين. وقابلت الحكومة هذه العرائض بمزيدٍ من الاعتقالات في حق كل الذين تقدَّموا بها. ودفعت هذه الأحداث التي استمرَّت طوال عام 1959 عُمَّال سكك حديد السُّودان بالدخول في إضراب تعبيراً عن تأييدهم لهذه المطالب. ومع أن السُّلطة العسكريَّة نجحت في سحق الإضراب باستخدام كافة الوسائل البوليسيَّة، إلا أنه ترك أثراً سياسياً مباشراً. فقد مثل الإضراب تطوُّراً سياسياً لحشد طلاَّب الجامعات والحزب الشيوعي، إضافة إلى قطاعات كبيرة من المجتمع السُّوداني، مشعلاً الشرارة الأولى لمعارضة سياسيَّة واسعة النطاق ضدَّ الحُكم العسكري.
2- وإدراكاً لتصميم اتحاد العُمَّال لمقاومة أي محاولة تهدف إلى إخضاعه للسُّلطات العسكريَّة، قرَّرت الحكومة في عام 1960 تقديم قانون جديد للعمل. ومع أن تعديل 1960 على قانون النقابات لسنة 1948 سَمَحَ من جديد بتكوين التنظيمات النقابيَّة، إلاَّ أنه فرض قيوداً متعدِّدة على حرية تنظيم العُمَّال لأنفسهم. أولاً، اقتصر القانون حق التنظيم على العُمَّال "اليدويين" فقط، مستثنياً كل قطاعات العُمَّال الأخرى، التي كانت تستمتع بهذا الحق في السابق، وذلك بقصد إضعاف الحركة العماليَّة عن طريق تقليل حجم عضويَّة اتحاد العُمَّال والانتقاص من فعاليته (سلام، 1974.. مصطفى، 1993). ثانياً، رفع التعديل الجديد عدد الحد الأدنى من العُمَّال الذين يحق لهم تنظيم أنفسهم سيأسى نقابة من 10 إلى 50.. ثالثاً، حرم العُمَّال من الانضمام إلى أي نقابة غير تلك التي يُكوِّنوها في مصلحة حكوميَّة أو مُؤسَّسة خاصة بعينها، خلافاً لما نصَّ عليه قانون 1948.. رابعاً، منع القانون الجديد تكوين الاتحادات النقابيَّة (سلام، 1974). خامساً، وضع "قانون منازعات العمل لسنة 1960" قيوداً صارمة على حق العمال في الإضراب (طه، 1970).
3- بالرغم من كل هذه القيود، وفي غياب الاتحادات النقابيَّة، لم تتحوَّل النقابات العماليَّة إلى تنظيماتٍ خاضعة كما كانت تتمناه السُّلطة العسكريَّة (مصطفى، 1993). فلم تُسفِر المكاتبات المتبادلة بين نقابة عُمَّال السكك الحديديَّة والحومة، وقد دامت لأكثر من عام، عن شيء، مِمَّا دفع النقابة للدخول في إضراب استمرَّ سبعة أيام في 17 يونيو 1962، ذلك مع أن الاتحاد كان قد تمَّ حله قبل ثلاثة أيام فقط من ذلك التاريخ. واتبعت الحكومة في أعقاب الانقلاب سياسة ذات حدَّين. فمن جهة، كثفت من ملاحقتها للنقابين الناشطين ضد الحكومة مع السعي إلى إقحام مكتب العُمَّال في الشئون النقابيَّة بأكبر قدرٍ ممكن، ومحاولة ترغيب العُمَّال بإظهارها الحماسة "للنقابيَّة الاقتصاديَّة"، من جهة أخرى. وتوقعت الحكومة النجاح لسياستها هذه مما جعل مدير مكتب العمل يدعو ممثلين لأكثر من أربعين نقابة لمؤتمر عام في 16 أغسطس 1963. وتركزت أجندة المؤتمر في: التماس تأييد العُمَّال للحكومة واتخاذ الإجراءات الضرورية لتكوين اتحادٍ جديد للعُمَّال، إضافة لمناقشة القضايا الأخرى ذات الصلة. ولكن خاب أمل الحكومة في المؤتمر ونتائجه المرجوَّة، إذ تحوَّل إلى منبرٍ شَجَبَ العُمَّال من خلاله سياسة الحكومة، وطالبوا بإلغاء قانون النقابات لعام 1960، وإبطال قرار حَلِّ نقابة عُمَّال السكك الحديديَّة، وتكوين الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان ورفع حالة الطوارئ المعلنة في كل البلاد (طه، 1970).
4- على الرغم من هزيمة الحكومة في هذه المعركة، غير أنها لم تتخلَّ عن سياسة اللعب بالعصا والجزرة. ففي إيماءة لتهدئة العُمَّال، سمحت للنقابة العامة لعُمَّال السكك الحديديَّة بمزاولة نشاطها والتسجيل رسمياً، على أن تعمل الهيئة التي تمخَّضت عن مؤتمر أغسطس على الشروع في تكوين الاتحاد العام لنقابات العُمَّال. ومع ذلك، عاد وزير الإعلام والعمل لإصدار أمر جديد ألغى فيه هذا القرار بسبب مقاومة العُمَّال لمحاولات الحكومة لفرض قيود صارمة على دستور الاتحاد المُزمع إنشائه (طه، 1970). فشل سياسة الحكومة تجاه الحركة النقابيَّة، من جهة، وتصميم العُمَّال على مواصلة صراعهم ضدها، من جهة أخرى، قاد في نهاية الأمر إلى تحرير شهادة وفاة النظام عن طريق انتفاضة شعبيَّة في 21 أكتوبر 1969.
فورة الثورة
1- بدأت الحركة التي قادت إلى سقوط النظام في جامعة الخرطوم. فبعد أن أصدرت وزارة التربية والتعليم أمراً بحظر التجمُّعات والاجتماعات العامَّة في داخل الحرم الجامعي، رفضت مجموعات من الطلاَّب والناشطين الانصياع لهذا الأمر، حتى انفجر الوضع في 19 أكتوبر، عندما نظم الطلاب ندوة لمناقشة الأوضاع السياسيَّة بالبلاد، خصوصاً تعامُل النظام مع الحرب الأهليَّة الدائرة في جنوب السُّودان. فتدخَّلت قوَّات الشرطة لفضِّها بالقوَّة، وأسفر ذلك الاصطدام عن مقتل أحد الطلاَّب برصاص البوليس. وفي أعقاب الحادث، خرج الطلاَّب في مظاهراتٍ عارمة تدين وتشجب الحكومة، والتي رغم إرسالها لقوَّات مكافحة الشغب للسيطرة على الوضع، إلاَّ أن حالة من الاضطراب سادت وسط المواطنين، خصوصاً في عاصمة البلاد. وفي غضون ذلك، تمَّ تكوين تنظيماً سياسياً فضفاضاً صار يُعرفُ ب"جبهة الهيئات"، والتي ضمَّت العُمَّال والطلاب والمعلمين والمحامين وأساتذة الجامعات والمهندسين والأطباء، وسرعان ما توسَّعت عضويتها لتشمل كافة قطاعات المجتمع. وكانت قيادات اتحاد المزارعين والاتحاد العام لنقابات العُمَّال من الأعضاء البارزين في الجبهة. دعا المجلس التنفيذي للجبهة إلى إضرابٍ عام في الفترة بين 24 و31 أكتوبر 1964، والذي قاد في نهاية الأمر إلى استسلام النظام.
2- وكما استنتج أحد الباحثين فإنه «يبدو من المعقول أن نخلُص إلى أن نجاح الإضراب، وبالتالي ثورة أكتوبر لم يكُن من المُمكن أن يتمَّا دون التأييد النشط للحركة العماليَّة» (طه، 1970، ص 122). وهكذا، وجدت القوى "الحديثة" نفسها منتظمة تلقائياً في الجبهة القوميَّة للهيئات التي مثَّلت رأس الرُمح للانتفاضة الشعبيَّة ووفَّرت لها القيادة. وعكس تكوين الحكومة الانتقاليَّة التي تمَّ تشكيلها في 31 أكتوبر، وأوكلت لها مهمَّة التحضير للانتخابات العامَّة في موعدٍ لا يتجاوز مارس 1965، النفوذ الذي تمتعت به جبهة الهيئات. فقد كان نصيبها ثمانية مقاعد في مجلس الوزراء، وهي نسبة مثَّلت 50% من الحقائب الوزاريَّة، بينما تقاسمت الأحزاب السياسيَّة (الأمَّة، الشعب الديمقراطي، الوطني الاتحادي، الحزب الشيوعي والإخوان المسلمون) والقوى الأخرى باقي المقاعد.
3- تمكَّنت الحركة العماليَّة في سياق هذه التطوُّرات السياسيَّة من تعزيز تماسُكها وروحها القتاليَّة، كما استطاعت أن تنال مكاسب جديدة، علاوة على تثبيت مكاسبها القديمة التي ظلت تصارع من أجلها منذ مطلع القرن. وبذا، حققت إنجازات ملحوظة في عدة جبهات. فقد تمَّ تعطيل العمل بقانون 1960 وإعادة تكوين الاتحاد العام لنقابات العُمَّال، والأهم من ذلك تمثيل العُمَّال والمزارعين في الحكومة الانتقاليَّة في شخصي السكرتير العام لاتحاد العُمَّال ورئيس اتحاد مزارعي الجزيرة. ولكن إعادة تكوين اتحاد العُمَّال لم تكن بالعمليَّة السهلة، إذ أثارت النقابات المعادية للاتحاد اعتراضاتٍ إجرائيَّة حول انتخابات المكتب التنفيذي للاتحاد، بحُجَّة أن المؤتمر العام للعُمَّال - وفقاً لدستور الاتحاد- هي الهيئة الوحيدة المُناط بها انتخاب القيادة. ومن جانب آخر، ردَّ الاتجاه السائد وسط النقابات بأن الاتحاد قد تمَّ حله منذ ست أعوام مضت، مِمَّا يُخوِّلُ حق انتخاب قيادته للجمعيَّة العموميَّة التي انعقدت في أغسطس 1963. وكان من المقرَّر أن تجتمع مرَّة أخرى في مايو 1964 لمناقشة دستور الاتحاد، إلاَّ أن ذلك الاجتماع لم يتم بسبب قيام السلطات العسكريَّة بحلِّ الاتحاد قبل ثلاثة أيام من التاريخ المحدَّد. وبعد صراع مرير بين المجموعتين، استطاع مؤيدو الاتجاه السائد كسب هذه الجولة، وتمَّ انتخاب المكتب التنفيذي بواسطة الجمعيَّة العموميَّة والتي أعادت السكرتير السابق للاتحاد إلى موقعه.
4- شكَّلت المشاركة المباشرة للعمال في الحكومة، سوياً مع شرائح القوى "الحديثة" الأخرى، تحولاً درامياً في العلاقات بين الدولة والحركة النقابيَّة. فاعتبر اتحاد العُمَّال نفسه شريكاً في الحكومة التي كان هدفها الأساسي هو استعادة النظام البرلماني التعدُّدي، وتنفيذ برامج عمليَّة التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة بقصد تسكين الأزمة الاقتصاديَّة التي تعيشها البلاد، ولتوجيه اقتصادها في الطريق الصحيح. وارتفاعاً إلى مستوى المسئوليَّة، أعلن الاتحاد عن تعليقه كافة مطالب العُمَّال التي تُشكِّل عبئاً على المنصرفات العامة، والتبرُّع براتب يوم واحدٍ لكُلِّ عضوٍ مساهمةً في دعم خزينة الدولة، وانتهاج الطرق السلميَّة لمعالجة وحَلِّ كل النزاعات بين الحكومة وأصحاب العمل، من جهة، والمستخدمين، من جهة أخرى (طه، 1970).
5- شكَّل اتحاد العُمَّال واتحاد مزارعي الجزيرة وعناصر القوى "الحديثة" الأخرى "التحالف الاشتراكي الديمقراطي" بعد أن أدركوا أن نتائج الانتخابات المرتقبة ستكون لصالح القُوى "التقليدية" وذلك في محاولة لتعضيد مكاسبهم الاقتصادية والسياسية والمحافظة على روح ثورة أكتوبر. كما أدركت الأحزاب "التقليدية" من جانبها قوَّة وحيوية الحركة العماليَّة، والخطر التي تشكِّله على هيمنتها على السُّلطة، فبادرت إلى إعادة تجميع قواها وتنظيمها في "الجبهة الوطنيَّة المُتحدة". بدأت الجبهة هجومها بمطالبة الحكومة الانتقاليَّة بالاستقالة بحُجَّة أن تمثيل القوى السياسيَّة في تشكيله لا يعكس الوزن الحقيقي لها، ونجحت هذه القوى في إقالة الحكومة وتشكيل مجلس وزراء جديد، أبعد منه ممثلي جبهة الهيئات. قامت هذه الحكومة بالتحضير للانتخابات العامة في مايو 1965 وآلت مقاليد السُّلطة إلى تحالفٍ بين حزبي الأمَّة والوطني الاتحادي، مِمَّا أدخل العلاقات بين الدولة والحركة النقابيَّة في مرحلة جديدة.
العودة إلى الخصومات: الوهم وخيبة الأمل
1- مدفوعاً بخيبة الظن في تحوُّل الأحداث والتكتيكات الخادعة التي اتبعتها القوى "التقليديَّة"، جاء رد فعل اتحاد العُمَّال متسرِّعاً، وتصرَّف بصورة متعجِّلة بإعلانه لإضرابٍ عام في 21 أكتوبر 1965. وضع هذا السلوك بداية النهاية لشهر العسل في العلاقات بين القوى التقليدية والنقابات الذي أعقب انتصار الانتفاضة الشعبيَّة على الحُكم العسكري، وتحوَّلت نشوة الأيام الأولى للثورة إلى وهمٍ وخيبة أمل. أما الإضراب، فلم يصادف نجاحاً يُذكر، بل ساهم في غرس بذور الانقسام في صفوف اتحاد العُمَّال أكثر من أن يكون له تأثير سياسي ذو معنى. فقد عارضت العديد من النقابات الإضراب ورفضت المشاركة فيه، بما في ذلك نقابة عُمَّال السكك الحديدية ذات النفوذ، والتي رأت أن الإضراب يهدف إلى فرض الأجندة السياسيَّة الحزبيَّة للحزب الشيوعي وحلفائه في جبهة الهيئات. ومن ناحية أخرى، وجدت الحكومة ضالتها في فشل الإضراب لتكثف حملتها ضد الحركة العماليَّة والقوى الحديثة عموماً. فبالإضافة إلى حظر نشاط الحزب الشيوعي وحرمان نُوَّابه من مقاعدهم النقابيَّة، كذلك، اتخذت الحكومة عدة تدابير أخرى لإضعاف اتحاد العمال إلى أبعد حد، وتعميق الانشقاق في صفوفه، كما شملت إجراءات تأديبية ضد الحركة العمالية وحلفائها السياسيين.
2- وقادت تداعيات هذه الأحداث إلى أن يُصبح تبادُل الاتهامات والممارسات العدائيَّة بين الحكومة واتحاد العُمَّال أمراً مألوفاً، وعلى وجه الخصوص بعد وقوف "اتحاد موظفي الحكومة"، حديث التكوين، إلى جانب الاتحاد العام لنقابات العُمَّال. ورغماً عن تنظيم المظاهرات والمواكب وتقديم العديد من العرائض والمذكرات، إلاَّ أن الحكومة لم تحرِّك ساكناً. وفي خطوة لتصعيد الاحتجاج، أعلن اتحاد العمال لإضراب لمدَّة يوم واحد في 15 يونيو 1966، ولكن أيضاً سرعان ما أدركت قيادة الاتحاد أنها تعجَّلت ولم تحسب الأمر جيداً، خصوصاً عندما رفضت نقابة عُمَّال السكك الحديدية - والتي ظلت من أقوى معاقل الحزب الوطني الاتحادي- المشاركة في الإضراب المُعلن، بل وقفت إلى جانب الحكومة في شجبه كعمل سيأسى دبره الشيوعيون.
3- ومن ناحية أخرى، لم تسلم الحركة النقابيَّة من الانقسامات السياسيَّة والاستقطاب على نحوٍ حزبي. فقد كانت كل الأحزاب، ولو بدرجات متفاوتة، تتنافس للحصول على قاعدة سياسيَّة داخل التنظيمات النقابيَّة، وبدأت تُبدي اهتماماً علنياً بانتخابات النقابات، وتحاول بجد أن تكسب مواقع قياديَّة في الحركة النقابيَّة. قادت هذه المنافسة، التي أخذت شكلاً سياسياً سافراً، إلى قيام العديد من المنظمات "الحزبية" والموازية للتنظيمات النقابيَّة القائمة، كرابطة الأطباء الإسلاميين ورابطة المعلمين الاشتراكيين، على وجه المثال، مِمَّا ألحق - في نظر الكثير من المراقبين- ضرراً بالغاً بالدور الوطني والقومي، وبطبيعة وتوجُّهات الحركة العماليَّة (علي، 1996). وبجانب تكوين التنظيمات النقابية الموازية على أسُسٍ سياسيَّة، فإن تشكيل "مؤتمر النقابيين الوطنيين" يقف شاهداً على محاولات استقطاب الحركة العماليَّة على نحوٍ حزبي. فقد قام النقابيون المنتسبون للإخوان المسلمون، بالتعاون مع عناصر الأحزاب السياسيَّة التقليديَّة الأخرى، بتنظيم المؤتمر في فبراير 1968 (قسم السيد، 1979). ولكن نسبة لقصور فهم منظمي المؤتمر لطبيعة العمل النقابي وتكتيكاته، فقد فشلوا في اختراق الحركة العماليَّة وكسب موطئ قدم فيها (على، 1996).
4- وبذلك استطاعت الحركة العمالية الصمود في وجه كل محاولات الحكومة والقوى "التقليدية" على حدٍ سواء، لزرع الشقاق في صفوفها أو تقويض المكاسب السياسيَّة التي حققتها بعد ثورة أكتوبر 1964. فظلت النقابات تحتفظ بقوَّتها وحيويتها ولم تجد الحكومة بديلاً غير احترام سطوتها ونفوذها (مصطفى، 1993). وفي بدايات عام 1969، واصل الاتحاد العام للعمال ضغوطه على الحكومة لإجبارها على الالتزام باتفاقية يناير 1968، بالتزامُن مع الوقت الذي كان فيه المناخ السياسي مشحوناً بتصعيد الحملة العنيفة ضدَّ مشروع الدستور الإسلامي، وبانشغال القوى السياسيَّة في التحضير للانتخابات الرئاسيَّة المرتقبة. ففي ظِلِّ هذه الظروف، لم يكن في مقدور اتحاد العُمَّال النأي بنفسه عن المشاركة السياسيَّة المباشرة، بل أعلن عن دعمه لمرشح الجبهة الاشتراكيَّة، الذي كان يخوض الانتخابات ضد مُرشَّحين آخرين لحزبي الأمَّة والاتحادي الديمقراطي.
5- ألقى هذا الوضع السياسي الكئيب بظلاله على كُلِّ أرجاء البلاد في وسط شجار سياسي متصاعد وتكثيف التنازُع في داخل الأحزاب، وفي ما بينها، معاً، على السُّلطة. وبالتالي هيأت كل هذه التطوُّرات الجو لمجموعة من صغار ضُبَّاط القوَّات المسلحة للاستيلاء على السُّلطة بانقلابٍ عسكري في 25 مايو 1969، واضعين بذلك النهاية للفترة الثانية من الحُكم البرلماني التعدُّدي. مثَّل نظام مايو - الذي تبنى البرنامج السياسي للقوى "الحديثة"- نقطة التحوُّل الأساسية الأولي في تاريخ السياسة السودانيَّة، إذ تمَّت خلال فترة حكمه إعادة هيكلة جذريَّة للعلاقات بين الدولة والنقابات، تغيَّرت بموجبها طبيعة الحركة النقابيَّة وأعيد ترتيب دور ووضع الحركة بأكملها.
خاتمة
1- في حين تتكوَّن الحركة النقابيَّة السودانيَّة من العُمَّال والمزارعين والمهنيين والموظفين والفنيين، وقطاعات أخرى، يظلَّ العمال، تاريخيا، هُم من أنشأ الحركة. ومع أن الحركة لم تأخذ شكلاً تنظيمياً حتى نهاية الحرب العالميَّة الثانية، غير أن بدايتها ترجع إلى بداية القرن المنصرم. وهكذا، على الرغم من الاستياء والمعارضة من قبل الدولة الاستعماريَّة، بادر العُمَّال من جانبٍ واحد بإعلان تأسيس الاتحاد العام لنقابات عُمَّال السُّودان في 1950، والذي انتزع في نهاية المطاف اعتراف الحكومة في 1966. وتدُلُّ هذه الخطوة علي تبلور وعي العمال بموقعهم ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعيَّة المشتركة في مرحلة مُبكِّرة جداً. وبنفس القدر، نظراً لوضع الدولة الاستعماريَّة بوصفها أكبر مُخدِّمٍ بالبلاد، اكتسبت الحركة العماليَّة طابعاً وطنياً معادياً للاستعمار، مِمَّا ساهم في الانتقال من "النقابيَّة الاقتصاديَّة" إلى "النقابيَّة السياسيَّة".
2- الصراع ضد الاستعمار، إلى جانب الأيديولوجيَّة الوطنيَّة، خلقت الظروف المواتية لتعزيز التحالف بين الحركة العماليَّة و"النخب المتعلِّمة" المتطلعة لحُكم البلاد بعد نيْلِ الاستقلال. غير أن النخب أهدرت هذه الفرصة التاريخيَّة، لا سيَّما ما يمكن أن نُطلق عليه "وسط" الطيف السياسي السُّوداني، واختارت التحالف "المريح" مع القوى التقليديَّة الطائفيَّة، والتي، بدورها، وفَّرت لهذه النُخب الدعم الجماهيري الطائفي الجاهز. وهكذا، سَعَت الحركة العمالية للتحالف مع قطاعات محدودة من المهنيين والأكاديميين والطلاب، والحزب الشيوعي السُّوداني، والتي اكتسبت وزناً سياسياً مقارنة بحجم عضويتها.
3- وجاء التحالف بين الفصائل المختلفة للقوى التقليديَّة، القوى الطائفيَّة وزُعماء القبائل، مع الرأسماليَّة التجاريَّة والزراعيَّة الناشئة، ليُشكِّل قيادة الأحزاب السياسيَّة التي تسلَّمت مقاليد الحُكم في فترتي الحُكم الذاتي وما بعد الاستقلال في 1956. ويبدو أن توجُّس القوى التقليديَّة من، أو على الأقل لامبالاتها تجاه، الحركة النقابيَّة، خلال الحُكم الاستعماري، قد تمَّ نقلها لتسم العلاقات المستقبليَّة بين الدولة والنقابات. وهكذا، نقلت الفترة المُمتدَّة، من الحُكم الذاتي إلي الفترة التالية للاستقلال (1954-58)، علاقات الدولة والنقابات إلى مرحلة جديدة تميَّزت بالمُواجهات الساخنة، الناتجة عن الصراع المحتدم بين القوي التقليدية والقوى الحديثة. وبذلك، أصبح حُلفاء الأمس، في الكفاح المشترك ضد الاستعمار، أعداء اليوم في أعقاب نيل البلاد لاستقلالها.
4- تظل الأنظمة العسكريَّة التسلطيَّة، بحُكم طبيعتها، قليلة الحساسيَّة وشديدة التعصُّب تجاه الحركة النقابيَّة، والتي، بحسب تصوُّر هذه الأنظمة، تُشكِّل تهديداً مباشراً لسُلطتها. وهكذا، قام النظام العسكري الاول (1958-64) بحلِّ النقابات والأحزاب السياسيَّة وإلغاء قانون النقابات لعام 1948، واعتقال قيادات الاتحاد العام للعُمَّال. ومع ذلك، فإن تراكُم نضالات الحركة العماليَّة من أجل استعادة حقوق التنظيم، وتكثيف المقاومة ضد النظام، أفضت إلى اندلاع انتفاضة أكتوبر الشعبيَّة في 21 أكتوبر 1964.
5- جاءت المطالبة بمشاركة الحركة النقابيَّة، بما في ذلك اتحادات المزارعين، في حكومة أكتوبر الانتقاليَّة استناداً على وزنها الاقتصادي ودورها المفتاحي في إنجاح الثورة، ولتحقيق التوازُن السياسي في النظام الجديد لضمان استقراره واستدامته. وهذا ما دفع للمطالبة بدوائر الخرِّيجين، والتي سمحت لبعض ممثلي القوى الحديثة لدخول البرلمان. هنا نجد أنفسنا أمام سؤالٌ مُلِح يطرح نفسه: هل استيعاب القوى الحديثة في شكل تنظيماتها النقابيَّة يوفر ضمانة ضروريَّة لتثبيت دعائم النظام الديمقراطي السليم؟! في اعتقادي أن "لا"، هي الإجابة الصحيحة. فغياب النظريَّة والرويَّة السياسيَّة المتعمِّقة دفعت قيادات الحركة النقابيَّة للتحصُّن في مواقعهم الإستراتيجيَّة في نظام الدولة الحديث ومُؤسَّساته والتمسُّك بالتنظيمات النقابيَّة، كأشكالٍ جاهزة وموجودة أصلاً ويمكن من خلالها المشاركة في السُّلطة السياسيَّة، وذلك بدلاً عن العمل السياسي المنظم وإقامة التحالفات العريضة. وبذلك، عجزت القوى النقابيَّة، والقوى الحديثة عموماً، عن خلق الإطار التنظيمي الأمثل لاستيعاب قوى التغيير، بل واستمرأت التلهي بالنصر الظرفي وتغليب نتائجه الآنية على مواصلة النضال نحو انتصار تاريخي! وربَّما كان حرياً بالحركة النقابيَّة السودانيَّة الاستهداء بتجربة نقابات العُمَّال في بريطانيا في إنشاء حزبٍ مُستقل لتمثيل العُمَّال بصورة أفضل والدفاع عن مصالحهم في الجهازين التشريعي والتنفيذي للدولة، عِوَضاً عن البقاء تحت رحمة صراع النفوذ بين الحزب الشيوعي، من جهة، والقوى السياسية التقليديَّة والدولة، من جهة أخرى.
6- كان انقلاب مايو 1969 نتاجاً لأزمتين متضافرتين اتَّسمت بهما السياسة السودانيَّة في فترة ما بعد الاستقلال، خاصة النظام البرلماني الثاني (حاج حمد، 1996). نتجت الأزمة الأولى عن التناقُض السَّافر بين الممارسة السياسية للأحزاب التقليديَّة المهيمنة على سُدَّة الحُكم والمستندة على الطائفيَّة الدينيَّة والنظام "الديمقراطي" التعدُّدي، والذي بطبيعته وبالضرورة يتطلب توافر مُؤسَّساتٍ اجتماعيَّة وسياسيَّة ليبراليَّة. وتقف عدَّة شواهد على هذا التناقُض: خرق الدستور وعدم احترام مبدأ الفصل بين السُّلطات التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة (حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان رغماً عن قرار المحكمة العُليا) والإصرار على مسودة الدستور الإسلامي بالرغم من تهديده للنسيج الاجتماعي، الذي يتميَّز بالتعدُّد والتنوُّع.
7- أما الأزمة الثانية، فتعود جذورها إلى التناقض بين القوى الاجتماعيَّة والسياسيَّة التقليديَّة وما تملكه من أغلبيَّة برلمانيَّة، من جهة، وبين القوى الحديثة والت لها -في المقابل- نفوذٌ "نوعي" قوي، اقتصادي وسياسي، وذلك بفضل تحكُّمها في الهياكل الإنتاجيَّة الحديثة، ولو كان تمثليها البرلماني ضعيفاً، مِمَّا حرمها من المشاركة الفعَّالة في السُّلطة، من جهة أخرى. وفي ظِلِّ هذه الظروف وجدت القوى "الحديثة"، في ترقبها لتغيير سياسي حتمي، "الخلاص" في استلام صغار ضُبَّاط القوَّات المسلَّحة للسُّلطة، والذين بدورهم لم يتردَّدوا لحظة في كسب وُد هذه القوى، وذلك بإعلانهم في أوَّل بيانٍ لهُم بعد الانقلاب عن عزم وتصميم متصلِّبين لتخليص البلاد من هيمنة القُوى "التقليديَّة" الرجعيَّة والطائفيَّة. وزاد افتتان القوى الحديثة بالتغيير عندما اتخذ "مجلس قيادة الثورة"، الذي آلت له كل السُّلطات التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، خُطوة أكثر تقدماً، وذلك بتبنيه للأجندة السياسيَّة "للجبهة الاشتراكيَّة" والتي ضمَّت عُضويَّتها اتحاد عام نقابات عُمَّال السُّودان، اتحادات المزارعين واتحادي الموظفين والمعلمين والحزب الشيوعي، وغيرها من المنظمات الجماهيريَّة. ليس ذلك وحسب، بل تمَّ تعيين مُرشَّح الجبهة "بابكر عوض الله" في الانتخابات الرئاسيَّة، التي أجهضها الانقلاب، عضواً في مجلس قيادة الثورة ورئيساً للوزراء.
8- فهل، يا ترى، رضيت الحركة النقابيَّة من الغنيمة بالإياب؟! سيتولى الكتاب، الذي أعكف على إعداده، بتناوُله للتطوُّرات اللاحقة في الحركة النقابيَّة، خلال فترتي الحُكم العسكري الثاني (1969-1985) والنظام البرلماني الثالث (1985-1989) وطوال حُكم الإنقاذ، من 1989 إلى الآن، الإجابة على هذا السؤال.
مراجع
(1) طه، عبدالرحمن علي، 1970، الحركة العمالية السودانية: دراسة العمل النقابي في مجتمع نامي، رسالة دكتوراه، جامعة كاليفورنيا، لوس انجلوس.
(2) قسم السيد، حسن، 1979، نوادي العمال والحركة لوطنية في السودان، الخرطوم.
(3) الساعوري، علي، 1986، العمال السودانيون والسياسة، جنيف-القاهرة، منظمة العمل الإسلامي العالمية.
(4) بشير، محمد عمر، 1987، تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969، بيروت، دار الجيل.
(5) سلام، محمد، 1991، تاريخ الحركة العمالية السودانية، ورقة مقدمة لمؤتمر الحوار النقابي، الخرطوم.
(6) القدَّال، محمد سعيد، 1993، تاريخ السودان الحديث 1820-1955، القاهرة، أمل للنشر.
(7) مصطفى، محمد المرتضى، 1993، النقابات السودانية والدولة: دورها في الإصلاح الاقتصادي الديمقراطي والتنمية، جامعة بريمين، ألمانيا، أوراق نقاش مجموعة بحوث الاقتصاد السوداني بالإنجليزية.
(8) علي، حيدر إبراهيم، 1996، المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان، القاهرة، مركز ابن خلدون لدراسات التنمية.
(9) حاج حمد، أبوالقاسم، 1996، السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل، جزر الهند الغربية البريطانية، مكتب الدراسات الدوليَّة والبحوث.
///////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.