عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
صحيح أن الحكم ينفرد به نحو عشرين شخصاً، ومن خلفهم أربعة أو خمسة أشخاص من شلة المزرعة، ولكن هذه ليست المشكلة. فقد ارتضى السودانيون، والسكوت علامة الرضا، بتسليم هؤلاء كامل السلطة في الفترة الانتقالية. ولكن المشكلة هي أن هؤلاء الحكام لا يدركون أن هناك شعباً من أربعين مليون نسمة، يقع خارج قصورهم، وخارج أحيائهم الفاخرة. والأدهى والأغرب أنهم لا يدركون أن الشعب خاضع لحكمهم لا لقوتهم وجدارتهم ولا حباً فيهم، وإنما لأنهم حصلوا على دعم وتأييد القوات النظامية: الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة. فقبل انحياز هذه القوات لهم، كانوا إما جلوساً في شارع القيادة ينتظرون الفرج، وإما في مغترباتهم البعيدة. يمكنك أن تفرض على الناس عدم التجوال في وسط الخرطوم، ويمكنك أن تغلق هذا الكبري أو ذاك، ولكن لا يمكنك أن تتحكم بالريموت في أربعين مليون نفساً، اعتادت أن تكون سيدة نفسها. لا يمكنك أن تفرض شاباً من شلتك والياً على هذه الولاية أو تلك. وإذا كانت رغبة الناس وإرادتهم لا تهمك، وحتى أرواحهم ودماؤهم لا تهمك لأنها ليست من شباب هذا الحزب المدلل ولا شارع القيادة المقدس، فإن مليونين من الأنفس، في كسلا مثلاً، يستطيعون أن يفعلوا الكثير مما يغير مجرى التاريخ. ومن الغرائب أن يحكم الناسَ، من لا يعرف طباعهم، ولا مجتمعهم ولا تقاليدهم، وتعقيدات حياتهم السياسية والاجتماعية. ومن الجهل والاستسهال، أن يحكم بلاداً كبيرةً متنوعةً كالسودان، من عاش حياته وسط الكتب والتقارير والنظريات، الخالية من نَفَس الجماهير، وإحساس الناس والمجتمعات، ثم أكملها بالثقافة الاسفيرية الافتراضية، لم يشارك في فزعٍ ولا نفير، و لم يسر في جنازةٍ ولا سيرة، ولم يركب المواصلات، ولا وقف في صف الرغيف، ولا حمل مريضاً في أنصاص الليالي بحثاً عن قسمٍ للطوارئ أو بصيراً لتجبير الكسور. إن قيادة شعوب السودان أمرٌ مختلفٌ جداً عن قيادة دولة وسط الخرطوم، التي كان يكفي زمان للسيطرة عليها أن تحتل الإذاعة، ويكفي الآن أن تؤيدك قيادة الجيش. فأطراف السودان خرجت عن سيطرة الدولة المركزية منذ زمن بعيد، بعضها خرجت خروجاً مسلحاً، وتمردت على السلطة الخرطومية جهاراً نهارا، وأقامت دويلاتها في أصقاع لم يسمع عنها أكثر أهل النخبة المنعزلة في برجها الإسفيري الافتراضي. وبعضها خرجت خروجاً ناعماً، وأصبحت تدير حياتها بالطريقة التي تنسجم مع مجتمعاتها المحلية. فانتزعت من السلطة حكماً ولائياً ومحلياً، وانتزعت الاعتراف بها كعاملٍ أساسيٍ في إدارة تلك الولايات، ومنها إدارات قبلية، وبيوتات دينية، وأعيان من نخب تلك المجتمعات المحلية، ممن قدموا لأهلهم في تلك المناطق ما يجعلهم أهلاً للتقديم للقيادة والمناصب والمراتب. ولكل هذا فإن تعيين الولاة ليس مثل تعيين الوزراء في الخرطوم، وغيرها من مناصب الحكومة الاتحادية التي يتقاسم القوم غنائمها، سداداً لحرمانٍ طويلٍ، سببه أنهم عجزوا عن مقارعة النظام، فاستكانوا له، حتى فاجأتهم ثورة الشباب التي انحاز لها الجيش، فسلمهم سلطةً لم يكونوا يتصورونها، ولم يستعدوا لها، ولم يكونوا مؤهلين للتعامل معها بحقها. الولايات لها ديناميكيات سياسية واجتماعية مختلفة، وفي يد أهلها الكثير من الأوراق، والوسائل، وأدوات الفعل والضغط والتأثير. وفي تلك الولايات، يجب أن يأخذ أهل السلطة الافتراضية الخرطومية في الاعتبار، مختلف عوامل الاستقرار والاضطراب، ويدركوا محدودية وسائلهم وقدرتهم في التعامل معها. يجب أن يتذكروا كائناً إسمه الشعب. الشعب الحقيقي وليس الاسفيري، ولا لجان الهتاف والتظاهر وتتريس شوارع الخرطوم. الشعب الذي يستطيع أن يقيم دولة داخل الدولة، كما فعل في كاودا، أو دولة خارج الدولة، كما فعل في جوبا.