الدعوة إلي العلمانية ليست دعوة إلي الشذوذ والدعارة ، ولا المجون والخلاعة ، فالمجتمع الإسلامي في أيام الخلافة الإسلامية غلبت عليه هذه الممارسات ، والتاريخ يحدثنا بما يشيب له الولدان ، ولم تكن الدولة علمانية ، والدماء التي سالت ، والأرواح التي أزهقت ، كانت من أجل الوصول إلي السلطة بالقوة ، في غياب آلية سلمية لتداول السلطة ، ليس لأن الدين الإسلامي فيه ما يؤدي إلي إنحلال المجتمع ، ولا لأن فيه ما يؤدي إلي الإقتتال ، إنما لأن الدين كان شعاراً ، وأن الذين قاموا على أمر الدين كانوا بشراً ، أصابهم ما يصيب البشر عند إمتلاك السلطة المطلقة . وتوّفُر المال السائب ، وغياب القانون الرادع. يضع الكثير من الناس حاكمية الله ، أي أن الحكم لله ، مقابل أي حكم وضعي ، من ضمنه العلمانية ، ولأنهم يضعون الحاكمية الإلهية مقابل الحاكمية البشرية ، فهم يُكفّرون من يَحْكم بِحُكم وضعي بشري ، ولكن ، أولاً ، أشير بهذه المناسبة إلي مسألة جدلية في مسائل الحُكم ، فهذا (الحُكم) التكفيري لمن يَحْكم بغير ما أنزل الله يلغي حُكم تحريم الخروج على الحاكم الجائر ، حتى لو لم يظهر منه ما يكفره ، فمجرد حكمه بغير ما أنزل الله يدخله في دائرة الكفر المستنبط من الآيات 44 و45 و47 من سورة المائدة ، كما يفهمها البعض ، فالحاكم الجائر بالضرورة كافر وظالم وفاسق ، ولا أدري كيف لا يجوز الخروج عليه؟، هذا تعليق عارض ، ذكرته لأنه مرتبط بقضية الحاكمية ، إذ يستشهد خصوم العلمانية بهذه الآيات الكريمة من سورة المائدة في رفضهم للعلمانية ، بإعتبار أن العلمانية تخالف آيات الحاكمية ، وأن آيات الحاكمية تفرض على الناس الحكم بما أنزل الله ، أي أن الحكم بما أنزل الله فريضة ، يَكْفُر من يتركها ويحْكُم بغيرها ، ولكن ، لا سياق الآيات ولا تفاسيرها ، تدل على أن الحاكمية هنا هو الحُكم السياسي التشريعي ، أي سلطة الدولة وشئون الحُكم فيها وسياساتها الداخلية والخارجية ، فليس في نصوص الإسلام من قرآن وسُنة نص يوضح كيفية إختيار الحاكم ، وليس هناك نص يأسس طريقة سلمية لتبادل السلطة ، وأما إحالة أنصار الحاكمية لنا إلي ما إتّبعه الصحابة بعد الرسول فخير لهم أن يسكتوا عنه ، وخير لنا أن ألاّ نتحدث به ، وخير للجميع ألاّ نتّبعه ، إذ ليس فينا من يريد الإقتتال وإراقة الدماء ، وليس فينا من يريد أن يشهد فتنة أخرى ، وليس فينا من يريد موقعة جمل أخرى ، ، ولا أن يشهد صفين ولا نهروان ، حيث بدأت قضية الحاكمية ، وليس فينا من يريد لأحد مصير الخلفاء من بعد ذلك. قضية الحاكمية قضية شائكة ، أخذتْ مساحة واسعة لم تكن تستحقها في الفكر الإسلامي ، وهي قضية مفتعلة ، نشأت قديماً في ظروف خاصة بجماعات وأفراد ، غلبت عليهم حمية قبلية ، وخلافات في أحقية الخلافة ، كما سنبين ، ثم إضمحلت الفكرة وماتت وإختفى الشعار عن الفكر الإسلامي قرونًا طويلة، إلى أن بعثها حديثاً أفراد وجماعات ، في ظروف سياسية خاصة من جانب الشيخ أبو الأعلى المودودي في الهند ، وفي ظروف سياسية خاصة بمصر وسيد قطب تلميذ المودودي ، فتمسك بها كل عاطل من أي فكر قويم ، وكل يائس بائس في الحياة ، وكل مصاب بمرض السلطة. ولتفسير هذا الزعم يجب توضيح كيف ظهر مصطلح الحاكمية ، بإختصار ، بعد إلتقاء جيشيْ علي ومعاوية في موقعة صفين ، وبعد قتال عنيف دام تسعة أيام ، وبعد أن قُتل من الفريقين ما يربو على السبعين ألف نفس مسلمة ، توقف القتال ، وتم الإتفاق بين الفريقين على ما سُمي ب (التحكيم) ، رُفعت المصاحف على أسنة الرماح من جانب جيش معاوية ، ورضيَ الفريقان بالإحتكام إلي المصحف ، وتكونت (لجنة تحكيم) من الفريقين لوضع أساس لهذا الإحتكام ، قاد عمرو بن العاص جانب معاوية ، وقاد أيوموسى الأشعري جانب علي ، وتم الإتفاق على الجلوس للتفاوض في رمضان من نفس العام، وكانت المعركة في شهر صفر سنة 37 ه ، عاد عليٌ بمن تبقي من جيشه إلي الكوفة ، وعاد معاوية بمن تبقى من جيشه إلي الشام. كان لأغلبية أنصار علي رأيان مربكان في التحكيم ، الرأي الأول هو أنهم أجبروه على قبول الإحتكام إلي المصحف عندما رفع جيش معاوية المصاحف على أسنة الرماح ، وكان لعلي رأي آخر ، هو أن القوم في الجانب الآخر لجؤوا إلي هذه الحيلة عندما شعروا بالهزيمة ، وأمَرَهم بمواصلة القتال ، ولكنهم هددوه بتسليمه إلي القوم أو أن يفعلوا به ما فعلوه بعثمان رضي الله عنه ، فرضخ علي إلي طلبهم ، كان جل هذه الفئة من حفظة كتاب الله ، يُقال لهم القرّاء ، من منطقة يقال لها حروراء ، وكانوا يعتقدون إعتقاداً جازماً بأن الحق مع علي ، وأن معاوية باغ يجب محاربته ، إذ كان عليه أن يبايع علياً ، ولكن لشئ في نفس يعقوب أجبروا علياً على قبول التحكيم ، ثم بعد عودة جيش علي إلي الكوفة ، اصبح لهم رأي آخر ، إذ إنقلبوا على علي وأخذوا عليه قبلوله بالتحكيم ، الذي أجبروه عليه ، وقالوا: أتحَكّمون في دين الله الرجال؟ لا حكم إلا لله ، فقال عليٌ قولته المشهورة (كلمة حق أريد بها باطل) ، ثم خالفوا علياً وخرجوا عنه ، وإعتصموا بمنطقة حروراء قرب الكوفة ، لذلك يُسمون في بعض الأحيان بالحرورية ، من هناك شنوا الحروب على علي وجيشه ، ووصلوا في خصومتهم مع علي إلي أنهم كفروه ومن معه من الصحابة ، كما كفروا معاوية ومن معه من الصحابة ، هؤلاء هم من عُرفوا في التاريخ بعد ذلك ب (الخوارج) ، ولم يحدث التحكيم في موعده إذ إنشغل عليٌ بحروب الخوارج الكثيرة ، وإنتهت هذه الحروب بمقتله على يد أحدهم ، عُقدت البيعة بعد ذلك للحسن ابن علي ، ولكنه ، بعد وقت قليل ، تنازل عن الخلافة ، فاستوى الأمر لمعاوية . أول الملوك . الشاهد في الأمر أن هؤلاء الخوارج هم أول من أسس لمفهوم الحاكمية كما يفهمها الناس الآن ، وهم أكثر من كفروا الأمة في كثير من الأمور ، من ضمنها قضية الحُكم ، وهم أول من أخرج آيات الحاكمية من سياقها الخاص إلي العام ، ثم جاء الخوارج الجدد المعاصرون ، وتكونت الجماعات التكفيرية ، وساروا في طريق الخوارج ، حاملين سيف التكفير الخوارجي ، الذي قُتلتْ به الأنفس البريئة ، وسالت به الدماء الغزيرة ، وبُقرت به بطون الحوامل. كان للخوارج (اجندات) ودوافع وخلفيات إجتماعية وسياسية كثيرة دعتهم إلي هذه المواقف المتناقضة ،التي أربكت الإمام علي رضي الله عنه ، وأربكت بعده كل الأمة الإسلامية إلي يومنا هذا ، أذ أنهم بدو من قبيلة كانت تعادي قبيلة مُضر والتي هي قبيلة القرشيين ، ولم يكونوا راضين أن تكون الخلافة في قريش ، وكانوا ينادون بأن تكون الخلافة مشاعة بين القبائل ، يتضح من هذا أنهم كانوا يبحثون عن السلطة ، وسعياً منهم للوصول إلي السلطة إبتدعوا قضية الحاكمية ، شعار ديني ليس إلاّ ، ككل الشعارات الدينية التي رفعت في التاريخ البشري من أجل السلطة. نواصل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.