الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنجيلا ميرك: أعظم سياسيّة عرفها العالم .. بقلم: د. محمد بدوي مصطفى

وصلتني قبل بضع أيام رسالة واتسأبيّة تحتفي أيما احتفاء بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تفند سيرتها وتحيكها كما عقد النجوم على نسق فريد نُظمت حباته ونجيماته خلل سنيّ عملها الدؤوب، أولًا كسياسية ناضجة في قلب الحزب الديموقراطي المسيحي، وثانيًا كمستشارة مسؤولة عن كل الشعب الألمانيّ، بشقيه الشرقيّ والغربيّ على حد سواء، ذلك بعد الاتحاد الذي أحدثه انهيار حائط برلين بقوة الشعب ومن بعد تشتت الكتلة السوفيتية شذرات، ساعتئذ لم ينكسر القيد فقط بل تحطمت حتى الحيطان! تقتصر الرسالة على استثنائية هذه المرأة، رغم أنها ليست حديثة جدًا في محتواها، لكنها تذكرنا نحن جميعا بأمور هامة تخصنا جُلّنا لا سيما في خضم حيواتنا كأفراد، مواطنين بسطاء أو من ناحية أخرى كشعوب مغلوبة على أمرها، عندما تسرد عبر راويها عن السيدة أنجيلا ميركل، هذه الأسطورة، الآتي: " بدون ضجة إعلامية، ودّعت أنجيلا ميركل منصبها (...) وذلك إيذاناً بعدم ترشحها مرة أخرى لمنصب المستشارة الألمانية. انتخبها الألمان لقيادتهم فقادت 80 مليون ألماني قرابة 18 سنة بكفاءة ومهارة وتفاني واخلاص، ولم يُسجل ضدها خلال هذه الفترة أيّة تجاوزات. لم تكلّف أحد أقاربها أبدًا (...) ولم تدع أنها المجد والعلا ولا أنها صانعة الأمجاد ولم تخرج لها المليونيات ولم يهتف بحياتها أحد ولم تتلق المواثيق والمبايعات ولم تحارب من سبقوها ولم تحلل دماء ابناء جلدتها ولم تتفوه بهراء أبدًا (...) ولم تَطُفْ في أزقة برلين الكثيرة تصافح الناس وتلتقط الصور."
نعم هي الحقيقة، حتى وإن لم نعهدها نحن أبدًا في ما يسمى بجمهوريات الشرق ولعل معمر القذافي قد اختصر ذات يوم ذلكم المفهوم وما آل إليه حال كلمة "ديموقراطية" عبر وحدة معجمية واحدة لا غير، أرجعها أولًا شكليًا إلى أصلها في اللغة اليونانية القديمة ثم قسمها ثانيًا مورفولوجيًا إلى جزئين وجاء بعصارة المعنى السيميائي وبما تحمله الكملة في سياق العمل السياسي وعموما في مفهوم الشرق، ليقول لنا وبكل بساطة هي تعني (ديموا – كراسي / يعني أقيموا كراسي الحكم من المهد إلى اللحد)، بيد أنها في أصلها اليوناني القديم تعني "حكم الشعب"، إذن فيما يتعلق بأنجيلا نقول حينئذ وبكل تواضع، أنها تركت رئاسة الحزب وسلمته لمن بعدها عبر عملية انتقال ديموقراطي سلس كما أشرنا إليه في المعنى الأصل (لا المحوّر!)، وهل هذا بربكم شيء اعتيادي؟ ثمّ أنها تركت اقتصاد بلدها وحال شعبها من بني الجيرمان وغيرهم وهم على أفضل حال بعد سنين عجاف وتحديات عارمة مرّت عليهم في قضية احتواء الجزء الشرقي ومرارات ماض لن ينسى خلفته أيضًا الحرب العالمية الثانية وحكم النازية الغاشم، فما كان من الألمان إلا أن أثنوا عليها بعفوية لمدة 6 دقائق متواصلة من التصفيق الحار، ذلك دون شعراء ولا إعلاميين، متلونين أو متسلقين، ولم يكن هناك مديح وطبول، كما سلقت عليه شعوبنا، أو نفاق وتمثيل وتطبيل ولم يهتف أحد منهم ملئ شدق ليقول "ميركل وبس"، ولم تتفوّه هي نفسها لتعلن على الملأ، لا خوف على ألمانيا ما دمت أنا قائدتها. " إن هذه الرسالة الواتسأبية يا سادتي ورغم بساطتها وعفويتها لا تحتاج لشرح أو لتفسير منّي لأنها تتضمن كل التعاليم والدروس التي لا تحتاج من بعيد أو قريب لحصة أو درس خصوصيّ، على حد القول، إذ أنها تتحدث عن نفسها بل ومن ثمّ عن كل نفس ذاقت ولا تزال، مرارة العيش في عالم السياسة المعتم في دول تسمى بدول العالم الثالث ... لماذا الثالث بالذات وليس الرابع أو العاشر مثلًا، الله أعلم؟! وحدث ولا حرج.
أصلها مزيج من البولندي وألماني:
رأى مولد طفلة صغيرة باسم أنجيلا دوروتيا كاسنر النور في عام 1954 في مدينة هامبورج التي تقع الشمال الشرقي لألمانيا الغربية ذلك قبل اتحاد الألمانيتين. والدها هورست كاسنر، من القساوسة اللوثريين ولد بعاصمة ألمانيا برلين في عام 1926 وأمها هيرليند ولدت في عام 1928 بمدينة دانزيغ (حاليا غدانسك، بولندا)، وعملت كمدرسة للغتين الإنجليزية واللاتينية لكن الحزب الماركسي بألمانيا الشرقية منعها من ممارسة المهنة بسبب عمل زوجها في الكنيسة وذلك كان مرفوضا لدولة علمانية حاربت كل ما هو روحاني. على كل كانت تحمل هذه الطفلة الوليدة ومنذ نعومة أظافرها جينات أوروبية شرقية وغربية، بولندية وألمانية؛ وكان جدها من أبيها لودفيك ماريان غاشميرشك شرطيها ألماني من أصل بولنديّ، وشارك في بولندا في فترة النضال من أجل الاستقلال وفي عام 1930 ألمن الاسم البولندي، أي جعله ألمانياً، فتحول غاشميرشك إلى كاسنر. لم تتنكر انجيلا لأصولها البولندية أبدًا حيث ذكرت ذلك في عدة مناسبات وصارت علاقتها الأبوية ببولندا أكثر انتشارًا عند اصدار سيرتها الذاتية في عام 2013. كان الدين يعلب دورًا رئيسا في صحن هذه الأسرة لا سيما في هجرة والدها من ألمانيا الغربية إلى الشرقية، ولم يقف تحوله من الكَاثوليكية إلى اللوثرية أن يُمنح منصبَ القس، ودرس علم اللاهوت من قبل في جامعة هايدلبيرج وهي أقدم جامعة ألمانية. وفي عام 1954 تولَى والدها منصب راعي أبرشية في مدينة من مدن ألمانيا الشرقية. لذلك نشأت ميركل في ألمانيا الشرقية منذ انتقال والدها بسبب العمل وترعرعت في بقعة تبعد حوالي ثمانين كيلومترًا عن برلين الشرقية.
عُرف عن الأحزاب الماركسية بغضها ونفورها من كل ما هو دينيّ أو لاهوتي وذلك تلخصه المقولة المشهورة "الدين أفيون الشعوب" لذلك فقد كان والدها القس اللوثري مستهدفا ومراقبا من قبل الإشتازي (جهاز المخابرات في ألمانيا الشرقية) وكانت أنجيلا حريصة كل الحرص، انطلاقًا من هذه الخلفية وفي وقت مبكر ألا تجلب المشاكل على نفسها وأسرتها مخافة أن تعرض نفسها أو أسرتها لملاحقات هما في غنى عنها، وتغير الأمر فور سقوط جدار برلين في عام 1989، وكانت أنجيلا في تلك اللحظة باحثة ودكتورة في علم الفيزياء الكمية لا يشق لها غبار. فبدأت الرؤى تضح لها رويدًا رويدًا وسلكت طريقها في العمل الإنساني والسياسي لا تلوي على شيء.
السيرة الأكاديمية وما بعدها:
كانت أمها تحثها هي وأخواها على المثابرة والدأب في واجبات المدرسة قائلة لأنجيلا "إن لم تفعلي فلن يسمحوا لك ابدا بدخول الجامعة"، وكذلك كانت الحال في ألمانيا الشرقية الماركسية التي تحكم فيها الحزب الحاكم في كل صغيرة وكبيرة وحتى في درجات الامتحانات والدخول إلى الكليات المرموقة بالجامعات وكم من مآسي حكتها سيرة هذا البلد. تعلمت أنجيلا خلال مسيرتها المدرسية اللغة الروسية وبرعت فيها وكانت تتحدثها بطلاقة، وحازت على العديد من جوائز التفوق فيها كما تفوقت أيضًا في المواد العلمية كالرياضيات والعلوم التطبيقية. وبعد أن أكلمت المدرسة التحقت بجامعة تيمبلين ومن بعد بجامعة لايبزيغ ودرست علم الفيزياء من عام 1973 إلى 1978. عملت أنجيلا ودرست في المعهد المركزي للكيمياء الفيزيائية في أكاديمية العلوم من العام 1978 إلى 1990 وتحصلت في هذه الفترة على درجة الدكتوراه عن أطروحة في كيمياء الكم. نشطت في عملها كباحثة وبطبيعة الحال كان شغلها الشاغل أن تشارك بأرواق عمل وأبحاث في المجلات ذات الصيت العظيم في مجالها. كانت أنجيلا في الأصل ترغب في أن تكون معلمة ولكنها لم تُعط الفرصة ذلك بسبب والديها، وتمكنت من دراسة الفيزياء بعد أن سُمح لها وهجرت صحن الأسرة لتبدأ مشوارًا جديدًا في مدينة تيمبلين شمالي برلين ومن بعد في مدينة لايبزغ حيث انقلب منوال حياتها رأسا على عقب.
دخلت في الفور إلى الحياة الطلابية التي تحفها العديد من الصعاب والتحديات وقبل كل ذلك تتيح الحرية، فاستمتعت بها أيما متعة لا سيما مع الزملاء الجدد ومن خلال الرحلات وأيضا بسبب الانشغال ببعض الوظائف الجزئية المؤقتة؛ وفي خضم هذه الأحداث المثيرة والحياة الجديدة تزوجت من زميل لها يدعى أولريش ميركل وكان يكبرها بعام وهي لا زالت تحتفظ باسمه رغم زواجها الثاني وقالت في شأن زواجها المبكر الآتي: "يبدو ذلك حمقا ... لكنني لم اتجه إلى الزواج بالدرجة الكافية من الجدية."
شاركت أنجيلا بعد سقوط حائط برلين في حركة الديموقراطية المتنامية وانضمت إلى الحزب الجديد "الصحوة الديموقراطية". ثم عقب الانتخابات الأولى للأحزاب المتعددة في ألمانيا الشرقية صارت نائب المتحدث باسم الحكومة الانتقالية قبل إعادة توحيد الألمانيتين في عام 1990 واندمجت حركة الصحوة الديموقراطية في الحزب الاتحادي الديموقراطي المسيحي في ألمانيا الشرقية، الذي انصهر فيما بعد مع نظيره في ألمانيا الغربية بعد إعادة التوحيد. وكان لحسن حظها أن شخصيتها تركت لدى المستشار هلموت كول أثرًا حميدًا، فهو الذي اكتشف قدراتها الهائلة وقتئذ وكان يروق له أن يلقبها "بالفتاة الصغيرة"، وأسند إليها منصبين كبيرين في وزارة الأوضاع النسائية ثم البيئة عام 1994. ويمكن أن نقول إنها كانت دائما في الوقت والمكان المناسب لا سيما عندما جاءت فضائح تمويل خفي مست الحزب الاتحادي المسيحي الديمقراطي وتمكنت من أن ترأس الحزب بدلًا عن معلمها هلموت كول وكان ذلك في عام 2000. ورغم أنها في نشأتها وسليقتها بروتستانتية التوجه، فقد فرضت نفسها على رأس حزب كاثوليكي معظم قياداته من ألمانيا الغربية، ومنذ ذلك الحين تمكنت من إزالة جميع خصومها المحتملين عن طريقها لا سيما فريدريش ميرس الذي بقي لها شوكة حوت حتى تمكنت من التخلي عنه، فترك السياسة نادمًا وحانقًا وسلك طريق العمل الاقتصادي فترة طويلة ورجع إلى محافل السياسة الآن عندما آن الأون لرحيل "الفتاة الصغيرة" وكلاهما من المدرسة الكولية.
أنجيلا والسياسة:
لم تتهافت أنجيلا على الانخراط في الحياة السياسية المفعمة بالصراع الحزبي والسياسي إلا بعد سقوط حائط برلين عام 1989 حيث شاركت فقط قبل شهرين من توحيد الألمانيتين. لقد تركت أنجيلا وظيفتها كباحثة لتنضم أولّه إلى جماعة سياسية تألفت من شخصيات محلية من محيطها القريب، وانطلقت بعد ذلك وبكل هدوء في مارثون السياسية الطويل، كانت مفاجأتها أن ترقت في السلم بفضل ذكائها الوقاد وبديهتها الحاضرة فضلًا عن أنها استطاعت أن تقوم ببعض التحركات التكتيكية التي أهلتها أن تتربع على كرسي المستشارة في عام 2005، وقد كان هذا النهج في غاية الوعورة والدراماتيكية فضلًا على أنه كان جديدا كل الجدّة عليها، خاصة بالنسبة لامرأة، تعتبر مواطنة من ألمانيا الشرقية، وقبل ذلك باحثة أكاديمية متمرّسة في مجالها فحسب ودون أي خلفيات عملية في مجالات القانون أو الخدمة المدنيّة.
ويتبادر للفرد منّا هاهنا سؤال جوهريّ: لماذا لم تُفصح ميركل علانية عن سبب تخلّيها عن مجال البحث العلميّ والعمل الأكاديمي مطلقًا؟ وهل فارقها هذا التفكير والسليقة ومنهاجية العمل الأكاديميّ يومًا ما حتى وبعد تقلدها مفاتح الحكم بألمانيا؟ عُرف عنها يا سادتي تمعنها وتفكرها المتأني في قضايا السياسية الحرجة وطلبها الدائم لمشورة أهل العلم والخبراء وكل هذه الصفات لازمتها طيلة فترة حكمها وتعتبر ميزة أصيلة في عملية صنع القرار اليومية لديها. وفي كل فترات حكمها الرشيد كانت في تمام الوعي أنها تتعامل - رغم ما عرف عنها من حديدية وصرامة – أمام الشعب والملأ بكل تواضع ونكران ذات، وهذا ما كتبه لها الشعب الألماني في ميزان أعمالها، فهي لا تزال تحصل على الدعم المعنوي والسياسي طيلة الخمسة عشر عاماً في جمهورية حقّة وبلاد شهد لها العالم بالنجاح، رغم ما حدث من ويلات الحرب، لكن هذا البلد اعترف بما اغترف من ذنب تجاه الإنسانية قاطبة، وربما إن هذا الاعتراف الصريح وتحمل المسؤولية أمام المجتمع الدولي هو الذي يجسد عظمة هذا البلد الذي رافقت إجلاله وسموّه التاريخيّ إنجازات علمية خارقة للعادة وعقول جبّارة مستنيرة، مثل أينشتاين وكانط وجوته وفريدريس روكرت وكارل بروكل مان، وآخرون ممن صُرعوا وقتلوا بسبب النازية الهتلرية وسلبت إنسانيتهم أ و حرقت كتبهم ودمرت أسرهم عن بكرة أبيها، رغم ذلك لم يقفوا مكفوفي الأيدي، إذ سارعوا بعد أن تركت الحرب العالمية الثانية بلادهم حضيضا، وشمروا سواعدهم وبنوا منذ نهاية الحرب بلدًا صار أعجوبة في النضال والتفاني والإخلاص ونكران الذات. لم ينتظروا حكومة تنقذهم من براثن الفقر ولكنهم حملوا أقدارهم على أيديهم وقالوا أما الفقر وإما نحن وهانحنذا نقف الآن ونرى ما وصلت ألمانيا من رقي وشموخ بين الأمم.
أنجيلا ... الحكمة ... العلمية ... واحتواء الكوارث:
لم يكن أبدًا بالأمر الصعب أو المستحيل أن يأمنها شعبها على قيادة سفينة الخلاص وسط أمواج المحيطات دونما خوف أو فزع أن تقذف بهم في غياهب طوفان جائحة لم يشهد لها العالم من مثيل. ساندوها ودعموها معنويًا وفكريًا، فكانت ألمانيا وعلماؤها هم رواد الابتكار في اختراع مصل يخلص العالم من جائحة كورونا وأثبت للكل أنها منصفة في معاملة أبناء البلد والأجانب على حد سواء، ذلك في الحقوق والواجبات ولقد رأينا أن البروفسير أغور شاهين وزوجته الدكتورة، وهما من أصل تركي، قد استطاعا مع مجموعتهم البحثية اختراق قلب الفيروس ووجود علاج ناجع له وكل ذلك لما كان حدث إن شاءت الأقدار وعاشوا في بلد من بلاد العالم الآخر.
لا تزال كورونا تفعل بالناس ما تريد، تقذفهم ذات اليمين وتسوقهم ذات الشمال، وحقيقة لا أحد يعرف بالضبط التحديات التي تنتظر هذا البلد، أو بقية العالم بسبب التطورات السريعة والغير منتظرة للعوامل التي تحرك هذه الجائحة. رأينا ما حدث الأيام الأخيرة في إنجلترا وكيف استطاع الفيروس أن يتحور إلى نوع أكثر خطورة. في خضم كل هذه الأحداث التي حركتها الجائحة بالإضافة إلى سوء العلاقات التي ولدها في السنين الأربع الماضية وجود رئيس اتسمت قرارته بالتلقائية وعدم الاكتراث وكان أحد الأسباب في تدهور العلاقات بينه وبين أنجيلا، رغم كل ذلك فهي تعي ما تفعل وتدبر قبل أن تنجز، ليسها كبعض الذين يعتبرون السياسة فيلما من أفلام هوليوود لا يمت للواقع بصلة لكنها وكما يقول الألمان في مثلهم "تقف بكلا رجليها على أرض الواقع"؛ عرفت بأنها صارمة في ترتيب المعلومات، صادقة في اعترافها عن ثغرات جهلها أو عدم إلمامها ببعضها، وقورة وحكيمة في تعاملها وأخذها وعطائها مع الناس، ومن هنا تكتمل لهذه المرأة كل المكونات التي تجعل منها شخصية تاريخية فريدة واستثنائية، لا سيما بقولتها التي أدخلتها في عام 2016 التاريخ من أوسع أبوابه عندما كانت أفواج اللاجئين الذين نزحوا بسبب الحرب تقف على أبوابها سائلة الأمان، فلم تتوان في أن تقول: مرحبًا بكم وسوف نقدر على كل التحديات ومجابهة هذه الكارثة.
سوف تخلد أنجلا اسمها في الذاكرة كأعظم سياسية أوروبية عرفتها ألمانيا، لأنها حافظت طوال فترة حكمها بأسس العلمية التي أدخلتها في حقل السياسة كعالمة من الطراز الأول، كما وأنها التزمت بكل ما تعلمته في سلك حياتها كباحثة في علم الفيزياء وطبعت بصمتها الشخصية في طريقة التفكير المنطقي المستند إلى الدلائل الحقّة في وقت يفتقد فيه العالم بأسره إلى صفات مثلها. لله درّها هذه الأنجيلا ... سبحان مالك الملك في ملاك خلقه!
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
///////////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.