وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التطرف الديني بالسودان... قرابين الدم هل من مزيد؟! ... بقلم: خالد فتحي
نشر في سودانيل يوم 28 - 07 - 2010

لم تكن حادثة «الخليفي» جريمة عنف عابرة والسلام لكنها كانت واقعة بالغة القسوة شديدة الغرابة لا مثيل لها ولا نظير كانت شيئاً أشبه بالزلزال بل كانت زلزالاً بحق واهدت الحادثة الدموية لبلادنا التي اشتهرت بالتسامح الديني القائمة الاولى لضحايا العنف الديني ورسمت الدماء التي تطايرت من أجساد الضحايا مشاهد موغلة في المأساوية عبرت بصدق عن المنزلق الذي قطعاً سيكون له ما بعده وقد كان. ونعت الحادثة بلسان الحال عهود من التسامح سادت بين الناس بمختلف الملل والنحل لدينا ونبّأت بنزول الجميع ساحة نذر فتن تبدو كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها في أقصاء الآخر بالعنف وبمنطق إهدار الدم والتكفير ورد المنطق بقطع الرؤوس لكل من خالف أو اختلف. شدت الحادثة التي تبعتها حادثات ثلاثة في سنوات متقاربة الانتباه وتسارعت الأنفاس وتدافعت الأسئلة تترى من شاكلة من أين أتى هؤلاء؟ وكيف نشأوا وعلى عين من انشئوا؟ ثم لا يتوقف سيل الأسئلة والتساؤلات من هم؟ ما هي رويتهم؟ وما هي أهدافهم ومناهجهم؟ ماذا عن غاياتهم وقاداتهم؟ والسؤال الأهم لماذا يقتلون الناس؟ ولماذا اختاروا العنف طريقاً لبسط سيطرتهم بدلاً عن الحوار؟ وهل يرغبون في الاستيلاء على نظام الحكم بالقوة على نهج الجماعة الإسلامية أو جماعة الجهاد بمصر؟ أم هم تواقون لتغيير المجتمع وإعادة صياغته بالعنف اسوة بالجماعة الإسلامية بالجزائر.
وتشير البيانات الى أن مطر الرصاص الراعف الذي تطاير على أيدي متطرفين دينيين هنا وهناك، تسبب في إيذاء اكثر من (93) شخصاً تساقطوا على مسارح الجريمة بين قتيل وجريح كانت المحصلة لثلاث عمليات عنف لجماعات متشددة بعد أن تواثب الطين ليبلغ مقام النور فأضحى الإنسان الذي لا يملك حتى لنفسه موتاً ولا حياة ولا نشوراً يطمع في تبديل موقعه فيأخذ حقاً ليس له فيفتش في صدورالناس ويحاكم نواياهم ليقرر هذا كافر وليس بكافر.
دوي الرصاص
الزمان ظهيرة الجمعة 13 فبراير 1994م المكان مسجد الشيخ أبوزيد بالثورة الحارة الاولى. كان شيئا لا يصدق، لم يحدث من قبل على الإطلاق. شعور بالصدمة والذهول انتاب الجميع من هول النبأ عن تعرض مسجد الزعيم التاريخي لجماعة أنصار السنة الشيخ أبوزيد محمد حمزة لهجوم مسلح نفذته جماعة متطرفة يتزعمها شخص يدعى محمد الخليفي. اسفر عن سقوط (51) شخصاً بين قتيل وجريح.
وبعد سبعة أعوام على الحادثة الاولى وبالتحديد يوم السبت 9 ديسمبر 2000م الموافق 12 رمضان خرج متطرف آخر يُدعى عباس الباقر يحمل بندقية كلاشنكوف أيضاً وهاجم بوحشية مصلين اثناء أدائهم صلاة التراويح داخل مسجد أبوبكر الصديق بضاحية الجرافة وفتح المتطرف المهووس نيران بندقية دون تمييز ولم تنقضي دقائق قليلة حتى استحالت أرضية المسجد الى بركة دماء وكومة أشلاء ممزوجة بصراخ المفزوعين وزفرات ساخنة لآخرين قبل اغماضة الموت الاخيرة. وسجلت العملية الدامية سقوط (20) شخصاً قتلى وما يفوقهم جرحى. قبل أن يقتل الباقر نفسه في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة قريبا من المكان.
وفيما يشبه الامتداد لخيط الدم امتطى أربعة شبان وثيقي الصلة بالمتطرفين ينتمون لجماعة «أنصار التوحيد» سيارتهم واعتمروا بنادقهم في ليلة رأس السنة بالعام 2007م وخرجوا ميممين وجوههم حيث يوجد الأمريكيون وبجد أخذوا يبحثون عن ضحية جديدة تذبح قربانا لوليمة الموت ووضع القدر أو الحظ العاثر الدبلوماسي الأمريكي جون مايكل غرانفيل وسائقه عبد الرحمن عباس رحمة في طريق كتيبة الإعدام فما هي الا هنيهة لم تجاوز (15) ثانية حتى امطروا جسديهما بالذخيرة الحية وتكفلت الثقوب التي أحدثتها المقذوفات النارية بتدوين أسمائهما على قائمة ضحايا التطرف الديني بالسودان.
معالم في الطريق
ثمة تفاصيل تناثرت على غير هدى بسياق الأحداث التي سنتعرضها لاحقاً بيد أنها تسترعي الانتباه فحادثتي الثورة والجرافة على سبيل المثال استهدفتا مساجد لجماعة أنصار السنة المحمدية بمنطقة أم درمان وشكل المصلون ضحايا العمليتين الدمويتين لأن المنفذين تخيروا اوقاتا توافق ساعة الصلاة ففي حادثة مسجد الشيخ ابوزيد اختار الخليفي ورفاقه موعد صلاة الجمعة للتنفيذ في حين حرص عباس الباقر على توقيت ساعة الصفر متزامنا مع انخراط القوم في صلاة التراويح فقد صادف ميقات التنفيذ ليالي شهر رمضان المعظم. ولوعدنا قليلاً الى الحادثة الثالثة نجد انها المرة الاولى التي توجه بنادق المتشددين الى اجنبي أو أمريكي بالذات، والحادثتان الاولى والثانية استهدفت مسلمين على وجه العموم ومنتمين لجماعة انصار السنة بشكل خاص. صحيح ان حادثة مقتل غرانفيل شهدت مصرع سائقه لكن المؤكد ان الامريكي كان هوالمقصود بالقتل وليس سواه والدليل ان الشبان استعفوا صينيين في ذات الليلة بزعم انهم (مساكين).
والشيء الآخر انها المرة الاولى التي ينجو فيها الجناة بفعلتهم قبل القاء القبض عليهم لاحقا فعلى العكس تماما من حادثتي الثورة والجرافة حيث دخلت الشرطة في تبادل نار كثيف مع الخليفي ورفاقه وقتلت اثنين والقت القبض على الثالث بعد اصابته ولاحقاً قدم الى المحاكمة التي قضت بإعدامه ونفذ الحكم داخل سجن كوبر. اما في الحادثة الثانية فنجد ان القاتل لقي مصرعه بالقرب من مسرح الجريمة في تبادل لاطلاق النار مع الشرطة أيضاً ووري الثرى بمقابر فاروق بالخرطوم بعد رفض ذويه استلامه ودفنه ويروي خفير الجبانة ومسؤول الدفن بها أن السفاح كان «رجلاً شديد الضخامة اتعبنا في دفنه فقد وقعت جثته مرتين من النقالة التي كنا نحمله عليها، ورفض اهله استلامه ودفنه فقمت انا بذلك». وايضا من المصادفات الغريبة ان الشيخ ابوزيد الذي شهد مسجده اول عملية ارهابية من نوعها شارك نجله (عبد الرؤوف) بفعالية في آخر عملية من هذا النوع التي طالت الدبلوماسي الامريكي غرانفيل وسائقه منذ اكثر من عامين.
ونافلة القول أن تفشي الافكار المتطرفة وانتشار ثقافة التكفير وإهدار الدم واستسهال سفكه تفتح باباً لا يرد من الفتنة ولا يأمن شرها احد فالحملة الشعواء التي شنت ضد صاحب «الوفاق» محمد طه محمد أحمد على خلفية نشر صحيفته مقال المقريزي المثير للجدل والذي حمل إساءات بالغة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم أغرى بعض الرجال على اختطافه من منزله في وقت متأخر من ليل الثلاثاء 5 سبتمبر 2006م قبل العثور عليه بساعات قليلة جسدا مفصول الرأس في فضاء نائي بمنطقة الكلاكلة شرق بطريقة تعد الابشع بتاريخ السودان الحديث ولعل الجميع يذكرون مقالة المتحري في القضية العميد عوض عمر «أن المتهمين مارسوا عملية اخراجية توحي بأن منفذيها ينتمون لإحدى الجماعات الدينية المتشددة) فحز رأس القتيل ووضعه على ظهره مثلت احدى اشهر طرق تنظيم القاعدة في القتل ومن بين القرائن التي قدمتها هيئة الاتهام الى المحكمة كانت صحيفة سودانية نشرت صورا لضحايا قتلوا بالعراق وجرى التمثيل بهم بذات الكيفية.
خلية السلمة
لا يختلف اثنان أن الصدفة وحدها ولا شيء غيرها من قاد الشرطة الى هتك استار وكشف اسرار ما سيعرف لاحقا بخلية «السلمة» وبعدها توالى سقوط بقية المقرات والمخابئ بأيدي الاجهزة الامنية كتفاحة ناضجة وفي غضون يومين توصلت الاجهزة المختصة الى مخابئ أسلحة تخص الجماعات المتشددة بسوبا شرق والحتانة وجردت حملات مطاردة شرسة لعناصر الخلايا اسفرت عن اعتقال (63) شخصاً على ذمة الأحداث.
وبدأت القصة في 12 اغسطس 2007م عندما انتبه السكان بحي السلمة جنوبي الخرطوم على دوي انفجار اعتقدوا للوهلة الاولى أنها "انبوبة غاز".. السكان القريبون من المنزل سارعوا الى المكان لاستجلاء ما حدث ولتقديم المعاونة اذا تطلب الامر ذلك. لكنهم فوجئوا بثلاثة شبان في مقتبل اعمارهم يهرعون لخارج المنزل ويحاولون بشيء من العجلة إيقاف إحدى سيارات الاجرة «أمجاد» لإسعاف مصابين داخل المنزل وبحسم منعوا أي شخص من الدخول الى المنزل أو معاونتهم على إسعاف زميلهم الى المستشفى. التصرف الغريب حمل البعض الى الاتصال بشرطة النجدة وإبلاغهم بالامر. وعلى الفور خفت دورية تابعة للشرطة الى المكان وقامت بإسعاف المصاب واقتادت آخرين كانوا بالمنزل الى قسم الشرطة للتحري في الواقعة. عناصر الشرطة التي اقتحمت المكان هالها ما رأت داخل المنزل المتواضع حيث عثرت على كميات كبيرة من المتفجرات صنعت طريقة بدائية مخبأة داخل جوالات، كما وجدت ان المنزل مظلم شيئا ما حيث كان الرقم (صفر) مثبت على شاشة عداد الدفع المقدم بينما تناثرت ملابس تخص الشبان الخمسة على ارضية المكان الذي خلا من الأثاث سوى بعض السجادات المفروشة على الارض. ومن الواضح أن الشرطة احست بخطورة الامر فوصل الفريق محمد نجيب الطيب الذي كان يتبوأ مقعد مدير شرطة ولاية الخرطوم وقتها الى المكان وأخذ يطوف بالمكان وسط تحذيرات متتالية من عناصر مسرح الحادث الذين وصلوا الى هناك قبله بقليل من الحيطة وخشية انفجار العبوات الناسفة حيث كان المكان اشبه بحقل الغام أو مخزن سلاح قابل للانفجار في أي لحظة.
ولم تمضِ ساعات حتى اعلن وزيرالعدل محمد علي المرضي آنئذ الذي كان القناة الرسمية الوحيدة التي تتدفق عبرها معلومات هذه الخلايا الى وسائل الإعلام عن ضبط مخبأ جديد بسوبا شرق وبعدها بساعات أيضا وبالتحديد في 14 اغسطس 2007م اعلن ان الاجهزة الامنية توصلت الى مخبأ ثالث بضاحية الحتانة شمال أم درمان وكشف عن ضبط كمية كبيرة من المواسير تستخدم لعمل دانات اكياس ذخيرة وأسطوانات حديد إحداها معبأة وجاهزة للتفجير واخرى على وشك أن تتم تعبئتها وماكينة لحام إلى جانب أكياس في حجم جوال الاسمنت بها مواد متفجرة. بجانب العثور على اسطوانات شبيهة باسطوانات غاز الثلاجات معبأة بالفعل وجاهزة للانفجار وعلب صغيرة ومواسير بأحجام مختلفة، كما تم العثور على نوتة تحتوي على معلومات وطريقة تصنيع العبوات الناسفة. بجانب توقيف (20) شخصاً اخضعوا للتحقيق بجهازالأمن.
وكادت انباء خلية "السلمة" وتوابعها تؤدي لنشوب ازمة بين وزيري العدل محمد علي المرضي ووزير الداخلية البروفسير الزبير بشير طه عندما ذكر الاخير بأن التفجيرات ذات صلة بازمة القوات الدولية التي اندلعت بين الحكومة والامم المتحدة بعد أن بدأ مجلس الامن الدولي في التفكير جديا في نقل التفويض الاقليمي لقوات الاتحاد الافريقي بدارفور لتفويض دولي يسمح بإرسال قوات دولية لبسط الامن واستعادة الاستقرار وحماية المدنيين بالإقليم وفي مؤتمر صحفي بالمركزالسوداني للخدمات الصحفية في 20 اغسطس 2007م سئل المرضي عن تصريح لوزير الداخلية بتأكيد وجود رابط بين عناصر خلية «السلمة» وازمة القوات الدولية فأجاب قائلاً إن رأي الوزير لا يعبر بالضرورة عن رأي الحكومة أو مجلس الوزراء. وتسبب نقل الخبر بتلك الطريقة في مصادرة صحيفة "رأي الشعب".
ويؤكد البعض أن خلية «السلمة» شكلت عنصر انتقال نوعي كبير في فكر المتطرفين بالسودان على مستوى التكتيك على الاقل حيث اخذوا في التوسع في الاستفادة من التقنية الحديثة في تجهيزاتهم كما وكيفا خاصة فيما يلي صنع السلاح والتعامل مع الحاسوب والانترنت وهذا سيقودهم فيما بعد الى زيادة الاتصال بالعالم الخارجي بصورة اكثر من الذين سبقوهم في هذا المضمار. ولعل الاف بي اي تنبهت الى هذا التطور منذ وقت كاف الامر الذي قاد الى تتبع اتصالات افراد الخلية التي تورطت في اغتيال غرانفيل وسائقه حيث القي القبض على محمد مكاوي وعبد الباسط حاج الحسن المتهمين الاول والثاني بالقضية وهما من اعضاء خلية «السلمة» داخل مقهى للانترنت بحي كوبر بينما كان محمد مكاوي يهم بالاتصال بشقيقه عبر «الماسنجر» وجاء في اقواله امام القاضي سيد أحمد البدري "إنه قصد مقهى للإنترنت في حي عمر المختار مع المتهم الثاني عبد الباسط على أمل أن يجد المتهم الأول شقيقه على الماسنجر أو يجد رسالة على البريد الالكتروني".
وقبلها التقط جهاز استخباري امريكي متخصص في مراقبة المواقع التي يشتبه صلتها بالجماعات المتشددة بياناً لجماعة (انصار التوحيد) على موقع (الإخلاص والحسبة) تبنت فيه المجموعة عملية اغتيال غرانفيل وسائقه حيث اصدر محمد مكاوي بصفته امير الجماعة توجيهاته لعبد الباسط الحاج (المتهم الثاني في قضية غرانفيل) وشخص آخر يدعى محمد إبراهيم بصياغة البيان عن تبني العملية وبالفعل حسب أقواله اثناء التحقيق صاغه شخص يدعى (وحيد) ويقال إنه الاسم الحركي لعبد الروؤف ابوزيد وهو للعلم لم يكن من افراد خلية «السلمة» وعدله محمد إبراهيم قبل بثه في الموقع المذكور بعد إعطائه للفضائيات «الجزيرة» و»بي بي سي» وبرر خطوته تلك بأنهم كرهوا تأويلات بعض التقارير الصحفية حينئذ التي ذهبت الى حادثة أخلاقية أو مرورية وكانوا يرغبون في اظهارها كعملية جهادية وفي المحكمة وقف المتهمين بين بين فأشاروا الى ان جريمة اغتيال غرانفيل وسائقه «تهمة لا تنكر وشرف لا يُدعى» وحتى بعد إدانتهم بالإعدام شنقا حتى الموت اصروا على موقفهم ورفضوا تماما مبدأ الاعتذار رغم انه كان يعتبر المخرج أو طوق النجاة بالنسبة لهم.
ونجد أن الشبان تخيروا مناطق أو أحياء طرفية تتميز بالطابع الشعبي حيث تقل كثيرا اعين الرقابة الامنية بتلك الاماكن، ووظفوا ايضا خبرات عسكرية لا تدري من اين اكتسبت في تصنيع المتفجرات وطرائق تخزينها وفي تقرير أوان الأحداث نشر بجريدة (الصحافة) بعنوان «الخرطوم ترقص على أنغام البارود» أكد خلاله قائد قوات التحالف العميد المتقاعد عبد العزيز خالد عثمان أن طريقة تخزين المتفجرات والذخيرة التي اتبعها الشبان هي ذات الطريقة التي تستخدمها الجيوش النظامية في تخزين اسلحتها في ممرات خرسانية تفاديا للانفجار جراء الاحتكاك أو حرارة الطقس مشيرا الى ان عناصر الخلية استعاضت بالمخازن الكبرى بأخرى صغيرة توزعت على اماكن متفرقة لكن بخطة مدروسة.
والمراقب لهذا الامر يجد أن الشبان تدربوا أيضاً وبشكل جيد على طرائق جمع واستقصاء المعلومات خاصة الأهداف التي يرغبون في ضربها وخير مثال ما ورد على لسان امير جماعة «أنصار التوحيد» محمد مكاوي المتهم الاول وصاحب الطلقة الاولى في عملية اغتيال غرانفيل اثناء التحري قائلاً «وحاولت الاستفادة من المعلومات السابقة لخلية السلمة عن أمكنة وجود الامريكيين». وهذا يعني ان ما فعلوه بالسلمة كان تخطيطاً بالغ الدقة ولولا الصدفة لما قدر لأحد اكتشافه.. ودليل آخر ان أسامة محمد عبد السلام المسؤول الاول عن تنظيم خلايا السلمة والعقل المدبر لها والذي يعتقد انه لا يزال محتجزاً حتى الآن القي القبض عليه في مكان لم يتوقعه احد.
والمؤكد أن الخلايا اخذت في النشاط وسط غياب كامل لاجهزة الدولة، دلت الصدفة اليهم والقي القبض عليهم وعثر على (20) عبوة جاهزة للتفجير، وجرى استخدام حيلة ذكية للكشف عن بقية عناصر الخلايا النشطة أو الحية حيث أوهم الاشخاص الاربعة الذين اوقفوا بعد حادثة تفجير «السلمة» ان زميلهم الذي اصيب لقي مصرعه متأثرا بجراحه ولا بد من الكشف عن المخابئ الاخرى حتى لا ينفجر السلاح في وجوه الآخرين. والمعروف أن الشخص المصاب ويدعى (ياسر) لم يمت بل بترت أصابعه جراء الحادثة واخضع للعلاج لفترة ليست بالقصيرة.
التطرف كيف؟ ولماذا؟
في اطروحة علمية غير منشورة لنيل درجة الماجستير بعنوان)سمة التدين وعلاقتها بالقلق وبعض المتغيرات) للباحثة النفسية والاجتماعية انتصار الفاتح تطرقت الباحثة التي أجرت دراسة ميدانية بمنطقة الثورة محلية كرري في العام 2004م لأنماط التدين وقسمته الى عشرة انماط: التدين المعرفي (الفكري)، التدين العاطفي (الحماسي)، التدين السلوكي (تدين العبادة)، التدين النفعي (المصلحي)، التدين التفاعلي (تدين رد الفعل)، التدين الدفاعي العصابي، التدين المرضي (الذهاني)، التصوف، والتدين الاصيل، واخيرا التطرف ويعني الغلو في جانب آخر أو أكثر من جوانب الدين بما يخرج الشخص عن الحدود المقبولة التي يقرها الشرع ويجمع عليها علماء الدين ويمكن تقسيم التطرف الى ثلاثة أنواع. التطرف الفكري: حيث يصعب النقاش مع هذا الشخص حول ما توصل إليه من أفكار ويتعلق على فكرة فلا يقبل فكراً أو رأياً آخر. التطرف العاطفي: وقد يكون التطرف في مجال العاطفة حيث تصبح عواطف الشخص كلها متركزة على الجوانب الدينية ويصبح شديد الحساسية من هذه الناحية شديد المبالغة في الانفعال بها. التطرف السلوكي: وهنا تجد الشخص يبالغ مبالغة شديدة في أداء الشعائر الدينية الظاهرية بما يخرجه عن الحدود المقبولة شرعاً وكأن هذه الشعائر هدف في حد ذاتها لذلك نجد أن هذه الشعائر تخلو من معناها الروحي بل إن التطرف في مجال الفعل قد لا ينتهي عند حدود تصرفاته الشخصية، بل يتجاوز ذلك الى مجتمعه، فيقوم بإلزام الآخرين لكي يسلكوا مثله وإذا أبوا ذلك ربما يقوم بالاعتداء عليهم.
ولو نظرنا في السيرة نجد حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم يتطرق الى شخص يدعى «ذو الخويصرة» الذي يقال إن الخوارج يخرجون من صلبه فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، ويقال له أبو الحويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل». فقال عمر يا رسول الله، ائذن لي فيه فاضرب عنقه؟
فقال: «دعه، فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، ويخرجون على حين فرقة من الناس «. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته. قال: فأنزلت فيه: «وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ». لكن هؤلاء الناس هل هم خوارج خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الرمية كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أم شبان استبد بهم الحماس.
يرى الهادي محمد الأمين الصحفي المهتم بشؤون الجماعات المتشددة في إفاداته ل(الأحداث) أن استدعاء الخوارج لربط ما يفعله عناصر هذه الجماعات صدى نشيد بعيد فتلك المجموعات لم تعتزل الناس كالخوارج بل تغلغلوا وسط المجتمع وكونوا خلاياهم داخله وأعتقد انهم لو اعتزلوا الناس لما استطاعوا تنفيذ عملياتهم بالطريقة التي تجري بها. فتجدهم يخالطون ويسعون في الأسواق ويطالعون الصحف وهذه بالذات تسهم كثيراً في وضع خطتهم ودراستها والعمل على تطويرها وتلافي أوجه القصور بها. لكن مع هذا يجب الأخذ في الاعتبار أن بالامر شيء من التشابه فضحايا عمليتي الخليفي وعباس الباقر كانوا من المصلين حيث وقعت الحادثتين في ساعة توافق وقت الصلاة ففي الاولى استغل الخليفي واعوانه اداء المصلين لصلاة الجمعة وفتحوا نيران اسلحتهم عليهم دون تمييز وفي الاخرى تعمد السفاح ان يدخل المسجد اثناء صلاة التراويح وارسل زخات كلاشه كالمطر للمصلين أيضاً دون تمييز بين صغير أو كبير أو شيخ أو طفل باعتبار أن الجميع في نظره كافر. أما في حادثة غرانفيل فهم يرون ان مصرع سائقه لا غبار عليه ويسمى هذا في فكر الجماعات ب(التترس) يعني انه لا غضاضة من قتل مسلم أو جماعة مسلمة في سبيل الوصول الى الكفار والنيل منهم، ويزعمون أن المسلم أو المسلمين الذين يقتلون هناك يبعثون على نياتهم. فهم يطلقون على الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً مصطلح «العدو الصائل» ويضعون هؤلاء على رأس أولوياتهم لكن أيضاً للأعوان أو العملاء نصيب من الموت اذا جاء.
والتترس اصلا فتوى لشيخ الإسلام بن تيمية افتى بها ايام دخول التتار الى ديار المسلمين ولاحقا صارت من المفاهيم الحاكمة للعمل العسكري لدى الجماعات الإسلامية المسلحة. وقد ارتكزت الحجة الأخلاقية لقتل المسلمين الأبرياء أثناء مواجهات هذه الجماعات مع خصومها سواء كانوا من الكفار (الأصليين) ويقصدون بذلك الغرب أو بعض الدول غير المسلمة، أو كانوا من الكفار (المرتدين) ويعنون بهم الحكومات العربية والإسلامية. على هذا المفهوم الفقهي الذي يرى أن وقوع بعض القتلى المسلمين غير المقصودين بالعمليات العسكرية لا يعتبر محرما، قياساً على بعض الآراء الفقهية القديمة التي تجيز ذلك إذا كان أعداء المسلمين قد تترسوا بأسرى مسلمين في الحرب بحيث لا يستطيع المسلمون الوصول الى أعدائهم إلا عن طريق قتل الأسرى المسلمين. ولو سلمنا جدلا بحاكمية فتوى ابن تيمية وأغفلنا حرمة الدم المسلم والمستأمن فهؤلاء يتناسون أن الفتية تتطرق لأمور تقع ايام الحرب ثم لا ينظرون الى البيئة التي قيلت فيها الفتوى وينزعونها من السياق التي جاءت به.
والثقات من رواة الأحداث يشيرون الى أن جماعة (التكفير والهجرة) نشأت داخل السجون والمعتقلات المصرية إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر (1918- 1970م) كردة فعل عنيفة على التعذيب وكانوا يظنون ومن بينهم مؤسسها (شكري مصطفى) ان حاكما مسلما لا يبنغي له ان يعذب احدا من المسلمين بتلك الطريقة وأن المجتمع لو كان مسلماً لما توجب عليه السكوت على تلك الجرائم. أما في الجزائر فإن الفكر المتطرف وجد أرضية خصبة بعد رفض قدامى المحاربين من رجال جبهة التحرير الجزائرية لنتائج الانتخابات التي انتهت بفوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بزعامة عباسي مدني وعلي بلحاج العام 1988م.
والغريب أن بلحاج ومدني لم يكونا تكفييرين والاخير ذاع عنه امتناعه عن الطعام حزنا على اسر فرنسيين بالعراق لكن اعتصامه ذاك جلب عليه بعض السخط بينها تأنيب من الدكتور هاني السباعي صاحب مركز المقريزي للدراسات التاريخية. وهذا الرجل بالذات كتب (4) حلقات نشرت بصحيفة (الحياة) اللندنية قصة الجهاد بينها فصولا دارت بالسودان في منتصف تسعينيات القرن الماضي. فكيف وجدت تلك الجماعات سبيلا الى السودان وما هي مواجدها على اهله؟ وماهي الأسباب التي ادت لبروز هذه الظاهرة على ذاك النحو في السودان؟
شرر في الظلام
الشاهد أن تنامي تيار الإسلام السياسي بالسودان الذي بلغ ذورته بمجيئهم الى السلطة كان ذا أثر بل اسهم بطريقة واضحة في تحجيم التيارات اليسارية بلا استثناء بتضييق الخناق عليها في الحياة العامة وتشريد كوادرها بالفصل عن طريق الصالح العام مع ملاحقة أمنية شرسة لقياداتها ونشطائها اتبعت بحملة لا تقل عنها ضراوة داخل الجامعات والمعاهد العليا واسفرت الحملات الشعواء على حمل الكثيرين للهجرة ومفارقة الوطن الى المنافي البعيدة ومدن الشتات بحثا عن ملاذات آمنة ومن بقي لا يختلف عن اثنين إما باحث عن الهجرة وإما وحيد وغريب لا يقوى على فعل شيء فاليد الواحدة لا تصفق. واما الصوفية اضحت مظهراً لا يعبر عن جوهر الآباء المؤسسين الذين ضربوا امثلة اسطورية في الزهد والورع.
واعترى جماعات اليمين ضعف ظاهر خاصة تلك التي جاءت في ركاب السلطة أو التي تحالفت معها لاحقا على الاقل في اطروحاته الاخلاقية بفعل تقلبات السياسة التي كثيرا ما تعمل وفقا لمقولة الإيطالي نيقولا ميكيافيلي صاحب كتاب (الامير) بنظرية «الغاية تبرر الوسيلة» وميكيافيللي هذا من اشد المنادين بفصل الاخلاق والسياسة. لذا يعتقد الكثيرون بأن ضرب اليسار وتضييق الخناق عليه مع وهن اليمين وإعماله لمبدأ الانتهازية السياسية في العديد من المسائل جعل الطريق ممهداً امام دعاة التشدد للظهورفي الساحة.
وفي رؤيته عن ظاهرة التطرف الديني في السودان وجذوره يرى بروفيسور عوض محمد أحمد، كلية الطب ، جامعة بحر الغزال أن تغلغل الإسلام في بلاد السودان بطرق سلمية مثل التجارة وقدوم عدد من اقطاب التصوف, الامر الذي أدى لعدم ظهور اتجاهات متطرفة لفترة طويلة. كان الدعاة الأوائل متسامحين الى حد كبير مع عادات و تقاليد أهل البلاد حتى ما كان منها متصادماً مع بعض اصول الدين. والسبب في هذا انهم كانوا يأملون بمرور الزمن في اندثار تلك العادات, كما انهم كانوا أفرادا ولم يكونوا فاتحين أو حكاماً حتى يمكنهم فرض تصوراتهم الفقهية. وقد اثبت الزمن صحة اعتقادهم.
ويمضي البروفسير عوض ليقول : فيما عدا فترة المهدية وحتى الى وقت قريب لم يعرف المجتمع السوداني (التطرف المنظم), وإن كان يوجد دائماً افراد متشددي التدين الشخصي, الا انهم كانوا يحصرون تشددهم على انفسهم أو افراد اسرهم الأقربين. بل وقد شهد المجتمع السوداني تسامحاً منقطع النظير حتى مع اشد مخالفي التوجيهات الدينية. وربما لا يعرف الكثيرون ان بلادنا شهدت في القرن الثامن عشر جماعة كانت تعيش في ما يشبه المعسكرات وتتبنى قيم واسلوب حياة يضاد كثيراً من ثوابت الدين تسمى الزبالعة (كانت اقرب لجماعات الهيبيز التي ظهرت في اوروبا في ستينات القرن الماضي). إذن الاستثناء الوحيد في مجرى الاعتدال الديني حتى وقت قريب كان فترة المهدية وما وسمها من فوضى في شتى المجالات خصوصا في فترة الخليفة عبد الله التعايشي.
لا شك ان مجتمعنا يشهد حاليا نمواً غير مسبوق لجماعات التطرف الديني, ويرجع تاريخ نهضة هذا التيار الى فترة السبعينات من القرن الماضي. هذا التطرف لحمته وسداه هو الجماعات السلفية. التيار الحاكم الآن الذي تعود جذوره لجماعة الاخوان المسلمين ورغم سجله في القهر وانتهاك حقوق الإنسان في تجربته الا انه بعيد من التطرف الديني لحد ما مقارنة بجماعات التطرف السلفية, بل احيانا ما يكون هدفا لانتقادها بحجة ابتعاده عن صحيح قيم الدين. بيد ان هذه الجماعات تخدم النظام بصورة من الصور (ربما تكون مقصودة أو غير مقصودة, حيث تظهره بمظهر الاعتدال الذي يفيده سياسيا). وتعود اسباب بروز وازدهار موجة التطرف الديني الحالية, في نظرنا, للعوامل الآتية:
1. شهدت فترة السبعينات توجه أعداد كبيرة من السودانيين للعمل في دول الخليح (اكثرهم توجهوا للسعودية), وكانوا في أعمار صغيرة نسبيا ومتوسطي التعليم وقليلي التجارب, الامر الذي أدى لتأثرهم بقيم الحياة هناك القائمة على التدين السلفي, فحجبوا نساءهم واخواتهم وفرضوا عليهم وعلى انفسهم عزلة اجتماعية وتبنوا آراء سلفية متشددة وعمدوا إلى نقل تغيراتهم هذه الجديدة لداخل السودان عند عودتهم في الاجازات السنوية الطويلة نسبيا. وسهل الأمر عليهم ثراءهم النسبي وميل الناس عادة الى مجاملة ومسايرة ومداهنة ذوي السعة من الناس.
2. عمد النظام المايوي منذ أواخر السبعينات لاعتماد مظاهر دينية مختلفة ومتسارعة بلغت ذروتها بتطبيق قوانين سبتمبر في 1983م, هذه التغيرات ترافقت مع التضييق وتقليص نفوذ جيوب يسارية وقومية عربية وعلمانية كانت جزءاً من مفاصل الحكم بعد القضاء على انقلاب يوليو 1971م وتحجيم نفوذ الحزب الشيوعي. تم تحريم تداول الخمور في بعض مدن السودان (كسلا), وتم إلغاء هيئة المراهنات الرياضية (توتو كورة) في عام 1976م, وتم منع الرسميين من تناول الخمور في عام 1976م فيما عرف بالقيادة الرشيدة وتم زيادة جرعات مادة الدين في المدارس وجعل النجاح فيها شرطا للحصول على الشهادة الثانوية, وتم تأسيس كليات وجامعات تقوم اساساً على دراسة الدين (إعادة تأسيس الجامعة الإسلامية في 1972م وإعادة صفة الجامعة لها وقيام كلية القرآن الكريم في العام 1983م), وتم تأسيس بنك فيصل الإسلامي في 1977م, وتمت المصالحة بين نظام مايو واحزاب يمينية التوجه ذات صبغة دينية في عام 1977م ونشطت حركة إنشاء المساجد في المدارس والجامعات واماكن العمل, وغشيت اجهزة الاعلام الحكومي موجة من التدين قوامها تكثيف جرعة المواد الدينية, ونشط الاهتمام بالمناسبات الدينية فتم قفل المطاعم في شهر رمضان وتعطل دولاب العمل في كل المناسبات الدينية من الهجرة الى المولد, وتم اجتراج مهرجان سنوي لحافظي القرآن الكريم تحت رعاية رأس الدولة بنفسه. كل هذه العوامل كانت تنفخ الهواء بضراوة وبوتائر متسارعة في أشرعة حركة التدين الآخذة في تنامٍ وسط المجتمع, وكان تطبيق قوانين سبتمبر أمراً منطقيا ونهاية طبيعية لهذا المسار.
3. ظهور تنظيمات متطرفة ذات طابع أممي وذات تمويل سخي ومريب, ومجالها الحيوي هو العالم اجمع كتنظيم القاعدة, وطبيعي ان تشجع طبيعة التدين الفاشية وسط السودانيين, وتسامح الدولة تجاه القوى الدينية هذا التنظيمات لمحاولة العمل داخل السودان من خلال لافتات محلية. فقد شهدت البلاد حوادث غامضة الدوافع في غضون الاعوام الماضية مثل حادثة هجوم الخليفي على جامع الشيخ أبوزيد وحادثة الجرافة وحادثة كمبو عشرة في ودمدني.
4. بالطبع يشكل وجود النظام الحالي القائم على توجهات دينية دعما نفسيا لازدهار حركات دينية متطرفة بتوفيره للجو العام الداعم للتدين (رغم تأكيدنا ان النظام نفسه وكذلك معظم المتنفذين فيه ليسوا من المتطرفين دينيا, بل عرفوا بروح الاعتدال في هذا الجانب).
5. يوجد ازدهار شديد في نشاط الحركات السلفية المختلفة وتنوعت مشاربها ولم تعد قاصرة فقط على جماعة انصار السنة المحمدية. بل بلغ بها الامر ان استقطبت اعداداً غير قليلة من الطلاب (بما فيهم من في كليات القمة في جامعة الخرطوم) متمددة على حساب الجماعات اليسارية وغدت منافسة لجماعة طلاب الحزب الحاكم نفسه. مع صعود نجم عدد من علماء الدين الشباب, بعضهم اخذ ينشط في اجهزة الإعلام الرسمية بطريقة لافتة ويجمعون حولهم اعداداً لا يستهان بها من شباب الجامعات.
6. التراجع الكبير في نشاط الاحزاب العلمانية واليسارية والتيارات الليبرالية في حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي لاسباب مختلفة وضعف تأثيرها على المجتمع وفر مجالاً رحباً للقوى الدينية للتحرك بحرية ومن غير منافسة والتمدد في مساحات كانت حكراً على نحو كبيرا على اليسار مثل تنظيمات المجتمع المدني وتنظيمات النساء والشباب, ناهيك عن الساحة السياسية نفسها.
7. هناك تراجع في الدور الروحي للطرق الصوفية لصالح (صوفيين جدد) حولوا التصوف لما يشبه (البزنس), فصرنا نشهد تدخل قوى الامن وآليات القانون الجنائي لفض (الخناقات) بين بعض اقطاب الطرق, ففقدوا روح التسامح حتى فيما بينهم فكيف بهم ينقلونها للآخرين؟ وكيف بهم يدعون الناس للزهد في الدنيا وهم يتقاتلون عليها بالناب والظفر؟
8. مناهج التعليم ووسائل التدريس المتخلفة البالية القائمة على التلقين والحفظ والاستظهار, الامر الذي يشيع الكسل الذهني ويقتل روح المبادرة والنقد والتساؤل ويهيئ الطالب للخضوع للوقوع فريسة سهلة لقوى التشدد التي تضفي على نفسها وعلى شيوخها قداسة الدين.
ويرى الهادي محمد الامين الصحفي المهتم بشؤون هذه الجماعات أن ظاهرة الغلو بدأت تطل برأسها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي كما بعد أن ظلت جماعة أنصارالسنة تحتكر العمل بالساحة السلفية لردح من الزمان الى أن ظهرت مجموعات أخذت تتأثر بأقوال شيوخ جدد ينتمون للفكرالسلفي ويتحدثون بلسانه لكن دون أن ينضووا تحت لواء جماعة أنصار السنة ومنهم الشيخ (ع، ي)، (ع، ز)، (م، ع) والأخير لفت اليه الأنظار بعد إصداره تسجيلاً بعنوان "إعدام زنديق" رأى فيه ضرورة اقامة الحد على شيخ الحركة الاسلامية الدكتور حسن الترابي بصفته مرتداً عن الإسلام.
ويرى أن هذه المجموعات أخذت من انصار السنة المبالغة في الحديث عن العقيدة بجانب المظهر "اللحية والجلباب القصير وعدم مصافحة النساء". ولهذه اللازمة الاخيرة نظائر وقعت اثناء محاكمة المدانين بقتل غرانفيل، فقد لاحظ الجميع في غير ذات مرة ان عبد الرؤوف ابوزيد المتهم الرابع في القضية كان يرفض تماما جلوس إحدى الفتيات بجانب قفص المتهمين داخل المحكمة ولم يكتف بذلك بل كان يستدعي احد افراد شرطة المحكمة لإبلاغه بشيء من الحدة عن عدم رغبتهم بجلوس أي امرأة بالقرب منهم واقتبست من جماعة الإخوان المسلمين التكتيك وسرعة الإيقاع والالتحام مع الجماهير وتلبية رغباتهم وضرب مثالا بالفتوى الشهيرة بمقاطعة البضائع الأمريكية وعلى رأسها المشروبات الغازية الأكثر شهرة في العالم "البيبسي" و"الكوكا كولا".
أما الخليفي فدخل الى السودان مع الطليعة الاولى لموجة العرب الافغان الذين اخذوا في التدفق منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حيث كان أحد أفراد طاقم الحراسة لزعيم تنظيم القاعدة اسامة بن لادن قبل ان ينشق عنه ويفتي بتكفيره بل يحاول اغتياله مباشرة بعد قتله المصلين داخل مسجد الشيخ ابوزيد. ومن المهم جداً الإشارة الى أن تيار العرب الافغان ادخل الى السودان ثقافة حسم المعارك الفكرية بالسلاح ولا ننكر ان التكفير كان موجوداً بالمجتمع لكنه يمضي دون مضاعفات يعني أنصار السنة قد يخطئون بعض غلاة الصوفية في بعض ما يصنعون بما يبلغ درجة التكفير لكن لا يبادرون الى قتلهم أو تصفيتهم جسدياً فالخليفي مثلاً لم يجد حرجاً من استهداف حتى صاحب متجر "دكان" اختلف معه في الرأي والثابت حسب التحريات ان الخليفي عرج الى المتجر لقتل صاحبه لكنه فوجئ به مغلقا فعاد ادراجه. اما عباس الباقر فقاتل في الجنوب مع قوات الدفاع الشعبي قبل ان يعود الى العاصمة للسكن مع شقيقه الذي يعمل سائقا بضاحية الجرافة بأم درمان وفي مسجد تابع لجماعة الكتاب والسنة التي يقال انها فرقة انشقت أيضاً من جماعة انصار السنة ودخل الباقر في مجادلات فكرية حادة لم يطق بعدئذ سوى حسمها بالسلاح.
واما في عملية اغتيال غرانفيل وسائقه فلم يدخل الشبان في جدل مع احد الا في المحكمة حين اكثروا من رفع شعارعدم جواز اخذ المسلم بالكافر.. وفي جلسة 11 اكتوبر 2008م على سبيل المثال والتي انعقدت للاستماع الى رأي أولياء الدم من ذوي المجني عليهم مرة اخرى بناء على توجيهات محكمة الاستئناف بعد ظهور مستجدات تمثلت في قبول والد عبد الرحمن التعويض عن دم ابنه والتنازل عن القصاص عن قاتليه لكن المحكمة فوجئت بأن أرملة السائق بجانب والدة غرانفيل لازالتا مصرتين على القصاص فقام المتهم الثاني عبد الباسط حاج الحسن متحدثا انابة عنهم قائلاً "لو كنا نحاكم بمقتضى القانون والعدالة الذي نحتكم اليه اضطراراً لتمت تبرئتنا ولكننا رأيناها قضية سياسية ونطلب من محامينا الانسحاب وعلى المحكمة مواصلة اجراءاتها".. في حين وصف مهند عثمان المتهم الثالث بالقضية وهو ضابط متقاعد برتبة ملازم اول (غرانفيل) بالكافر وقال ان الامريكيين قتلوا المسلمين في العراق وأفغانستان وحتى في دارفور".
ويؤكد ان عناصر خلية "السلمة" امتازوا بتوظيف وسائل التقنية الحديثة فيما يلي التصنيع والاتصال فمعظم الذين انتسبوا الى الجماعات تخرجوا ودرسوا بكليات الطب أو الهندسة حيث برعوا في توظيف العلوم التي تلقوها بقاعات الدرس بالجامعات. وكما اسلفنا بأن خلية "السلمة" اسمهت بنقلة نوعية على مستوى التكتيك على الاقل حيث اخذوا في التوسع في الاستفادة من التقنية الحديثة في تجهيزاتهم كماً وكيفاً خاصة فيما يلي صنع السلاح والتعامل مع الحاسوب والانترنت. اما على مستوى الاستراتيجية فالهدف النهائي لهؤلاء الشبان لا يزال غائماً خاصة لعناصر خلية "السلمة" باعتبار أن عنف الخليفي والباقر كان موجها بالمقام الاول الى الداخل وفي الداخل الى فئة قليلة من الناس رغم جهرهم بتكفيرالجميع. لكن الشبان اخذوا في التطلع الى الخارج ويحاولون ربط ما يفعلون بما يفعل بالمستضعفين من المسلمين بالخارج وهذا الامر جعل السلطات تجنح لإدارة حوار فكري معهم في شكل مراجعات بعد إلقاء القبض عليهم وغادروا بعدها المعتقلات تباعاً بعد اقتناعهم أو إظهارهم القناعة بالتراجع عن افكارهم ويعتبر أحمد جعفر أحمد المطلوب على ذمة قضية فرار قتلة غرانفيل والذي وصفته بعض الدوائر الأمنية ب(الرأس المدبر) لعملية الفرار آخر الذين غادروا المعتقل.
الامر الثاني أن ما صنعوه سابقا (الاغتيال) ولاحقاً (الفرار) جلب لهم عطفا واضحا ليس في أوساط البسطاء فحسب بل حتى من اصحاب القلم فصاحب "الانتباهة" الطيب مصطفى على سبيل المثال لم يجد حرجا في اظهار تعاطفه معهم وحثه الحكومة والسلطة القضائية بالسعي لايجاد مخرج لهم من هذه الورطة واصفا اياهم ب(الأطهار)، وهذا الاتجاه تجده بطريقة اكثر وضوحا في مقابلة اجراها الصحفي مالك طه مع زعيم جماعة انصار السنة الشيخ ابوزيد محمد حمزة نشرت بصحيفة (الرأي العام) في 4 يوليو 2010م فانظر الى اجابته على سؤال "من ناحية شرعية بحتة كيف تنظر الى جريمة القتل نفسها في ميزان الشرع؟ لو سلمنا جدلا ان هؤلاء الأربعة اقترفوا الجرم، فأنا أقول إننا يجب ان ننظر الى الدوافع، هل هؤلاء الأربعة مجرمين وقتلة بالأساس!! هم ليسوا كذلك، اذن فما هو الدافع!!
دافعهم هو حالة الاضطهاد التي يعيشها المسلمون في العالم وفي فلسطين والعراق وافغانستان، وسكوت الحكام المسلمين عن هذا. ما فعلوه - وانا لا اوافقهم عليه - هو من باب رد الظلم عن المسلمين" وهنا تزداد العبارات وضوحا "الاولاد ديل شالوا هم الامة كلها، وهذا الهم مفروض تقوم به الدول والحكومات".
ومن الدلائل الواضحة على كم العطف أو التعاطف الذي اسبغ على الشبان انهم لم يقدموا للمحاكمة بتهمة إنشاء أو تكوين خلايا أو منظمة إرهابية مثلا وكان في الاستطاعة والمقدور فعل ذلك بسهولة والادلة موجودة بل على العكس تماما اخضعوا لمراجعات فكرية تطاولت اثناء حبسهم باعتبار أن فئة من الناس ربما اصابتهم (معرة) وقد نهض الشبان في اعداد العدة للقتال استجابة لدعوتهم. وقاد المراجعات كوكبة من كبار العلماء والدعاة وللمراجعات شأن لا يخفى مع هذه الجماعات فقد سبق وان جربته الحكومة المصرية من قبل بعد ان اعيتها الجماعات المتطرفة خاصة في صعيد مصر حيث شهدت الساحة تداخلا عجيبا وصل حد الامتزاج بين المتطرفين واهلهم الذين رأوا في حمايتهم نخوة وبسالة وارشاد الحكومة اليهم أو تسليمهم لها شيء من اللؤم والخسة، والمراجعات الفكرية مع زعماء وكوادر التنظيم الاسلامي داخل السجون والمعتقلات اسفرت عن فتوى شهيرة احدثت دوياً هائلاً في يوليو 2003م عندما افتى زعيم الجماعة الإسلامية بمصر كرم زهدي بأن "أنور السادات شهيد مات في قتال فتنة"، ونقل عنه قوله أن الجماعة آسفة لاغتيال السادات، لافتاً إنه يعتبر السادات "شهيداً مات في قتال الفتنة"، وإن الزمان لو عاد به وبالجماعة إلى عام 1981م لما أجاز قتله، بل لعمل على منعه. ويعد زهدي أحد المشاركين في عملية الاغتيال وحكم عليه بالسجن المؤبد.
ويضرب الأمين الصفح عن جدوى المراجعات مع عناصر الجماعات لعدة اسباب اولها انهم شباب وللشباب فورة وحماس كما يقولون بالاضافة الى اتصالهم بالعالم الخارجي ومتابعة ما يجري فيه بشكل دقيق وهذا يجعل قابليتهم للتفاعل مع الأحداث والانفعال بها اكبر خاصة في المناطق التي تشهد قتالاً بائنا بين الامريكيين والشعوب المستضعفة او ما يجري على ارض فلسطين المحتلة.
والروح الانهزامية أو الرغبة في الاستسلام قليلة وتكاد تكون منعدمة وعن صبر اسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة في كهوف افغانستان ومغاراتها واشهرها "تورا بورا" شأن عجيب عجيب، ولعل ما حدث في الكلاكلة القطعية أخيراً ابلغ دليل عندما دخلوا في معركة دامية مع الشرطة رافضين تسليم انفسهم. والمؤكد ان عناصر خلية "السلمة" كانوا يضنون بأنفسهم عن التسليم للسلطة والدليل فرار مجموعة كبيرة منهم الى مناطق متفرقة شرقاً وغرباً وشمالا. والمقاومة الشرسة لبعضهم وبينهم نجل داعية إسلامي معروف عند محاولة الاجهزة الامنية القبض عليهم بمنطقة سوبا شرق في اغسطس 2007م.
وهنالك أمران يسهلان على عناصر الجماعة عدم الوقوع في قبضة الحكومة أو الاستسلام لها أولا انهم يتمتعون بقدرة فائقة على التخفي والصبر على الساتر بطريقة مدهشة بزوا بها كوادر اليمين التقليدي واليسار بالرغم من ان عناصر الاخير اشتهروا في براعتهم في التخفي بما يعرف ب(النزول تحت الارض). اضف الى ذلك انهم يقومون بتنفيذ عملياتهم بطريقة (اضرب واهرب) وهذا يعني ان الصدفة فقط وليس سواها من تلعب دوراً أساسياً في القبض عليهم.
الأمير
محمد مكاوي إبراهيم حمد 24 سنة، طالب بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كلية الهندسة، قسم الطرق والجسور يسكن الخرطوم أركويت. وتحصل على درجة البيكالريوس وهو داخل السجن.
يعد مكاوي أحد افراد خلية "السلمة"، حيث فر الى دارفور بعد موالاة الاجهزة الامنية توقيف عناصر الخلية ومنها الى الابيض وهناك استخرج جنسية مزورة بتقديم نفسه على انه ابن عم عبد الباسط ومنها الى عطبرة قبل وصوله الخرطوم للتخطيط والاشتراك في اغتيال غرانفيل وسائقه واقواله امام المحقق بالقضية تصلح لإسقاط المزيد من الاضواء على تلك الفترة رغم انه تراجع عنها لاحقا وجاء فيها «بعد حادثة السلمة توجهت مع آخرين الى الابيض ومنها لنيالا ثم الجنينة بدارفور وهناك التقيت بعبد الباسط ومهند (المتهمين الثاني والثالث)، طلعنا الخلاء على ظهر الخيل، لنتدبر أمرنا وماذا نحن فاعلون؟ توصلنا الى قناعة أن العمل صعب بدارفور لوجود المعارضة والقوات الاجنبية وخلصنا الى أن العمل يحتاج لامكانات ضخمة، وناقشنا أمر البقاء داخل السودان أو مغادرته للجهاد في الصومال وكنت من المؤيدين للجهاد بالسودان، وعدنا للابيض باعتبار أن المجموعة يمكن ان تتعرض للاعتقال بالخرطوم، وقمنا باستخراج جنسيات بأسماء مستعارة من الابيض، بعدها قررنا العودة الى العاصمة مع المضي في إجراءات السفر تحسباً لأي طارئ، وتوجهنا الى الخرطوم عن طريق عطبرة التي استأجرنا بها بيتاً ومزرعة من أحد المواطنين بسوق الدامر يدع (المك) بمبلغ اثنين مليون جنيه بعقد موثق بمحامي ومكثنا نحو 20 يوما، وفي الخرطوم تعرفت على عبد الرءوف (المتهم الرابع)، واستأجرنا منزلاً بالثورة الحارة (25) وكلفنا مهند (المتهم الثاني) بشراء سلاح وقررنا البحث عن هدف أمريكي لتصفيته، كنا وقتها نتحرك بسيارة اكسنت صالون استأجرناها مع سيارة سوزوكي والاثنتان كانتا بدون تظليل لتنفيذ الخطة ليلة الاحتفال برأس السنة الميلادية. وبالفعل توجهنا عند ساعة الصفر للاماكن المستهدفة أنا وعبد الباسط وعبد الرءوف ومهند، ومن أم درمان تحركنا للحاج يوسف حيث تركنا (السوزوكي) تحت الحراسة وحاولت الاستفادة من المعلومات السابقة لخلية السلمة عن أمكنة وجود الامريكيين، ومررنا على كل البيوت والمكاتب حتى النادي الامريكي لم يسقط منا لكن لم نجد أثر احتفال، وأخيرا عثرنا على أحد المكاتب نهاية شارع الأكاديمية الطبية لكن تحصينه كان قويا وأعلى من إمكاناتنا، قمنا بتعديل الخطة لاستهداف السيارات الخارجة من الاحتفال وبالفعل تعقبنا سيارة لاندكروز بيضاء تحمل لوحة دبلوماسية تشير الى ان السيارة تتبع للسفارة الامريكية الرقم كان معروفاً لدي، المسافة بيننا كانت نحو 500 متر تقريبا لكن سيارة الامريكي توقفت وشاهدت الاضاءة الداخلية تعمل، و(نشنت) على الامريكي عند التنفيذ خرجت حتى نصف جسدي من السيارة دون فتح الباب وسددت طلقتين نحو الامريكي من طبنجة عيار9 ملم، قبل أن (تعمل) مانع . بينما سدد عبد الباسط نحو ست طلقات من بندقية كلاشنكوف ولم أسمع صوت صراخ بعد الحادثة.
والهندسة التي درسها مكاوي سيكون لها شأن لا تخطئه العين في ايامه القادمات بدءاً من الاستفادة منها في صنع أحواض التخمير والمخابئ الاسمنتية واخيراً في وضع وتنفيذ خطة الفرار من خلف اسوار سجن "كوبر" في عملية غير مسبوقة. وكادت الهندسة ان تهدم قضية الاتهام رأساً على عقب عندما ذكر المهندس محمد عبد القادر خبير أسلحة الذي ظهر ضمن قائمة شهود الدفاع بأن (زاوية الضارب) لا تتيح له اصابة الكبد أي من المجني عليهما وتستحيل حسب قوله بأن تهتك الا لضارب من اعلى لأسفل. لكن القاضي الحصيف رد عليه قوله بشيء من الغلظة خلال تلاوته القرار النهائي بجلسة النطق بالحكم ان الشاهد وقع في خطأ في حساب المثلثات لا يقع فيه (تلميذ تمهيدي). لأنه نسي أو تناسى ان احد المتهمين وهو محمد مكاوي نفسه كان شبه واقف اثناء اطلاق النار على غرانفيل وسائقه.
خالد فتحى [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.