لا تزال موجة التكفير آخذة في الارتفاع, ولا يزال مد التكفيريين في تنامٍ مطّرد غير آبه ولا مبال بالمجهودات الكبيرة التي بذلتها وتبذلها السلطات الأمنية للحد من الظاهرة مستعينة بمجموعة من العلماء لإثناء منتسبي الجماعات التكفيرية ممن تم توقيفهم في حادثات متفرقة ومختلفة, عن فكرتهم التي آمنوا بها واتخذوها وسيلة لإصلاح الحكام والمجتمعات.. لكن بارجة السنين والأيام تمضي فتهدأ موجة التكفير مرة وترتفع - حتى تكاد تستحيل الى عواصف - مرات آخريات. في وقت نقلت فيه صحيفة «الصحافة» عن مصادر أمنية مأذونة منتصف الأسبوع الفائت حادثة إخلاء السلطات الأمنية لسبيل العقل المدبر لخلية السلمة الدكتور أسامة أحمد عبد السلام، الذي اُعتقل في منتصف أغسطس2007م، بعدما وضعت السلطات الأمنية يدها على خلية إرهابية بضاحية السلمة جنوبي الخرطوم إثر انفجار أسطوانة معبأة بمادة النتروجرسلين القابلة للاشتعال عن طريق الخطأ, ما قاد إلى كشف مخطط الخلية في العام 2007م. ونقلت الصحيفة عن مصدرها الأمني قوله إن عبد السلام أُفرج عنه لتراجعه عن توجهاته وأفكاره التكفيرية بعد عدة مراجعات قام بها بعض العلماء الذين جادلوا أفراد خلية السلمة داخل المعتقلات، على رأسهم د. عبد الحي يوسف، والشيخ عبد الجليل الكاروري، ود. خالد عبد اللطيف، والشيخ علاء الدين الزاكي», حسناً فالجدل الفكري مع منتسبي خلية السلمة أثمر عن تراجع قائد المجموعة, بعد مراجعات فكرية, لكن ذلك كله لم يكن كافياً لوقف مد التكفيريين, وأمس الأول أوردت صحيفة «الانتباهة» بروز خلية تكفيرية «نشطة» بولاية نهر النيل تقوم بتوزيع كتب وملصقات تكفيرية بأنحاء الولاية, ونقلت الصحيفة عن مصدر أمني: «تحرك اتيام من الشرطة لولاية نهر النيل لمعرفة زعيم الخلية وأتباعه», ما يعني بجلاء أن مد التكفيريين وطوفانهم آخذ في التمدد.. تمدد أرجعه مساعد الامين العام لهيئة علماء السودان حيدر التوم خليفة الى بروز مستجدات في المجتمع والواقع السوداني ما دعا لتزايد نشاط الخلايا التكفيرية, منوهاً في حديثه ل(الأحداث) امس الى ان الفكر التكفيري لم ينتهِ في السودان أصلاً وإن ظل في حالة بيات شتوي, يصحو متى ما تحققت شروطه» لافتاً الى ان التكفيريين لهم دوافع دينية واقتصادية واجتماعية وإن فكرهم يأتي نتاجاً للقصور في الفهم الفقهي, وأردف يقول: «إن الفكر التكفيري ليس لديه أية مرامٍ سياسية ومشكلته الرئيسية مع المجتمع من زاوية فهمه للدين». بيد أن الخبير في شؤون الجماعات الإسلامية الهادي محمد الأمين نحا نحواً مغايراً لما مضى اليه مساعد الأمين العام لهيئة علماء السودان, مشددا في حديثه ل»الاحداث» امس على ان الجماعات التكفيرية لها موقف واضح من الحكومة, عازياً تنامي مد التكفيريين الى توافر المناخات المساعدة على انتشار التطرف, وأردف يقول: «إن المناخ في كل جبهاته يدعم بروز التكفيريين, خصوصاً ان هنالك وجود أجنبي كثيف ممثلاً في القوات الاجنبية والمنظمات والسفارات, علاوة على الازمة السياسية والفكرية الناجمة عن انفصال الجنوب». ومضى الهادي الى ابعد من ذلك, معتبراً ان واحدة من مسببات ظهور التطرف تتمثل في الصدمة التي حطت برحالها على الشباب الذين راهنوا يوماً ما على أطروحات الإنقاذ والحركة الإسلامية في عقابيل تسنمها السلطة, وزاد: «صُدم معظم الشباب في شيوخهم كما ان بعضهم صُدم في الحكومة التي رفعت شعارات دينية عجزت عن تنزيلها الى ارض الواقع», مشيراً الى ما أسماه «رابط الفكر والدم» بين الحركة الإسلامية وبعض المتطرفين, وزاد يقول: «البلد المحن لابد يلولي صغارن». وكان مدير جهاز الأمن الوطني، الفريق أول محمد عطا، كشف في لقاء نادر جمعه إلى قيادات المجتمع ورموز العمل الديني والدعوي في يناير الماضي، عن حوارات متصلة يديرها الجهاز مع عناصر محسوبة على بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة لتصحيح بعض المفاهيم، وعطفاً على قول مدير جهاز الأمن الوطني عاليه فإن صحيفة «الصحافة» نقلت عن مصدرها الأمني قوله: «إن المراجعات التي نفذها بعض العلماء مع العقل المدبر لخلية السلمة أثمرت عن تخليه عن افكاره ما قاد الى إخلاء سبيله», غير أن هذا كله لا يروق للخبير في شأن الجماعات الإسلامية الهادي محمد الأمين, مشدداً على ان المعالجات الهادفة الى إثناء التكفيريين عن فكرهم خاطئة في مجملها, لجهة أن امرها بيد الجهات الأمنية, علاوة على ان المتطرفين يتعاطون مع العلماء ممن ينفذون المراجعات على أساس انهم من فقهاء السلطان, وأردف يقول: «إن المعالجات الامنية لوقف التطرف أثبتت فشلها في السعودية ومصر وغيرها من الدول», مشدداً على أن حوار الدول مع منتسبي الجماعات المتطرفة عبر المراجعات داخل المعتقلات, يولد عند المتطرفين اعتداداً فكرياً بمنهجهم التكفيري, وحين يخرجون فإنهم يمارسون تطرفهم بلا هوادة وبصورة أعنف». وكانت الفتنة الكبرى التي أعقبت مقتل سيدنا عثمان رضي الله عنه برزت على إثر تولي الإمام علي كرم الله وجهه الخلافة - ما سمي في التاريخ الإسلامي بالخوارج ومنذ ذاك الحين عرف المسلمون مفردة «التكفير»، فيما شهدت الخرطوم ثلاث حوادث كان أبطالها بعض أنصار التيار المتشدد أولها حادثة مسجد الشيخ ابوزيد بالثورة الحارة الاولى «الجمعة 13 فبراير 1994م» الذي تعرض لهجوم مسلح نفذته جماعة متطرفة يتزعمها شخص يدعى محمد الخليفي أسفر عن سقوط (51) شخصاً بين قتيل وجريح. وفي منطقة الجرافة فتح متطرف يدعى عباس الباقر نيران سلاحه على مصلين اثناء أدائهم صلاة التراويح داخل مسجد أبوبكر الصديق في 9 ديسمبر 2000م الموافق 12 رمضان وسجلت العملية سقوط (20) شخصاً قتلى واكثر منهم جرحى, قبل أن يقتل الباقر نفسه في تبادل لإطلاق النار مع الشرطة قريباً من المكان. بينما شهدت ليلة رأس السنة من العام 2007م إطلاق (4) شبان النار على الدبلوماسي الأمريكي جون مايكل غرانفيل وسائقه عبد الرحمن عباس رحمة, قبل أن يلقى القبض عليهم وإيداعهم سجن كوبر الاتحادي ومن ثم يحكم عليهم بالإعدام, ليلوذوا بالفرار, قبل أن تلقي الشرطة القبض على أحدهم بينما لقيَ أحدهم ويدعى «مهند» حتفه بالصومال. ويرى عضو الرابطة الشرعية للعلماء وأستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الخرطوم الدكتور محمد عبد الكريم إن المجموعات المتطرفة تريد أن تحدث التغيير عن طريق العنف. وقال في حوار سابق مع «الأحداث» إن استخدام العنف كوسيلة، ومحاولة التغيير عن طريق القوة، أمر لا نقره، ولا يجوز شرعاً، لأنه يؤدي لإراقة الدماء، وإزهاق الأرواح البريئة، ويترتب عليه العديد من المفاسد», ويعود مساعد الأمين العام لهيئة علماء السودان حيدر التوم خليفة مشدداً على انه ليس من حق طائفة أو مجموعة ان تنفذ القانون بيدها, مضيفاً ان تكفير المسلمين لبعضهم من غير ضوابط شرعية ومن غير أصول فقهية يعتبر أسوأ الاشياء في العالم الإسلامي, ومضى خليفة الى أن الاسلام اصله المحاورة والمجادلة، مشيراً الى ان واحدة من المشاكل التي أدت الى ظهور الفكر التكفيري تتثمل في غياب الاجتهادات الفكرية وضعف التحصيل والتجديد الفقهي لأن الأحكام الفقهية يجب أن تستصحب معها ظروف العصر وفقه الواقع وفقه الضرورة», لافتاً الى امكانية محاصرة التكفيريين والحد من انتشارهم بنشر الوعي الفقهي وخفض نسب العطالة وسط الشباب, لجهة انها واحدة من مسببات انجذاب اليافعين الى الخلايا التكفيرية», ويرجع الخبير في شؤون الجماعات الاسلامية الهادي محمد الامين, داعياً الى اهمية استخدام علماء ذوي ثقة لدى التكفيريين في المراجعات الفكرية والفقهية, بجانب العمل على ملء فراغات الشباب والعمل على توظيفهم لانهاء البطالة, لضمان الحد من ظاهرة التطرف, منوها الى ان منتسبي الجماعات المتطرفة حين مراجعتهم فكرياً فإنهم يعمدون إلى تغيير افكارهم وكتابة تعهد للسلطات الأمنية بعدم العودة الى فكرهم القديم, تحت ستار «التقية», وهنا – والحديث للأمين – مكمن الخطر». الاحداث