لعلك لن تفهم معنى العبارة التي اتخذناها عنوانا لهذه المقالة الصغيرة إلا إذا علمت أن قائلها هو العقيد القذافي قائد الثورة الليبية، والذي كان يخاطب حشدا من الناس في مناسبة لم أعد أذكرها، في عام لم أعد أذكره، سوى أنه في بدايات تسعينات القرن الماضي إبان اشتداد الحصار العالمي على ليبيا. كان العقيد يحدث الناس ساعتها عن مساوئ العيش في بلاد الغرب حيث "الدفن غادي بي فلوس"، أي أن الدفن (هنالك في تلك البلاد) يكلف مالا...مقارنا بالطبع (دون أن يذكر ذلك) الحال في تلك البلاد ببلاده التي تقوم بتجهيز المقابر وتحفر العديد منها مقدما، وتجهز المغاسل والأكفان وكل ما يلزم للدفن قرب مسجد قريب تصلى فيه صلاة الجنازة قبل الدفن. لا أعلم عن أحد تراود أحلامه فكرة الهجرة للغرب (بعد أن هده الفقر والعوز في بلاده) وعدل عنها بسبب أن الدفن فيها "بي فلوس"! فالذي يفكر في الهجرة يحب الحياة، والموت هو آخر ما يخطر له على بال، غلت تكاليفه أم رخصت! وسمعت أحد هؤلاء المهاجرين في الغرب الذين خبروا الحياة فيه بعد عقود من معاناة صعوبة العيش ومكابدة الفقر في بلاده الأصلية يقول: "إن الحياة صعبة مكلفة حيث ولدت، والموت صعب مكلف حيث سأموت"! فتأمل هذا الشقاء الملازم! ذكرت هذه العبارة سالفة الذكر وأنا أقرأ ما كتبه كونراد أنيل في صحيفة "إنترناشونال هيرالد تربيون" يوم الجمعة 16 يوليو 2010م بعنوان "متقشف في الحياة وفي ما بعدها". يكتب الرجل بلهجة ساحرة ساخرة عن حقيقة تكلفة الدفن في الولاياتالمتحدة، وكيف أنها عملية تتطلب الحذر والحيطة والاستعداد. بيد أنه قلما تجد من يأبه لهذه التكاليف، فالناس في شغل بالحياة لا يسمح للمرء منهم بمجرد التفكير في ما سيدفعه لنفسه أو لأحد من أحبائه (كما يجري التعبير عند القوم)، بينما نقول هنا (لأحد من أقربائه). والتكاليف ليس لها حد أقصى ولا سقف بعينه، فهي تختلف حسب البلد الذي تعيش فيه والبلد الذي ستموت فيه، وعلى نوع الجنازة ومراسم الدفن التي ترغب فيها، لنفسك أو لمن تحب! وضرب الكاتب كونراد أنيل لهذا مثلا بالذي يتبرع (قبل الموت بطبيعة الحال) بجسده للأبحاث أو التدريس الطبي. لن يكلفه الموت مليما (أو بالأصح سنتا) واحدا، إذ أن جسد المتبرع سيتم تحنيطه بكلفة لا تقل عن 35000 ألف دولار تتحمل الجهة التي ستحصل على تلك الجثة تكلفتها كاملة. غني عن القول أنه في تلك البلاد من غير المسموح به قانونا وعرفا وأخلاقا أن يبيع المرء كل أو بعض جسده لأي غرض من الأغراض، غير أنه – مبلغ علمي- يسمح ببيع الدم لبنوك الدم في المستشفيات المتخصصة، وهي عمل يقوم به عادة من تقطعت به الأسباب، ومن يرغب في زيادة دخله، خاصة بعد أن تناقص عدد المتبرعين بالدم بشكل خاص من فصائل تعد نادرة). هنالك طريقة أخري للدفن يعدها بعض الناس صديقة للبيئة ولا تكلف سوى مئات قلائل من الدولارات، وهي عملية الحرق بالنار. لا تجيز الديانة الإسلامية واليهودية والمسيحية الكاثوليكية هذا العمل، بيد أن كثيرا من مسيحيي اليوم لا يجدون فيه بأسا. في هذه العملية تدخل الجثة في فرن بالغ الحرارة لنحو ساعتين (وأكثر عند من منح بسطة في الجسم)، يتحول الجسد الميت بعدها لأبخرة ورماد عظام لا يتعدى وزنها كيلوجرامين، توضع في صندوق صغير لا يحتل غير مساحة صغيرة في المدفن، أو ركن في غرفة المعيشة أو في مكتب العمل (مثل بروفسير فورد في جامعة ليفربول البريطانية والذي شاهده باندهاش بالغ طالبه السوداني يجلس في مكتبه كالعادة مباشرة بعد حضور مراسم دفن رفيقة عمره، ثم ما لبث أن أحضر للمكتب رماد جثتها ووضعه في قنينة صغيرة على طاولة مكتبه). وشاءت الصدف الحزينة أن أشهد في مناسبة دفن سيدة سودانية في مدينة أمريكية في أحد المدافن (حيث خصصت مساحة معينة لدفن المسلمين) حائطا صغيرا بدت منه صناديق صغيرة الحجم تشبه خزائن الأموال والوثائق التي نراها في البنوك. علمت من أحدهم أن هذه الخزن الصغيرة تحوي رماد من تم حرقه من الموتى. وذكرني الحديث عن هذا "الرماد" بفيلمين أمريكيين أحدهما مضحك فكه كان البطل فيه (روبرت دي نيرو) يحتفظ ، ومنذ سنوات خلت، برماد جثمان والدته العزيزة جداً. وتصادف أن تعشى مع العائلة في ليلة نحس عظيم خطيب بنت ذلك الرجل، وكان ممرضا مفرط الحركة كثير الخطأ، فقام دون قصد منه بفتح زجاجة من مشروب ما بطريقة هوجاء طارت معها غطاء القنينة وارتطم بالإناء الذي وضع فيه النسيب المقبل رماد المرحومة، فتطاير في هواء الغرفة رمادها وصار أثرا بعد عين! وكان موقفا محزنا ومضحكا في آن معا! وورد الرماد في فيلم رائع آخر هو جدا اسمه "نيم سيك" مات فيه البروفسور الهندي المهاجر لأمريكا منذ سنوات طويلة في مهجره البعيد. طارت زوجته المحبة برماد جثته لتدفن – حسب تقاليد الهندوسية- في نهر مقدس عندهم في الهند، وصاحب منظر نثر المرأة لذلك الرماد في النهر صوت هندي يصدح بترانيم حزينة يكاد القلب ينفطر من فرط التأثر بشجوها الأليم! بالعودة لأمر الدفن "غادي" (أي هنالك)، ينصح المؤلف في بلد يجيد أفراده التجارة ويسمعون رنة سنت في المريخ، بأن تحجز صندوق دفنك عن طريق الأون لاين (أي بالشراء عبر الشبكة العنكبوتية) وليس عن الطريق المباشر من متعهد الدفن، والذي لن يرعى فيك عهدا ولا ذمة! يذهب البعض في أمر التخطيط لدفنه مذهبا بعيدا، فيقوم بشراء صندوق الدفن من متعهد الدفن (الحانوتي) قبل سنوات من وفاته المتوقعة بالتقسيط المريح وعلى مدى سنوات طويلة. وفي هذه البيعة ربح للطرفين، فمتعهد الدفن يأخذ مالا قليلا كل شهر دون أن يفعل شيئا (ربما لسنوات طويلة، فهؤلاء القوم طويلي الأعمار)، ومن يدفع لا يدري متى يموت، بيد أنه مطمئن إلى أنه سيجد صندوقا لائقا عندما يحين حمامه، ولن يتأثر بارتفاع تكلفة صناديق الموتى! تصطدم هذه الطريقة بالطبع بحقائق الحياة الكثيرة من تبديل الوظائف والانتقال من مدينة لأخرى ومن ولاية في أقصى الشمال لأخرى في أقصى الجنوب، والطلاق وغير ذلك مما يجعل مسألة الاتفاق مع متعهد في بلد ما غير عملية (اللهم إلا إذا كان لمثل هؤلاء وكلاء يمثلونهم في ولايات أمريكا الخمسين)، وقد يصيب الكساد متعهد الدفن الذي اخترته فيعلن إفلاسه ويهجر المهنة وتضيع تحويشة عمرك الصغيرة معه، أو قد يموت هو نفسه، وتنفض شركته مع غيره، وتضيع أموالك عنده، وهكذا! رغم كل تلك المخاطر ينصح كاتبنا بأن نستعد لذلك اليوم، وأن لا ننتظر أن يموت أحد أحبائنا ثم نقوم بعد ذلك بعمل الترتيبات اللازمة، ففي لحظة الحزن تلك سوف تكون مضطراً للتوقيع على كل ما يضعه متعهد الدفن أمامك؛ وتلك نقطة ضعف يعرفها ذلك المتعهد (الجشع دوماً) جيداً. ينصح الرجل بضرورة أن يدرس المرء عروض كل متعهد للدفن، وأن يوازن بينها ويفاضل حتى يظفر بأفضل صفقة ممكنة... وهكذا حتى الموت صار صناعة وتجارة وربح وخسارة...وكل هذا قبل الموت... وبعد الموت هنالك حديث آخر! نقلا عن "الأحداث" badreldin ali [[email protected]]