بانفصال الجنوب تواجه كل النخب السودانية والفصائل السياسية مأزقاً حرجاً ملغوماً بأسئلة صعبة. انقسام الوطن يعرض الشعب لامتحان عسير ترتبط الإجابات عليه بما إذا نجحت أو أخفقت الجغرافيا في صناعة التاريخ. الإجابات الشافية على الامتحان قضية وطنية ملحة في ظل مؤشرات على كانتونات تتبلور في الأفق تشي بالتوغل في التجزئة. خارطة الوطن المرسومة بعد الانشطار لا تستند إلى يقين يؤكد ثباتها. من الجلي للعيان إخفاق الرهان على سلام يأتي نتيجة حتمية بعد الانقسام. انفصال الجنوب يطرح كذلك سؤالاً ملحاً في شأن الهوية خاصة مع محاولات تستهدف احتباس هذه القضية داخل إطار ديني محض. مثل هذه الرؤية لم تعد تثير دهشة في سياق المماهاة بين الوطن والايدلوجيا القابضة على السلطة والثروة والوطن. انتظار النظام استبدال رؤاه أو طبعه ضرباً من الخمول الفكري والقصور السياسي. سؤال الهوية يرتبط في أحد أبعاده بمدى وضع حد فاصل بين الغابة والصحراء. أمام المأزق الحرج الماثل لابد من استنهاض كل النخب وجميع فصائل المعارضة بغية التصدي للأسئلة الملغومة. النخب المعنية ليست محصورة في قيادات النظام والمعارضة. هناك مفكرون، مثقفون، شعراء، فنانون، كتاب، شبان وشابات خارج الأطر الحزبية المنظمة يحملون رؤى وطنية وتطلعات مشروعة وأحلاماً في غد أفضل. هناك أجيال شابة تبحث عن مواقع في دورة الانتاج وأدوار في المجتمع. هؤلاء يصطدمون حتماً مع قيادات أعشتها تخمة السلطة والثروة عن حال الجماهير فأوصدت أسماعها في وجه نداءات الإصلاح. هؤلاء مفجعون بقيادات معارضة يمارسون التشرذم الأميبي حد مشارفة التلاشي. إذا كانت المعارضة يائسة من إمكانية إصلاح الحال في ظل النظام القائم فأنها تتحمل وزراً في استمرار الواقع البائس. بعض الأصوات داخل النخب لازت بالصمت إزاء قعود المعارضة ردحاً من الزمن باعتبار الضرب على الأحزاب يصب بالضرورة لصالح النظام. بالفعل كانت هناك أصوات ناقدة لا تستهدف تقويم أداء المعارضة بل تتقصد التيئيس من الرهان عليها. ربما آن الأوان للحديث في شأن قصور المعارضة أكثر من التركيز فقط على استبداد النظام. كل فصائل المعارضة مطالبة بتفكيك خطاب الأزدواجية حيث المراوحة بين هجاء النظام واستجدائه. الأحزاب تشكو من أسلوب المؤتمر الإقصائي وتدير في الوقت نفسه حوارات ثنائية وجماعية عبر قنوات متباينة! مطلوب من فصائل المعارضة إدارة حوار يتدثر النقد الفكري العميق من أجل انتاج مشروع سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي متكامل. لابد من الإقبال على هذا الحوار بروح مصممة على قطيعة كاملة مع تجربتها في ظل ما سمي ب«الهامش الديمقراطي» وحتى مرحلة الانفصال. في المنفى بلور «التجمع الديمقراطي» مشروع عمل جماعياً ناضجاً ارتكز إلى جهد فكري انتج وثيقة لو قبضت عليها الفصائل لتفيأت ظلاً مغايراً تحت سقف الوطن. الأهم من الوثيقة الروح التي أقبلت عليها الأحزاب على العمل الوطني. بيدها أزهقت الفصائل تلك الروح. أي مراجعة أمينة تثبت تورط كل الفصائل في دم التجمع ثم جاء حين من الدهر بدا الأمر وكأنما الاجهاز عليه ضرب من الإنجاز. تصفية التجمع تمت دون مقابل مجز بل على نقيض ذلك لاتزال القوى المعارضة تدفع فاتورته. مع أن البعض يحمّل الراحل جون قرنق مسؤولية تصفية التجمع غير ان الثابت ان قرنق ظل وفياً للتجمع وحريصاً عليه حتى رحلته الأخيرة. لولا جهد الرجل لما تم التوقيع على «اتفاقية القاهرة» وقد اتخذها من تبقى تحت مظلة التجمع جسراً للهرولة إلى أحضان النظام. من غير الملائم حالياً ممارسة نكأ الجراح أو جلد الذات لكن من المفيد ربما التذكير بمنزلقات انتهت بالجهد الجماعي المثابر على عهد «التجمع» إلى الهاوية. عوضاً عن استجماع الأحزاب قواعدها وقواها الشعبية انزلقت في مرحلة التفكيك والتشرذم حد التفسخ. بدلاً من الإنخراط في إعادة بناء العمل الجماهيري الواسع انهمكت قيادات في إعادة بناء مشاريعها الخاصة. بينما كان المأمول مواصلة الصمود والتصلب تجاه القضايا المبدئية المرتبطة بالديمقراطية ارتضى العائدون تسويات هامشية. هجاء الشراكة والتورط فيها. على غير المتوقع ارتضى قياديون تجشموا كثيراً مناصب ديكورية في قسمة ضيزى. النظام مارس اختراقات ناجحة في شق الصفوف وعزل فروعاً عن أصولها. البعض من هؤلاء أمسى ملكياً أكثر من الملك ثم تم وضعه في المستودع بعد استنفاد أغراضه. هجاء الانتخابات واسباغ الشرعية بالمشاركة فيها. نعم ظلت وجوه تثابر وتصادم تدفع من دمها وعظمها ولحمها غير أن هذه الضريبة الوطنية لها الثناء والتقدير تأتي على نحو أشبه بالمبادرة الذاتية. نحن نتحدث هنا عن روح العمل الجماعي المؤطر بالفكر والممارسة. مثل هذه المبادرات لن تحفر مساراً لجهة الديمقراطية الحقيقية. الوطن محتاج إلى إعادة تأسيس العمل الجماعي من أجل انتاج مشروع وطني متكامل بعيد تشكيل سودان مغاير لما هو مألوف منذ بزوع الاستقلال. الأمل في مشروع يحمي الوطن من إسار الاحتكار المطلق.. احتكار السلطة. احتكار التفكير واحتكار التعبير. الرهان على مشروع يحرر الشعب من الإرتهان ويرد له حقه في القرار وتداول السلطة والثروة. الحلم باق في سودان واحد موحد بتنوعه الإثني والديني والثقافي. خطاب الهجاء والاستجداء لن يفيد المعارضة كما لن يحقق الحلم الوطني. الأحزاب تعلم أكثر من النظام أن السلطة مثل الحرية تنتزع انتزاعاً ولا يتم إهداؤها. ذلك هدف يأتي في صيغ متنوعة أفضلها العمل الجماهيري الناهض في ظل الديمقراطية. المعارضة مطالبة بعدم قصر خطابها على النقد والهدم بل تجاوز ذلك إلى بناء استراتيجية متكاملة. تلك مهمة لن ينهض بعبئها نفر من نخبة أو حزب دون غيره بل تتطلب جهداً جماعياً حراً منفتحاً على العصر. إذا كان هناك من يراهن على هبوب رياح الربيع العربي على السودان فإن تلك الرياح لن تستثني نهج القيادات الحزبية الحالية. من الأفضل تبني القيادات الحالية نهجاً مغاير قادراً على ابتكار أبجدية سياسية توحد ولا تفرق، تقاوم ولا تساوم، تبدع ولا تتبع. رغم الإحباط الرابض في الأفق توجد فسحة من الأمل في جيل مؤمن بسلالة سودانية تاريخية قابلة للتعايش والانجاز. جيل يلحد في العقل السياسي المهيمن على الشأن الوطني حالياً. أليس هذا هو أبرز ما يميز شباب الربيع العربي في تونس ومصر وسوريا واليمن؟