اتصلت بأحد أقاربي في بداية المواجهات التي اندلعت في كادقلي قبل ثلاثة أشهر بين جيشي الحكومة والحركة الشعبية فأخبرني بأن عدا كبيرا من المواطنين تنفس الصعداء جراء ما حدث للحركة الشعبية من تنكيل ومطاردات في الكراكير وشعاب الجبال! كنت مستغربا ودفعني الشغف لتقصي أسباب خذلان الناس للحركة الشعبية في محنتها وهي أحوج ما تكون للمناصرة باعتبارها الطرف الأضعف في هذه المواجهة ، فحكى لي صاحبي أن أفراد الحركة الشعبية يضايقون الناس حتى لدى ستات الشاي بحيث يمكن أن يتعرض المرء للإهانة أو الضرب إذا اعتقد فرد الحركة الشعبية أن شخصا ما نظر إليه وفسرها بأنها نظرة استحقار!! وأضاف صاحبي أن السياسيين الذين انضموا للحركة الشعبية بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل اضطر العديد منهم للتخلي عن تأييد الحركة نظرا لتعرضهم لمضايقات داخل الحركة حيث يُنظر إليهم كانتهازيين انضموا للحركة لاكتناز الفرص وشغل المناصب الدستورية على حساب من قاتل في الأحراش أيام الشدة. الغريب في الأمر أن قصصا من هذا القبيل توارت من الدمازين ومن الجنوب ، بل في الخرطوم أيضا إلا أن أحداث الخرطوم التي أعقبت مقتل جون قرنغ وما تعرض له الجنوبيون كرد فعل للحماقات التي ارتكبوها قد ألجمت هذا الجنوح نحو الاستهتار بالآخرين والشعور الزائف بأنه قد حان وقت استرجاع الحقوق المسلوبة والتحرر وما إلا ذلك من الأوتار التي كان يعزف عليها السذج. وواضح أيضا أن قيادة الحركة لم تتخذ التدابير اللازمة لإخراج جماهيرها من هذه الذهنية على غرار ما حصل في جنوب أفريقيا – مع الفارق – حيث استطاع مانديلا أن يُخرج روح الانتقام من الشعب ويعزز فيه الثقة بالنفس بل أرسى قيم ومبادئ أنقذت جنوب أفريقيا من هاوية الصراعات العرقية. هذا يأخذنا إلى الجدل فيما يتعلق بعلاقة القائد بالجماهير ، هل القائد ينزل لمستوى الجماهير أم يرفع الجماهير لمستواه هو؟ هذا بالطبع إذا كان للقائد رؤية قومية تتجاوز المصالح الفئوية. فمانديلا نجح لرؤيته الشاملة وجورج بوش فشل لأن رؤيته كانت تمثل مصالح المحافظين الجدد فحسب. يبدو أن أحداث الدمازين الأخيرة التي لم يكن هناك ما يبررها أصلا لاسيما من طرف الحركة الشعبية قد برهنت تماما أن الحركة الشعبية تعيش أزمة قيادة وفكر ووجهة ضيعت عليها آخر فرصة لأداء دور مفصلي في الحياة السياسية السودانية التي تشهد جمودا لا مثيل له في تاريخ السودان الحديث. الفرصة الأولى عندما وصل جونغ قرنغ الخرطوم ، حيث كان استقباله من قبل الملايين في الساحة الخضراء بمثابة استفتاء حقيقي على مستقبل السودان. فلو أن الأجل أمهله واشترك في انتخابات رئاسية لم يكن أحد يجادل في أنه سيفوز. والسبب في ذلك أن جون قرنغ وضع نفسه بشخصيته الكاريزمية في مصاف الزعماء الأفارقة الذين لم يكونوا مسلمين ولكن استطاعوا أن يخاطبوا الوجدان المسلم بصدق فالتفتت حولهم الجماهير المسلمة عندما أحست فعلا أنهم يمثلون تطلعاتها ، أمثال نايريري في تنزانيا نيكروما في غانا وجومو كنياتا في كينيا وتوماس سنغور في السنغال. بل كان جون قرنغ يشرئب لمقام مانديلا في جنوب أفريقيا مع أن الفارق كبير ما بين جنوب افريقيا والسودان ، حيث أن جنوب أفريقيا كانت تحكم بقوانين عنصرية واضحة بينما السودان يستحوذ فيه النخبة المتأسلمة المستعربة على مفاصل الدولة على حساب الهامش الذي ليس بالضرورة زنجيا أفريقيا باستثناء الجنوب سابقا. الانتخابات التي كان سيفوز فيها العقيد الراحل ربما كانت الأكثر نزاهة في تاريخ السودان لأن المؤتمر الوطني سيجد نفسه مضطرا للكف عن الألاعيب الانتخابية بحكم أنه سيواجه خصما حقيقيا لأول مرة. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه. الفرصة الثانية بعد وفاة جون قرنغ المفاجئ كانت الآمال معقودة على النخبة التي كانت حوله من الجنوبيين والشماليين على حد سواء. فبدلا من أن تكون هناك شخصية واحدة كاريزمية توقع الناس أن تتحول الحركة الشعبية إلى تنظيم مؤسسي بمعنى الكلمة تتجاوز الشخصنة والتشرزم الطائفي والجهوي الذي يسم الحركة السياسية السودانية. وبالفعل انتظمت الجماهير في صفوف الحركة الشعبية في كافة أنحاء السودان ، حتى أن العديد من الإسلاميين الذين خرجوا مغاضبين من المؤتمرين الشعبي والوطني قد انتظموا أيضا في صفوف الحركة الشعبية بعد أن بلغ بهم اليأس مبلغا وهم يرون إخوة الأمس أصحاب المشروع الحضاري يركلون بعضهم البعض تحت الحزام. غير أن الحركة فجأة انهمكت في لعبة القط والفأر مع المؤتمر الوطني وأضاعت على نفسها الفرصة الثمينة. وجدت الحركة نفسها منهكة في مناكفات طفولية كان المستفيد الوحيد منها المؤتمر الوطني بحيث أنه استطاع أن يلهي الحركة في قضايا جانبية محضة وبالتالي أخرجها من مسارها ، فلم تجد الحركة مناصا من أن تنكفئ على نفسها لتهرب جنوبا. الحقيقة أن الحركة ضيعت على نفسها فرصة لا تتكرر في التاريخ حيث أنها عمليا كانت تحكم الجنوب منفردة وتحكم نصف الشمال ، فلو أنها أدركت سر اللعبة وانصرفت للقضايا الكبرى بعيدا عن المهاترات كان بوسعها الاستيلاء على النصف المتبقي من السودان. الفرصة الذهبية الثالثة ظهرت بعد انفصال الجنوب ، حيث أن الحركة الشعبية قطاع الشمال كان بوسعها اتخاذ الترتيبات اللازمة لإزالة الآثار السالبة لهذا الحدث وطمأنة جماهيرها المحبطة في الشمال جراء ما حصل. الإجراء الأول هو الإسراع بتغيير اسم الحركة الشعبية لاسم آخر باعتبار أن هذا الاسم ارتبط بالحركة الأم وبه تم توقيع الاتفاقيات وغيرها من الالتزامات القانونية. بمعنى آخر أنه بمجرد إعلان انفصال الجنوب لم يكن هناك مسوغا لوجود شيء اسمه الحركة الشعبية في الشمال. وأما الجنود فكان يمكن استيعابهم في القوات المسلحة باعتبارهم سودانيين سواء كانوا من جبال النوبة أو من الأنقسنا ، ويتم كذلك تسليم السلاح للجيش ومن ثم يصبح التنظيم الجديد تنظيما مدنيا محضا لا علاقة له بالجنوب مطلقا اللهم إلا في إطار العلاقات العادية التي تحكمها اتفاقيات ثنائية معروفة ، ومن ثم تبدأ الحركة ببلورة رؤية جديدة ل"السودان الجديد" على هدي رؤية الدكتور جون قرنغ وبنفس الخطاب التوحيدي الشامل الذي استطاع به الراحل استقطاب نفس جماهير الهامش التي كانت بالأمس القريب تقاتله في الجنوب وتتقرب إلى الله برأسه. مع الأسف الشديد أخفقت قيادة الحركة من صياغة خطاب يستوعب المتغيرات ويتخلص من ذهنية الغابة ، بالعكس أصبحت الحركة تتعامل بردود الفعل مع عنتريات المؤتمر الوطني وسياسته التي تتسم بإبراز العضلات والحلف بالطلاق ، بل واستطاع المؤتمر الوطني بذكاء فائق استدراج الحركة الشعبية إلى المصيدة الحالية. دعونا نرى أين الحماقة والغباء وإضاعة الفرص. الحركة الشعبية تريد أن تحتفظ بسلاحها وبجنودها وباسمها القديم وفي نفس الوقت تريد أن تكون حزبا سياسيا. بل الأسوأ من ذلك تريد أن ترفع علم دولة أخرى فوق الأرض السودانية ، أضف إلى أنها تريد أن تتبنى الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها بين الحركة الأم والمؤتمر الوطني؟؟ كأن الانفصال لم يحصل وكأن جزءً عزيزا من الوطن لم يُقتطع !! والمشكلة أن قادة الحركة يتحدثون بنبرة التحدي للحكومة والسعي لإسقاطها وبيدهم السلاح ، وبالتالي كانت الحكومة تتحين مثل هذه الفرص الثمينة للقضاء على الحركة ، نظرا لأن الحكومة دائما تعمل ألف حساب لمن يحمل السلاح. يبدو أن المواجهات الأخيرة في الدمازين هي القشة التي قصمت ظهر البعير ، حيث أعطت المؤتمر الوطني مبررا قانونيا وأخلاقيا بل وفرصة ذهبية للانقضاض على الحركة الشعبية تماما دون أن تجد الأخيرة من يبكي عليها من الأحزاب السياسة الشائخة. ونظرا للرد الخجول من تلك الأحزاب خرج قادة المؤتمر الوطني في زهو بتصريحات تنم عن نشوة عارمة مفادها أنه لا يوجد شيء في الشمال اسمه حركة شعبية ، والحق معهم نظريا ولكنهم يتعاملون معها عمليا! تبين أن مواجهات كادوقلي شهدت إعدامات لأبناء النوبة من طرفي الصراع وهو نفس السناريو الذي حصل في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي حيث تعرض خيرة أبناء النوبة لتصفيات جسدية مقصودة بعيدا عن القانون من طرف الدولة وبعيدا عن الاعتبارات الإنسانية من طرف الحركة، باعتبار أن هؤلاء الضحايا هم في الواقع رصيد بشري للمنطقة بل للسودان ككل. والذي يستبيح دم ابن آدم تحت أي مسوغ مهما يكن يفقد القاعدة الأخلاقية لتولي أمر الناس. من الواضح أن الجماهير قد ملت هيمنة المركز على الأوضاع وأصبحت تتململ ، وكان من الممكن أن تكون الحركة الشعبية التنظيم الوحيد الذي يمكن أن يشغل هذا الفراغ لولا الفراغ القيادي وضبابية الرؤية ، نظرا لأن الأحزاب السياسية قد شاخت بكل ما تعني الكلمة وقد بلغ استهتار الحزب الحاكم بها أن دعاها لتكون جسما واحدا في إطاره. وواضح أن الحركة الشعبية قد تخصصت في إضاعة الفرص بتمسكها بالسلاح. فالذي يستولي على السلطة بالسلاح لا يمكن أن يقيم العدل والمساواة ، وهو العنصر المفقود حليا في السودان ، لأنه إن فعل سيكون أو الضحايا ، ومن هنا فإن مظاهر الفتوة التي يمارسها الأفراد عند ستات الشاي تمارسها الدولة بصورة أو بأخرى لأن ا لعقلية هي نفسها. ختاما ، عهد الحروب والاستيلاء على السلطة بقوة السلاح قد ولَّى وكذلك عهد التحكم على مصائر الجماهير بواسطة النخب المولعة بالاحتكار وإقصاء الآخر. وليس هناك مجال لشخصيات كاريزمية تحتكر الرؤية وتستمرئ المدح والإطراء ، بل الفرصة متاحة لبروز تيارات سياسية شابة تخاطب الهامش بلغته وتعمل لتحقيق العدل والمساواة قولا وفعلا وإقامة دولة المؤسسات.