في شهر أكتوبر من عام 1992م جاء الأستاذ محمد وردي إلى مدينة الدمام في أقصى شرق المملكة العربية السعودية فأحيا حفلين اقتضت عدة ظروف آنذاك انتقاء المكان والزمان والحضور للحفلين فكانا أشبه بجلسات الاستماع. عندما عاد للرياض قام في صمت بتحويل كل حصيلة الحفلين ،وهو في أشد الحاجة لها، إلى رجل كثير الإبداع والجمال كان يصارع في مكان آخر من الخليج مرض الفشل الكلوي . تسرب الخبر رغم كل ما سعى لإحاطته به من سرية وخصوصية. يومها غضب غضبة مضرية لم يجد معها الاعتذار، فقد كان يود أن يكون الأمر سرا خالصا بينه وبين من آثره على نفسه رغم ما كان به من خصاصة ،ولكن فضول البعض حال دون ذلك. جاء يوم شكره وذكر هذه الواقعة.. هكذا درجنا على عدم إيفاء الناس حقهم من تقدير وتبجيل إلا بعد رحيلهم فنتذكر فجأة أنهم كانوا هنا فنسارع بذكر محاسنهم وأفضالهم مع أنهم كانوا بيننا... وردي لم يكن استثناء .. قبل أن يرحل كان عرضة في السنوات الأخيرة لبعض أقلام وألسنة السوء والفحش من العاطلين من الفضيلة من مناضلي آخر الزمان وفقهاء الأزمنة الممعنة في رداءتها..ولكنه كان يتعالى على كل ذلك ، فهو وردي الذي آتاه الله مزمارا من مزامير آل داؤد، وهو وردي الشامخ البهي كجبال التاكا، المؤلف بين الأعراق والقلوب كنهر النيل وهو في جريانه الخالد. مشهد ثان.. كنت أمشي وحيدا مساء يوم من أيام شهر أكتوبر 1994 في حي شعبي في جزيرة فكتوريا التي تشكل مع منطقة إكيجا المقابلة في البر القاري مدينة لاجوس في نيجيريا. كانت المنطقة غارقة في الظلام إلا من خيوط ضوء تنبعث من (رتاين) منتشرة فوق ترابيز باعة للأطعمة ومشروب الكاكاو ومشروبات أخري. كان يلتف حول بائع بعض الزبائن وهم جالسين على كنبة متهالكة أو على الصناديق الخشبية التي تقوم مقام المقاعد في حين آثر بعضهم الوقوف. وسط الظلام الحالك الذي يلف المكان ولا تبدده إلا أَضواء (الرتاين) أو مصابيح السيارات المسرعة في الشارع القريب انطلق صوت أعرفه.. يا نور العين .. يا نور العين.. يا نور العين إنت وينك وين. خفق قلبي فتتبعت مصدر الصوت الذي تسلل إلى أعماقي حتى بلغت جهاز تسجيل قابع فوق تربيزة بجوار (الرتينة) والأطعمة والمشروبات . ابتعت كوبا من الكاكاو وجلست على أحد الصناديق الخشبية وأنا أتابع الصوت الجميل الذي بدد غربة الزمان ووحشة المكان .. قلبي الحابيك ما خان لياليك ..ما ناسي الماضي ما تقول ناسيك.. ما بدل حبه ما اتنكر ليك. سالت البائع صاحب المسجل .. من هذا المغني؟ فأجاب إنه لا يعرف اسمه ولكن الصوت جميل والموسيقى جميلة وهو وزبائنه يستمتعون بالاستماع إليه كل يوم رغم أنهم لا يفهمون معنى الكلمات. لم أجد في البائع حماسا كبيرا لمواصلة الحديث معي وربما كان ذلك مرده لحاجز اللغة، فهو لا يحسن الانجليزية وأنا لا أفهم كلمة من لغة اليوروبا أو أي لغة أخرى من لغات نيجيريا التي كانت متصالحة مع ذاتها آنذاك قبل أن يجتاحها وباء بوكو حرام القاتل. مشهد ثالث كئيب.. في مساء نفس اليوم الذي ودعت فيه الخرطوم محبوبها ، وبمعزل تام عن حالة الحزن الكبير الذي يعيشه الوطن الموشح بالسواد، احتضن ملعب مريخ الوالي وأبوجنة لقاءا كرويا بين فريق المريخ وفريق مصري واكتفوا بالوقوف قبل اللعب والفرح دقيقة حداد على الهرم الذي غيبه الموت، وكأن الملعب خارج حدود الوطن، ورصفاؤهم من أهل الملعب المجاور كانوا أكثر احساسا بأحزان الوطن وأكثر التصاقا بدموع أهله . أيا كان الغافل.. القائمون على أمر الكرة أم أهل الدار أم القادمون من وراء الحدود، فالسقوط هو السقوط. كانت حياته ملحمة من التحديات والمآسي الشخصية وكأنه موعود بالعذاب ولكنه تعالى عليها جميعا فلم تسكت صوته ولم تنل من الإبداع والعبقرية فيه وظل كما وصفه الحلنقي رقيقا حنونا كالزهرة وقويا مصادما كالخنجر. وعشرات الجمل أنوي قولها ولكن في غيابه يضيع المبتدأ ويتوه الخبر ، "فالحزن أن أكتب فلا يصله صوتي وأن أصرخ فلا يصله صوتي". قال أبو العتاهية: اصبر لكل مصيبة وتجلدِ *** واعلم بأن المرء غير مخلد أو ما ترى أن المصائب جمة *** وترى المنية للعباد بمرصد من لم يصب ممن ترى بمصيبة *** هذا سبيل لست عنه بأوحد فإذا ذكرتَ محمداً ومصابه *** فاجعل مصابك بالنبي محمدِ رحم الله الأستاذ محمد وردي الذي شكل وجداننا على مر السنين وتغنى لأفراحنا وأحزاننا وكان شاهدا على انتصاراتنا وانكساراتنا. رحم الله حبيبنا صوت الأرض وأسكنه فسيح الجنان. وإنا لله وإنا إليه راجعون. (عبدالله علقم) [email protected] ///////////////