Elshafie Khidir Saeid [[email protected]] على المستوى الشعبي: في خطبة الجمعة، وفي الجامع المشهور بإسمه، رد محمد عبد الكريم على الاتهام الموجه له بالتحريض على حرق المجمع الكنسي بالجريف، إنه بصدد فتح بلاغ ضد القس مطر. وإتهم الشيوعيين بأنهم وراء إلصاق التهمة به. وذكر فيما ذكر: "إن إزالة كنيسة لا يعتبر فتنة، لكن الفتنة تكمن في عدم تنفيذ الأحكام الشرعية". قبائل التماس الحدودي في الشمال تصرخ بأن التعامل عبر الحدود مع شعب الجنوب، بالنسبة لهم هو مسألة حياة أو موت. في منطقة أبو آدم بالخرطوم، وبسبب أوضاع المعاناة التي يعيشونها، وربما نتيجة "لحراق الروح"، بدأ الإشتباك بسيطا ومحدودا بين مجموعتين من الجنوبيين. تدخل شماليون وتعاركوا مع مجموعتي الجنوبيين مستخدمين العصى والسيخ، بفكرة إن عراك الجنوبيين مع بعضهم البعض يهدد سلام المنطقة! تتوالى الشائعات الملغومة، أو المخدومة،: موت سلفاكير، أغلقوا الأبواب فالجنوبيين يهاجمون الناس في الشوارع، الجنوبيون العالقون في ميناء كوستي سيفجرون المدينة..! السكر يدخل التموين، وصفوف رغيف الوالي تزداد طولا..، أما أسعار السلع الأساسية الأخرى، ففي السماء... طلاب المؤتمر الوطني لا يقبلون بالممارسة الديمقراطية التي أقصتهم عن قيادة إتحاد الطلاب في جامعتي سنار والبحر الأحمر، ويترجمون ذلك إلى العنف المعتاد. أما طلاب جامعة بحري فيقولون أن البروتوكول الموقع بين دولتي السودان والجنوب "راح شمار في مرقة"! المتظاهرون في منطقة ودالنيل يضرمون النار في مكتب الضرائب وديوان الزكاة والوحدة الإدارية ومنازل بعض قادة المؤتمر الوطني، إحتجاجا على قرار حكومة ولاية سنار بيع ميدان عام به عدد من الدكاكين. المراجع العام يتهم جهات عليا في الدولة بالتستر على الفساد وتجاوزات المال العام! المعاشيون يقتحمون مبنى الصندوق القومي للمعاشات بشارع الجمهورية بحثا عن حقوقهم. على المستوى الرسمي: رأس الدولة يعلن أن لا تفاوض مع دولة الجنوب الإ عبر البندقية، وأن الحكومة لن تسمح بمرور بترول دول الجنوب عبر أراضيها، كما أكد أن إستعادة هجليج هي نقطة الإنطلاق لتحرير الجنوب من حكم الحركة الشعبية. الدكتور تجاني السيسي يخاطب البرلمان معلناً أن إتفاق الدوحة أصبح في مهب الريح بسبب عدم إلتزام الحكومة بدفع إستحقاقات الإتفاقية، وبسبب تفاقم الخلافات حول تفاصيل تطبيق الاتفاق، كما أعلن عن وجود مجاعة تضرب إقليم دارفورخاصةً في ظل طرد الحكومة للمنظمات التي كانت تدعم سكان الإقليم. ورفض السيسي مطالبة الحكومة له بإستجلاب دعم خارجي لدارفور معللاً رفضة بأن السلطة لديها موارد ولكنها موجهة لدعم الأجهزة الأمنية وتجهيز آلة الحرب. نواب البرلمان منشغلون بقانون رد العدوان...، وسينشغلوا أكثر بإجازة حالة الطوارئ في المناطق الحدودية مع دولة الجنوب. والي ولاية النيل الابيض يمهل الجنوبيين العالقين بميناء كوستي النهري أسبوعا واحدا لمغادرة المدينة، معتبرا أن تواجدهم يشكل تهديدا امنيا وبيئيا لمواطني كوستي...! بعد أن دنا عسل روسيا، وليس عذابها، وزير الخارجية في موسكو يبحث عن ضمانات لمنع صدور قرار ضد السودان من مجلس الأمن، والمعروف أن روسيا والصين تقودان دبلوماسية الذهب الأسود. الإعلام المرئي ما زال يكرر نداءات التجييش والتعبئة، أما المنبر فيواصل زفر أنفاس العنصرية الحارقة. على المستوى الدولي: وزير الدفاع اليوغندي يصرح بأن دولته لن تقف مكتوفة الأيدي حال تمدد الصراع بين الشمال والجنوب، معلنا دعم حكومة بلاده لدولة الجنوب، متهما حكومة السودان بإيواء مليشيات جيش الرب. عدد من المراقبين الدوليين والإقليميين يحذرون من أن تجدد القتال بين الشمال والجنوب يمكن أن يتوسع إلى حرب إقليمية متعددة الأطراف. مصر قلقة جدا علينا، لكن أوضاعها الداخلية لا تسمح لها بفعل الكثير. حرب المعادن بين بكين وواشنطن، تدفع الأولى لتنفيذ سياسات مناقضة لما تتباه من آيديولوجية ومبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى. الدول العربية والإسلامية تتبنى سياسة "السكات"، الذي لا يبدو من "دهب" في نظر النظام، فيوزع الإحتجاجات هنا وهناك. الإتحاد الأوروبي يقود مبادرة، بمباركة أمريكية، لرأب الصدع بين الأخوة الأعداء. وفي ذات السياق وذات المباركة، يتحرك الإتحاد الأفريقي ليضع خارطة طريق لإستئناف التفاوض. على المستوى الأول، واضح أن الحكومة تتظاهر بأن لا علاقة لها بالتفلتات الشعبية، وتركت الشعب يدير معركته بطريقته، سواء كانت في معيشته اليومية أو أمنه العام. ولكن، للتفلتات شروطا وقوانين وفرها وسناها النظام الحاكم نفسه. البلد محكوم بقوانين القمع السياسي منذ 23 عاما، ويحتكر إعلامه حزب واحد، والخطاب الرسمي يصدره حزب واحد، هو نفس الحزب الذي جعل الشعب يشرد إلى المنافي بحثا عن لقمة العيش وعن أفق جديد بعد أن إنسد أفق المستقبل في البلد، وأصبحت اللامبالاة سمة عامة. والنظام الحاكم يبني كل إستراتيجيته على تجييش العواطف ضد العدو "الداخلي"، الذي هو عميل لإسرائيل التي تستهدف الأمة الإسلامية.. أثناء العدوان على هجليج، إرتفعت حرارة الخطاب الحكومي حد إن الرئيس نفسه إستبدل كلمة الحركة بالحشرة..! وهذا النوع من الخطاب يعطي ضوءا أخضرا لكل متربص أو متطرف أو جاهل ليفعل ما يحلو له. فالحشرة يمكن سحقها بلا أي خوف من عذاب الضمير. هكذا أشعل الرئيس عود الثقاب، ناسيا، أو متناسيا، إن خروج كلمة "صراصير" من الهوتو وصفا للتوتسي، فجرت مذابح رواندا التي إقشعر لها بدن الإنسانية. ومن المؤكد، إن هذا الخطاب لم يولد بين يوم وليلة، بل ظل يتخلق في رحم النظام منذ العام 1989. فبإسم الدين والحقيقة المطلقة، أصبح الآخر الذي لا ينتمي إلى "الجماعة"، هو عدو يجوز تعذيبه حتى الموت، أو في أحسن الأحوال، تشريده وحرمانه من مصدر رزقه ومعيشة أهله. فلا غرابة أن يتحول إلى كائن يداس بالأقدام. وهو لم يعد الإنسان صاحب النفس التي حرّم الله قتلها...، بل مجرد حجر عثرة في طريق "الجماعة" يجب إزالته، أو مجرد حشرة لا غضاضة في سحقها، أو حتى مجرد ذاك الذي لا يشترى إلا والعصا معه!! وعلى المستويين الثاني والثالث، يبدو أن هناك مفاوضات غير مباشرة تجري بين السودان ودولة الجنوب، ضرب حولها سياج من التكتم، حتى يكون سيف التوتر مشهورا!. أو، على الأقل، حتى لا تنكشف فداحة التناقض بين خطاب العنصرية الأصفر ودبلوماسية الذهب الأسود. أما إذا جردنا نظامنا الحاكم من خطابه السياسي المنافي لمبدأ "الناس سواسية"، وإستخدامه لتاكتيك الحكم من خلال الحرب والأزمات، فلن نجد غير صراع بين الشعب وقلة من رجال الدولة والمال والأعمال.. الشعب يريد خدمات الحياة من مأكل ومشرب وسكن وصحة وتعليم، وتلك القلة تريد الإغتناء والإكتناز والجاه الشخصي. والشعب يريد حقه، وهم يريدونه صاحب اليد السفلى، و"الكورية الفاضية المجدوعة". والشعب يريد الكرامة والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات، وتلك القلة تريد أن تكون من ذوي الحظوة المستمتعة بكل شيئ غير عابئة بالآخرين. ناتج عملية التجريد، إذن، ستكشف لنا طبيعة الصراع السياسي المراوغ، الذي تسعى فيه المجموعة الحاكمة لفرض نفوذها الآيديولوجي حتى تضمن مرور أجندتها الإقتصادية، وتأمين سيطرة تجارها الطفيليين على الأوضاع في السوق. ونفس المجموعة تتعمد طمر حقب تاريخية عريقة، عاش فيها السودانيون أحرارا في بلادهم، وفي تسامح بين، غض النظر عن إختلاف سحناتهم وأعراقهم وثقافاتهم وأديانهم، لتزرع حقبا جديدة مليئة بأجندة غريبة، لا يشغل بالها حاضر ومستقبل الإنسان، وإنما بقايا الحدود وحق عبور النفط اللعين. لقد إختار الساسة الحكام الرجوع إلى حقب بدائية سحيقة ليخفوا عجزهم عن مواجهة منعطفات ومنزلقات السياسة في عالم اليوم، والتي معظمها صنعتها أياديهم. وإلا فما الذي يدفع بدولتين مأزومتين إقتصاديا للوقوع في مصيدة آلة تحصد الأرواح حصدا؟ وللأسف، سيرتدع نفس هولاء الساسة عن الحرب، ويجنحون إلى السلم المتوتر، لا بسبب جثث الأطفال ولا مصير النساء ولا فظاعة موت الشباب، بل رضوخا لرغبة المستثمر الأكبر، وإستجابة لإغراءات المنح والإعفاءات والقروض ذات الدفع الآجل والبيع والشراء..!! وإذا كان المستهدف بفائدة الإستجابة هو الشعب السوداني، في الشمال وفي الجنوب، فالأفضل أن نصرخ جميعا، مثلما صرخ فولتير في زمن الحروب الطائفية في أوروبا: "إسحقوا العار"، ونزيد: أوقفوا الحرب..أوقفو الخطاب العنصري..ألجموا الهوس الديني...أجلسوا إلى طاولة المفاوضات وأحتكموا لصوت العقل!