الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تقارير: القوات المتمردة تتأهب لهجوم في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    د. مزمل أبو القاسم يكتب: جنجويد جبناء.. خالي كلاش وكدمول!    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    الخارجية الروسية: تدريبات الناتو في فنلندا عمل استفزازي    مصر تنفي وجود تفاهمات مع إسرائيل حول اجتياح رفح    السوداني في واشنطن.. خطوة للتنمية ومواجهة المخاطر!    "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    منتخبنا يواصل تحضيراته بقوة..تحدي مثير بين اللاعبين واكرم يكسب الرهان    حدد يوم الثامن من مايو المقبل آخر موعد…الإتحاد السوداني لكرة القدم يخاطب الإتحادات المحلية وأندية الممتاز لتحديد المشاركة في البطولة المختلطة للفئات السنية    المدير الإداري للمنتخب الأولمبي في إفادات مهمة… عبد الله جحا: معسكر جدة يمضي بصورة طيبة    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    طائرات مسيرة تستهدف مقرا للجيش السوداني في مدينة شندي    هيثم مصطفى: من الذي أعاد فتح مكاتب قناتي العربية والحدث مجدداً؟؟    ترامب: بايدن ليس صديقاً لإسرائيل أو للعالم العربي    تواصل تدريب صقور الجديان باشراف ابياه    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد بن بللا و عوض برير؛ الثائر و "الساحر" .. بقلم: عمر جعفر السَّوْري
نشر في سودانيل يوم 15 - 05 - 2012


يمكن استعمال السونكي* لأي غرض كان، سوي الجلوس عليه
شارل موريس دو تاليران**
قبل نصف قرن من الزمان تُوفي الطبيب الفرنسي، المارتنيكي الاصل، فرانز فانون، في غانا بعد كفاح بطولي ضد مرض سرطان الدم "اللوكيميا". كان كفاحه ضد المرض اللعين لا يقل عن كفاحه البطولي الاخر في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، طبيباً معالجاً، و صحفياُ في جريدة "المجاهد" الناطقة باسم الثوار، و سفيراً ينقل الى العالم آمال و أحلام شعب تحت الاحتلال تُسفك دماؤه و يًقتّل أبناؤه و تُساق حرائره الى معتقلات تهز جنباتها صرخاتهن من هول التعذيب، و تلطخ جدرانها دمائهن. استطاع ثوار الجزائر نقل جثمانه و مواراته ثرى بلادهم في مقبرة الشهداء بعين الكرمة عند الحدود الجزائرية التونسية تقديراً لما قدمه لهم و للجزائر و للإنسانية. جاء هذا الطبيب من تلك الجزيرة البعيدة المتجاورة مع غيرها من جزر الهند الغربية في البحر الكاريبي؛ الجزر اللاتي انتجت ادباً رفيعاً (شعراُ و نثراً) و فجرت ثورات بعضها مازال يمور بزخم منقطع النظير رغم العقود المتتالية، و بعضها الأخر همد كبركان يستريح هنيهة قبل الانفجار. كان سفيراً للثورة الجزائرية لدى غانا الاساقيفو "المعلم" كوامي نكروما حينما توفي في أكرا، و قد فرغ لتوه من كتابة وصيته للمناضلين من أجل الحرية في كل العالم التي تمثلت في كتابه الأشهر الذي نشر بالعربية تحت عنوان "معذبو الأرض". أصبح "الملعونون في الأرض"Les Damnes de la Terre" كتاباً مقدساً لدى الثوار و أهل اليسار، يحملونه بتوقير شديد، و يعيدون قراءته مراراً. و كان لا يفلت من بين أيدي الناطقين بالفرنسية من المناضلين الأفارقة، أو اليساريين الفرنجة، أو أولئك الذين يحسنون فك الخط العربي بعد أن ترجمه الى العربية كل من الطبيب السوري، الدكتور جمال الأتاسي، الذي أصبح فيما بعد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي في سورية و أنشط المعارضين للحكم القائم قبل رحيله منذ سنوات، و الدبلوماسي السوري الراحل، الدكتور سامي الدروبي، أحد الناصريين الوحدويين المنافحين عن الناصرية و عن الوحدة السورية المصرية. و لسامي الدروبي أيادي بيضاء في نقل عيون الأدب العالمي، لا سيما الروسي، الى العربية، و منها المؤلفات الكاملة للروائي الروسي الكبير فيودور ميخايلوفتش دستويفسكي. و رغم انه نقلها من لغة وسيطة هي الفرنسية، الا انها تبدو كأنها كتبت بالعربية لا بغيرها!
ما تمتاز به الترجمة العربية لهذا الكتاب عن سواها، هي المقدمة الطويلة التي كتبها المترجمان، إذ جاءت اضافة اصيلة للوصية-الكتاب الى جانب المقدمة التي كتبها الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر. يقول سارتر في مقدمته: "و جاء جيل جديد نقل المسألة الى أفق آخر. لقد حاول كتاب هذا الجيل و شعراؤه أن يشرحوا لنا، في كثير من الصبر، أن قيمنا لا تناسب حقيقة حياتهم، و انهم لا يستطيعون أن ينبذوها نبذاُ كاملاً، و لا أن يهضموها. و كان معنى ذلك على وجه الاجمال هو هذا: انكم تشوهوننا، فالمذهب الانساني الذي تأخذون به يدعي اننا و سائر البشر سواء، و أعمالكم العرقية تفرق بيننا و بين غيرنا. و كنا نصغي الى كلامهم في كثير من الاسترخاء: إن حكام المستعمرات لا تدفع لهم أجور كي يقرؤوا (هيقل)، و هم لذلك لا يقرؤونه كثيراً. و لكنهم ليسوا في حاجة الى هذا الفيلسوف لكي يعرفوا ان هذه الضمائر الشقية المعذبة تربكها تناقضاتهم." أليس هذا صحيحاُ بعد نصف قرن عاصف دامي. أما المترجمان فقد قالا في استهلالهما للترجمة: "نعم فانون لا يحاور أروبا، بل يخاطب الشعوب التي شهرت السلاح، و أخذت تنتزع استقلالها بالقوة، فمنها من ظفر بسيادته و منها من لا يزال يقاتل. إنه يتحدث الى اخوته المجاهدين." و لذلك قرأ هؤلاء الاخوة كتابه بنهم بالغ و أعادوا القراءة مرة تلو الأخرى في غير ملل!
لم يكن فانون وحده الأجنبي الذي التحق بصفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية، و إن لم يبلغ الامر مبلغ الكتائب الاممية التي حاربت الى جانب الثوار الاسبان إبان الحرب الاهلية الاسبانية في ثلاثينيات القرن الماضي. ذهب الى هناك الصحافي المصري، سعد زغلول فؤاد. كما التحق بالثورة الاطباء السوريين الثلاثة المشهورين: نور الدين الأتاسي، الذي أصبح فيما بعد رأساً للدولة السورية؛ و يوسف زعيّن، رئيس الوزراء في عهده، و ابراهيم ماخوس، وزير خارجية سورية في نفس العهد، الذين انقلب عليهم الفريق حافظ الاسد في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970 و حبسهم السنين الطوال في سجن المزة، سيئ السمعة، و انضم اليهم في الجزائر المحامي منير العبدالله، شقيق رئيسة الاتحاد النسائي السوري في ذات العهد، سعاد العبدالله التي استُبدلت بعد "الحركة التصحيحية"، و صادرت القيادة القومية الجديدة لحزب البعث العربي الاشتراكي مقر الاتحاد المواجه لسكن السفير العراقي في حي أبي رمانة الفاخر لتتخذه مكاتب لها و لأمينها العام المساعد، عبدالله الأحمر. كان هناك غيرهم أيضاً في جبال الاوراس، لكنهم بقوا أفراداً، و لم يشكلوا كتائب.
لم يشهد فانون شجرة كفاحه تثمر، إذ توفي و هو في السادسة و الثلاثين من العمر أثناء مباحثات ايفيان بين الحكومة الفرنسية من جهة و وفد جبهة التحرير الوطني الجزائرية من جهة اخرى. كان من ثمرات اتفاقية ايفيان خروج أحمد بن بللا، أحد القادة الخمسة الذين اختطفت فرنسا طائرتهم و ساقتهم الى المعتقل. اخرجوا من السجن بعد انفضاض طاولة المفاوضات. كانت تحدو المفاوضين قوافل الشهداء الذين قتلوا بأيدي الفرنسيين كما الذين ذهبوا ضحية بنادق الثوار و أسلحتهم البيضاء و عنفهم الأهوج، فرفضوا أية مساومات حول الصحراء الجزائرية و تمسكوا بكل ذرة رمل. قادت تلك المباحثات الجزائر الى الاستقلال الكامل الناجز الذي لم يشهده فانون.
بعد نصف قرن من الزمان من وفاة فانون رحل رئيس الجزائر الأول، أحمد بن بللا. لكن بن بللا لقي على اثر الاستقلال كثيراً من العنت و خاض صعاباً جمة، و أعاده رفاق الدرب الى المعتقل، ثم المنفى، لكنه كان أفضل حالاً من صحبه، اذ اغتيل محمد خيضر و كريم بلقاسم (كبير المفاوضين في ايفيان و فيما سبقها من محادثات) و محمد الخميستي، وزير الخارجية الشاب، و غيرهم كثر أردوا غيلة بأيدي رفاق السلاح و ليس بيد الاعداء.
في تلك المفاوضات حيث انعقدت بمدينة ايفيان التي اشتهرت بمياهها العذبة، تقاطرت وسائل الاعلام من صحف و مجلات و وكالات انباء مكتوبة و مصورة. لم تكن الفضائيات التي تغطي الاحداث مباشرة اليوم حتى حلماً في مخيلة أحد، و لا خطرت على قلب بشر. تجمع الصحافيون في فندق من فنادق المدينة لا يبعد كثيراً عن مقر المفاوضات و قريب من مقر اقامة الوفدين الجزائري و الفرنسي. لم تشهد المدينة تدابير أمنية مشددة رغم خطورة الحدث الذي يجري في كنفها، و هو حدث انقسم حوله الفرنسيون. و رغم اغتيال المتطرفين اليمينيين رئيس بلديتها، "كامي بلوا"، احتجاجاً على انعقاد المحادثات فيها لم تتخل المدينة عن هدوئها و دعتها. كذلك لم يطوق رجال الشرطة و العسس المدججين بالسلاح، و رجال الامن السريين و قوافل المدرعات و المجنزرات أمكنة التفاوض و الاقامة، مثلما يحدث اليوم، حيث تقطع الطرقات على بعد عشرات الأميال إن لم تكن المئات من موقع الحدث، و يرتاب رجال الامن، في جميع سكان المدينة بدون استثناء، حتى ينفض السامر.
أرسلت وسائل الاعلام خيرة محرريها الى ايفيان لتغطية المحادثات التي تشير بوادرها الى أن نهاية الحرب في الجزائر قد اقتربت، و أن فرنسا الى رحيل من مستوطنتها المفضلة. لكن جريدة الديلي تلقراف و رصيفتها الاسبوعية الصنداي تلقراف اختارتا، اضافة الى محرريهما و مصوريهما البريطانيين، مراسلاً متعاوناً stringer من السودان، كان يعمل معهما بالقطعة يرسلها اليهما إذا ما جد ما يستحق في ذلك البلد المترامي الاطراف يومئذٍ.
روى لي الصحافي الجهبذ الراحل الكبير الاستاذ عوض برير ما مر به في ايفيان، حينما سألته عن تفاصيله، و كان قد تناهي الى سمعي شذرات منه. كان عوض برير صحافياً بالسليقة، هادئ الطبع، حاضر البديهة، فكه من غير تكلف، راوية و محدث لا يُمل. لا تعرف متى يعمل أو متى يكتب، لكنك ترى ما كتب في الغد، فإذا هو جهد خارق يستغرق من الأخرين بذلاً و جهداً و عرقاً و انزواء عن الناس و العالمين، ذلك إن أحسنوا! رأس عوض برير تحرير عدد من الصحف الناطقة باللغتين العربية و الانجليزية، فقد كان رئيس تحرير جريدة "أخبار الاسبوع" اليسارية، و اختتم حياته الصحافية في السودان برئاسة تحرير جريدة "نايل ميرور" التي كانت تصدر عن وزارة شؤون الجنوب على عهد الوزير الشهيد جوزيف قرنق. كان عوض برير صحافياً لا يشق له غبار، نسيج وحده في صوغ الخبر و كتابة المقال و ادارة الصحف.
جرى حديث ايفيان في عيد أضحى ببغداد بداية سبعينيات القرن العشرين، و قد دعانا و حشد من السودانيين السياسي الاداري البارع الوزير محمد داوود الخليفة، ممثل برنامج الامم المتحدة الانمائي في العراق يومذاك، الى مأدبة فطور عيد باذخة في قاعة تطل على نهر دجلة، و كان شتاء بغداد يقاوم نسمات الربيع بعزم واهن. كان عدد السودانيين قليلا في بغداد آنذاك. جلهم من الطلاب أو العاملين في المنظمات الدولية أو اللاجئين الذين افلتوا من قبضة زبانية العقيد جعفر نميري بعيد أحداث 19 يوليو 1971، و بين هؤلاء عوض برير و العقيد طيار كسباوي و قلة قليلة.
كنت في زيارة عمل عابرة لبغداد حينما لقيته في شارع أبي نواس. كنا نقيم في فندقين متجاورين في ذلك الشارع. أسعدني أنه أفلت من قبضة الأمن الى القاهرة ثم الى بغداد بعد أن حبسوه شهوراً. كان الزبانية يبحثون عنه بلا كلل فور عودة النميريين الى السلطة؛ فقد جاء الى "الرأي العام" ثم الى مكتبي في جريدة سودان استاندرد بعض رجال الامن يسألون عنه، و بعد انصرافهم بقليل دخل عوض برير الى المكتب. بعد أن جلس ليلتقط أنفاسه و يبرد جسده من لفح ظهيرة الخريف الخانقة الرطبة التي اعقبت أمطاراً غزيرة قلت له: "انج سعد فقد هلك سعيد! لقد قبضوا على محمود محمد مدني و هم في اثرك. جاءوا يبحثون عنك." قال: "صف لي من أتى يسأل عني." أجبته: "إن صفتهما كذا و كذا، أحدهما زميل دراسة، لكنه التحق بجهاز الامن منذ تأسيسه." كعادته في أخذ الامور ببساطة قال: "هؤلاء من أقاربي، جاءوا للاطمئنان و بغية خدمة أؤديها لهم." كررت التحذير أكثر من مرة و في زيارة أخرى كذلك، ثم عرفنا أن هؤلاء "الاقارب" كانوا عقارب فقبضوا عليه.
بعد تلك المأدبة في معية الوزير الدمث محمد داوود الخليفة، اصطحبنا الى منزله الراحل الدكتور صلاح نوح، ممثل منظمة الامم المتحدة للأغذية و الزراعة في العراق، لقضاء بقية يوم العيد. و هي صحبة سارة يضفي عليها مرح ذلك الرجل "البشوش" مسرة تتسابق مع كرمه و لطفه، فلا تدري أيهما أسبق. لم يكن من الهين اختلاس بعض الوقت لنكمل رواية ما جرى في ايفيان، الا انه حاول جهده أن يسرد لي الحكاية.
أقام عوض برير في ذات الفندق الذي اتخذه الصحافيون مقراً لعملهم و نُزلاً يسكنونه بتلك البلدة الفرنسية الجنوبية. كان الصحافيون يخرجون من الصباح الباكر الى حيث المفاوضات، ينتظرون الوفدين و يتسابقون لالتقاط كلمة من هنا و تلميحاً من هناك، أو نظرة شاردة من بعيد ربما تفصح عن قلق من سير المحادثات و صعوبات تكتنفها، ما عدا عوض برير الذي يتمهل في خروجه من غرفته الى مقهى الفندق، ثم الى حانته. يظل هو وحيداً في الفندق حتى يأتي الزملاء بغضهم و غضيضهم. يهرعون الى ارسال حصيلتهم، ثم يدلفون الى الحانة يروون ظمأهم و يفرغون تعبهم في أكوابها و في لفافات التبغ التي سرعان ما تزيد سحبها من عتمة المكان، ثم يلمحون عوض برير جالساً هناك ممسكاً بكتاب يقرأه دون أن يكترث لهم. هنا يبدؤون في السخرية من هذا الافريقي الاسمر الذي تزين وجنتيه شلوخ بادية، و قد بعثت به الصحيفة لكي يكد و يجهد في معرفة ما يدور فإذا به لا يبرح هذا الفندق!
"أيحسب نفسه في عطلة؟ أنها فرصة نادرة عليه أن يهتبلها ربما لا تتكرر مرة أخرى في حياته. هذا هو الرابح الاكبر من الحرب الجزائرية. جاء للاستجمام، لا ريب" و هكذا تتطاير التعليقات و القهقهات في أرجاء الحانة، و هو صامت، كأنما الامر لا يعنيه، و كأنه لا يعي ما يقولون. "ربما لا يعرف الانجليزية أو الفرنسية. ما هي اللغة التي يتكلمها؟ يا الهي! هل يقرأ في ذلك الكتاب أم يعجب كيف صُفت الحروف و ُزيّنت؟ أفيه صور؟" قال عوض برير إنه كان يطرب – دون أن يبدو على محياه ما ينبئ - لسماع تلك التعليقات التي استمرت يومين حتى قرأوا أول تقرير له في جريدة صنداي تلقراف، فذهلوا! كان فيه من المعلومات و التصريحات ما لم يحصل عليه أي واحد منهم. ثم توالى الاستغراب و الدهشة مع كل صباح حينما يقرؤون صحيفته و هي تحفل بما لم يتحصلوا عليه و لم يسمعوا به. هنا تبدلت تلك التعليقات الى نعوت و حذر و وجل أحياناً. "لقد عرفت التلقراف من تبعث الى هذه المحادثات. لقد اختاروا ساحراً أفريقياً لتغطيتها. إنه يعلم ما لا نعلم. عفاريته تحضر المباحثات، تجلس على الطاولة، و تعود اليه بالأخبار." و هكذا دواليك. لم يعرفوا سره أبداً، و ظلوا على اعتقادهم أنه ساحر ماهر باهر، يرسل الجن الى حيث المجتمعين ثم يعودون اليه محملين؛ و يأتيك بالأخبار من لم تزود!
أردف هذا الصحافي القدير: لم يكن في الأمر سحر، بل كان فيه دربة. تعرفت قبل المحادثات على كبير المفاوضين الجزائريين، العقيد كريم بلقاسم، فرحب بي بعد أن عرف أنني الصحافي العربي الافريقي المسلم الوحيد الذي يقف قلباُ و قالباً مع ثورتهم من بين رجال الاعلام، و أنني مجند لنصرتهم. لم يهمه لأي مطبوعة أكتب. كان يريد أحداً "منهم" وسط هذا الطوفان من رجال الإعلام. اتفقت معه أن التقيه في فسحة الغداء لمدة لا تزيد عن خمسة دقائق بعيداً عن الاعين يلخص لي فيها ما دار و ما يريدون، ثم أتصل به عند نهاية أعمال اليوم بالهاتف الى غرفته في وقت محدد ليجمل لي ما جرى. بينما كان بقية الصحافيين يهرعون الى الناطق الرسمي باسم الوفد الفرنسي و الى رضا مالك، الناطق الرسمي باسم وفد الثوار، كنت أحصد الزبدة من كريم بلقاسم، الذي لم يخف عني سراً من أسرار ما يدور خلف الابواب المغلقة. و لذلك كنت أول من عرف بموعد أطلاق سراح أحمد بن بللا و رفاقه؛ ثم قدمني الى هذا الزعيم التأريخي الذي أكرمني بأول حديث له للصحافة بعد خروجه من المعتقل، و بعدا أصبحنا أصدقاء.
دعت الجزائر المستقلة عوض برير الى زيارتها مراراً، لبى بعضها، و ذهب أيضاً في صحبة وفد من الصحافيين السودانيين إبان رئاسة أحمد بن بللا، أذكر من بينهم الراحل كامل حسن محمود.
كان كتاب فرانز فانون دليلاً لثوار تلك الحقبة و للمثقفين الرومانسيين من اليسار و غير اليسار. لكن الكتاب الذي أحدث صدمة بعد سنوات قليلة، هو ذلك الذي نشره الشاعر و المناضل اليساري الجزائري و اثنين من ابرز مثقفي الجزائر يومئذٍ. فقد كتب بشير الحاج علي "العسف" الذي يلخص تجربة السجن و التعذيب في سجون جزائر ما بعد الاستقلال، و أسهم معه في ذلك الكتاب كل من محمد حربي و حسين زهوان.
و ظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
انقلب العسكر بقيادة وزير الدفاع هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بللا. استولوا على السلطة و حكموا البلاد بيد من حديد، ففشي الفساد، و زجوا بالرفاق خلف الاسوار ليُعذبوا بقسوة فاقت أساليب الفرنسيين و أهينوا بوسائل و كلمات لم يجرؤ جلاوزة الاستعمار على الاتيان بها، و طاردتهم استخبارات النظام في كل انحاء العالم لتغتالهم بدم بارد في شوارع فرانكفورت و مدريد و غيرها و من الذين سقطوا برصاص الغدر كبير المفاوضين في ايفيان و سواها، كريم بلقاسم و محمد خيضر، أحد الخمسة المختطفين، و ليعود آخرون الى المنافي يلفح وجوههم حر الصيف و يقسو عليهم زمهرير الشتاء. عاثت زمرة بومدين و العسكر فساداً في كل مناحي الحياة بعد مغادرة جيوش الاستعمار أرض الجزائر، فبددوا الثروة و أخمدوا الثورة. و ذلك شأن العسكر في كل مكان و زمان. أنظروا ما حاق بالسودان على أيديهم! و لكن الطامة الكبرى هو أن تستجير بالمستعمر الذي حاربته من ظلم الاخ الذي حاربت معه. لم يجد كثير من الجزائريين و من بينهم الرئيس أحمد بن بللا و بشير الحاج علي و محمد حربي و غيرهم منفى سوى فرنسا، عدو الأمس؛ مثلما لم يجد كثير من ثوار إرتريا اليوم سوى إثيوبيا، عدو الامس أيضاً، ملجأ يتقون به و فيه ظلم الرفاق، و قد قضى بعضهم في السجن مثل طه محمد نور، أحد مؤسسي جبهة التحرير الإرترية، و لم يجد البعض قبراً في أرض وهب نفسه لحريتها! ذلل ثوار الجزائر الصعاب حتى يجدوا مرقداً في تراب بلادهم لغريب وضع يده في يدهم، فجاءوا به من غانا الى عين كرمه، و لكن ذلك لم يتيسر للارتري نايزقي كفلو، الذي توفي في لندن، فأبى النظام دفن جثمانه في ثرى بلاده. كان نايزقي ممثلاً للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا في الجزائر في سبعينيات القرن الماضي. روى لي أحد الدبلوماسيين العرب في تونس مفارقة عجيبة، قال: انهم كانوا يستعينون بنايزقي ليترجم لهم اللهجة الجزائرية التي يستعصي عليهم فهمها الى لهجات المشرق العربي أو العربية الفصحى في الاجتماعات التي كانت تضمهم مع المسؤولين الحكوميين و الحزبيين الجزائريين! الانظمة التي تخشى الجثامين على عروشها، لا نجد لها وصفاً ينطبق عليها. و لكن بعد العسر يسرا.
من استعاد، يا ترى، تلك الألوان الضائعة
ليهبها الى الايام و الاسابيع
و أعاد جوهر حقيقته لصيف ممتد
حتى تكسو الامور الانسانية
لويس اراقون
Qui donc a rendu
Leurs couleurs perdues
Aux jours aux semaines
Sa réalité
A l'immensité
Des choses humaines
السونكي: مدية البندقية.
شارل موريس دو تاليران (1754 – 1838): سياسي فرنسي داهية حرباء و رجل دين، كان وزيراً لخارجية نابليون بونابرت و لغيره.
omer elsouri [[email protected]]
\\\\\\\\\\\\\\\\\


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.