في السّودان وغيره، كان وما يزال النّاس يعانون من الاعوجاج. في الألفية الثّالثة، وحتى العقد الأخير من الألفيّة الثّانية برزت إلى السطح وسائل تقنية جديدة في ميدان الاتصال وغيرها. وكان لهذه الوسائل أثرها الجلي في الارتقاء بواقع الناس في جوانب عدة، والانحطاط بهم في جوانب أخرى. فالتفكير فريضة وليس ترفاً، ولكن لا بد لمن يفكر أن يتحلى بخصال محددة، فان لم تتوافر فيه أو توافر جزء منها فهو منقوص العدة في التفكير.في خضم الاعوجاج الساري، ثمة أسرار ومنهجيات خفية يفعلها من يفعلها لا علم لنا بتفاصيلها، ولكنا ندرك أن ثمة شيء يدور في الخفاء. ففي حقول الاقتصاد والسياسة والاجتماع والإدارة والحكم، هنالك أسرار، وهنالك معلومات لا صلة لها بالأسرار ، ولكن تصنف على أساس ذلك لأغراض يرجونها. فالنتائج مهما كان أمرها تشير إلى ما وراءها من جهود سواء اتسمت بالشفافية، أو بالدغمسة. ومهما اجتهد المجتهدون في إذاعة غير الحقيقة، وإخفاء الحقائق، فإنها كما هو معلوم كالظل لا تدفن، وكالشمس لا يمكن سترها. تستهدف هذه المقالة الحض علىى استنطاق المسكوت عنه، والحديث عن اللامفكر فيه، في إطار ما يحتاج الناس إليه في واقعنا الراهن إسهاماً في تقويم الاعوجاج. فواقعنا المأزوم، ومشكلاتنا المستفحلة كل يوم، هي ثمرة يد أوكت، ونفخ فم، وتبديل هذا الواقع بواقع خير منه يتطلب التحلي بقيم ايجابية منها الشجاعة والتضحية. ثمة ضرورة للجوء إلى مفهوم التفكير خارج الصندوق . وهو منهج من مناهج التفكير تستدعيه ظروف وملابسات. فضيف الأفق، ومحدودية نطاق التفكير يقود لا محالة إلى طرق مسدودة ونتائج غير مرغوبة؛ هي الفشل أو الضعف في الأداء. ولكن التفكير خارج الصندوق ربما يكون هو المخرج الوحيد للوضع المأزوم، في ظل وجود متلازمة الواقع. هنالك قضيتان ضروريتان هما: الصحة في التفكير، والسلوك. فالتصرف السليم هو ثمرة من ثمار التفكير السليم. والسلوك الخاطئ هو نتيجة للرؤية غير الحكيمة. والمرء أياً كان حاكماً أو محكوماً رئيساً أو مرؤوساً، رجلاً أو امرأة، طفلاً أو راشداً مسناً أو شاباً، يحتاج إلى عمل آلة العقل على نحو سليم، وليقود فكره إلى سلوك سليم يسهم في أداء وظيفته المناطة به. هنالك مقولة يتبناها من يتبناها لتحقيق مآربه يقال فيها أن "الصواب مرهون بوقته، فان حضر وقته ، فهو مرهون بحضور رجاله، وهؤلاء الرجال لا يحضرون أبداً". ترهن كثير من الأمور بشخصيات بعينها، والمعلوم هو أن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بمعرفة الحق. ففي أحايين كثيرة يحدث الانحراف في المؤسسات نتيجة لتقديس الرأي لدى فئة أو أفراد يمسكون بزمام الأمر. وتلك مصيبة لا نجاة منها، فربط الحق بشخص هو منهج فرعوني ، حيث أن الفرعون كان لا يُري الناس ما يرى هو، وهو مع ذلك يزعم انه يهديهم سبيل الرشاد، وأن موسى إنما جاء حسب زعمه ليبدل الدين وينشر في الأرض الفساد. نخلص إلى أن مشكلات الواقع في أي زمان وأي مكان مردها إلى الخلل في التفكير، وهو الذي يقود إلى خطأ في التعبير الذي يشخص المشكلات، وتكون النتائج العملية مرهونة بمقدماتها، والحلول تظل غير فاعلة، وربما فاشلة، أو ضعيفة. فالواجب الأول يقتضي تصحيح الخلل في التفكير. فمنهج القرآن الكريم، وسنة النبي عليه السلام تدلنا بوضوح على أهمية التفكير الصحيح، وممارسة الأفعال وفقاً للصحة في التفكير. فالأبصار قد تعمى، والقلوب في الصدور تعمى أيضاً، وبفقدان الإنسان للبصيرة ، يحدث خلل في منهج التفكير. ينبغي أن لا يستهان بغبش الرؤية، وضبابية النظر إلى الأمور، ووجود الأنفة والكبر وغير ذلك من الأمراض التي تتلبس من يمسكون بزمام الأمر، يقود إلى واقع (كارثي) هو صناعة قوم لا يكترثون لما يحدث. على مدار التاريخ يكثر الأدعياء، أدعياء العلم وأدعياء المعرفة، وأدعياء الأدب. فلا ينبغي أن ينيب الإنسان غيره في التفكير فيما ينبغي أن يفكر فيه هو. والتاريخ لا يرحم، ولذا ينبغي أن نفكر فيما ينبغي أن نفكر فيه، ونسكت عما ينبغي السكوت عنه. ونعبر ما يقتضي التعبير عنه، لا يمنعنا مانع من التفكير ولا التعبير، غير الحكمة في الأمور، ووضع الأمور في نصابها.