لا بدّ من التأكيد على أن الهدف من النّصيحة هو تصحيح العيوب والأخطاء لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات والأنظمة، وليس إشاعة أفعالهم السيئة أو فضحهم. ويستلزم تحقيق هذا الهدف بالضرورة استخدام الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. ولعل كثير من الناس يجهلون تأثير الكلمة على الآخرين، فالكلمة الطيبة قد تكون سبباً في شفاء إنسان أو سعادة آخر، وقد تكون الكلمة الخبيثة سبباً في إيذاء الآخرين أكثر من الضرب. ورب كلمة ناعمة تحدث تأثيرا يفوق قوة المدافع والأسلحة. إن الاستراتيجيات الدولية في العقود الأخيرة تقوم على قوة التغيير الناعم، بدلاً عن الألفاظ الخشنة والعبارات الجارحة، والمواجهات اللفظية، والملاسنة وغيرها من أساليب ممارسة. فحرب الرؤى، وصرير الأقلام، والتخطيط العقلاني واستخدام الفنيات والحيل والخداع هي أساليب بديلة للحروب التي تهلك الحرث والنسل. وفي ظلّ الاعوجاج الذي انتشر بين الأفراد والجماعات في كافّة المجتمعات بسبب فساد الفطرة والعقل، فانّ تقويم هذا الواقع لا بدّ فيه من بذل الجهود، من خلال بيان معاني النّصيحة وحقيقتها، وإبراز أهمّيّتها وضرورتها للأفراد والجماعات، والتّعرف على الصّفات التي ينبغي أن يتحلى بها الناصح، وتوضيح المنهج الشرعي في النّصيحة وكيفية التّعامل مع المنصوحين من خلال النّقد البنّاء للنّاصحين. يقول ابن القيم: "إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها، ولا تلج فيه، ولكن تمر مجتازة لا مستوطنة". هنالك أمران جليلان مطلوبان ومرتبطان بقبول النصيحة هما: صحة التفكير، وسلامة السلوك. فالتفكير الصحيح ضرورة لوجود سلوك سليم، وكلاهما مفقود في منهج الحكم بالبلاد العربية التي اختط حاكموها منهجاً يجعل بينهم وبين الرشد بون بعيد. كان منهج فرعون في تعامله مع موسى (عليه السلام) انه يلبسه ثوب الجاني مع انه هو الضحية، والداعي لذلك هو محاولة إبقاء الأمر الواقع والتحكم في كل شيء، وهو معضلة كبرى في حقيقة الأمر. فالعمل ضد طبائع الأشياء ينطوي على جهل فاضح بعواقب الأمور. هذه المقالة نابعة من إحساس دفين بآلام ومواجع البلاد والعباد. فالفقر المدقع الذي ضرب البلاد، والمنهج المتبع أوردنا موارد الهلاك، فالبلاد تمزقت وأفلست، والنسيج الاجتماعي تفتق، كأنك ترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن الكرب شديد. فالمنهج الذي يستند إلى (لا أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، والتهمة الموجهة لموسى بتبديل الدين وإظهار الفساد قاد إلى الحروب التي سُعرت، والزروع التي هجرت، والضروع التي جفت، والنسل الذي هلك، والحرث الذي بار. إن الأعمى الذي يقود المبصرين، لا محالة يوردهم مورد الهلاك، والأعشى الذي يحاول إدخال الجمل في سم الخياط، لا بد فاشل، والضفادع لا تستطيع أن تلعب في المياه الساخنة، والأسود والفهود والنمور مكانها الطبيعي الغابة وليس الصحراء، وتبقى القضية مرتبطة بعدم القابلية للنصح. فثمة ضحايا كثيرون نتيجة ذلك، بينهم جوعى ومشردين، وموتى تأكل أجسادهم السباع والضباع، وحفاة عراة لا ينظر إليهم استخفافاً بهم وبقضاياهم، ومن بين الضحايا مسالمين لا يد لهم، رمامهم حظهم العاثر في شراك من لا يخافون في الله لوم لائم. فهم مريدون،لا يرادون، ضحى بهم أولئك (الرويبضات) الذي بتسلطهم ضاع الحرث والنسل. ما أسهل الادعاء، فيه يستغل أصحاب الفهلوة غيرهم ويسخرونهم لأغراضهم، في ظل واقع مختل المعايير. اتفق البلماء والعلماء والظلماء وكانت النتيجة خراب للبلاد وظلم للعباد. قيل أن خراب العالم في ثلاثة: نصف نحوي، ونصف طبيب، ونصف فقيه، فالأول يخرب اللسان، والثاني يخرب الأبدان ، والثالث يخرب الأديان. ولكن اليوم يقود ثلاثتهم أنصاف ساسة ،شقيت البلاد بقيادتهم. في كل زمان وكل مكان يوجد المناضل الجسور، ويوجد المسالم الوديع، ولكن المسالم الوديع مظنة للضعف. والجاهلون ضحايا يراد لهم أن يظلوا على الجهالة ، وهي حالة يصنعها من يسوسون الأمور لتعينهم في البقاء. فإشاعة المعرفة بالحقوق، ونشر ثقافتها قمين بأن يمكن كل صحاب حق من المطالبة بحقه. ومن قبل كتب الدكتور أحمد إبراهيم خضر مقالة نشرتها مجلة (البيان) عن الضحايا بإرادتهم متناولاً حقيقة هامة مؤداها أن مؤسسة والت ديزني تنظر إلى مشاهدي منتجاتها على أنهم ضحايا ولكنهم ضحايا بإرادتهم. وكان اختراق العقل هو الأصل الذي بني عليه. يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله) في الفوائد: قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإن كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل، وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها؛ فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته، والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع، لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه. وفي هذه المقولة تشخيص لداء هو ثمرة للمذهبية المدمرة التي تجعل منا ضحايا بإرادتهم.