شئٌ من التاريخ وعبق الذكريات ومن بين العابرين الذين كانت دائما ما تأتي بهم الطريق فينشدون السقيا من تلك الجرار، كان "أبو شبابو" الذي أرتبط ذكره بيومٍ أسود يُعدّ من أكثر أيام القرية حزنا وأشدها تعاسة .. يوم أن مات"محمد الصعايدي" .. كان نهاراً قائظاً شديد الحر .. تربعت الشمس فوق سمائه كأنها ماردٌ خُرافيٌ يُصلي القرية بزفراتٍ من لهيبٍ وسموم .. إنتبه الناس فيه بغتةً لصراخٍ وعويلٍ يتعاليان من مكانٍ غير بعيد .. وصبيةٍ يُهرولون في إتجاهاتٍ متعاكسةٍ لا يلوون علي شئ. رجالٌ ونساءٌ يُسارعون الخطي ناحية الدار التي كان يفصلها عن المدرسة الابتدائية، من نهايتها الجنوبية ممرٌّ ضيقٌ حرجٌ طويل .. وماهي إلا لحيظات بعدما تبين لهم الأمر حتي غرقت القرية وقاطنيها في حزنٍ كقطعِ الليل، أو أشدّ قتامةً وبؤسا.. حزناً كاد أن يذهب بالعقول والأبصار .. "محمد الصعايدي" الطيب المسكين ..أحبه الجميع لهدوئه ووداعته وبساطته ودماثة خلقه، وحبه الخير للناس. في جلبابه الأزرق السماوي الداكن. كان يمشي في هدوء وعزلة، وكان يعاقر الموت معاقرة المُقِلِ المقتصد، دون أن نعيَ نحنُ أن الموتَ كان نديماً له في حِلِّهِ وترحاله، مقيما فيه، حتي أنه كان يلوِّن عليه كل تفاصيل حياته وتجاعيدها، ويترك رائحته في كل أشيائه الصغيرة وفراشه الرثّ الوضيع. كان كظله يتبعه حيثما أتفق. مادت به الأرض يومذاك، وأنهال الركام علي جسده الهزيل، بينما كان يصارع بمعوله القديم ويديه الرقيقتين، سقف المرحاض وحجارته الصماء القاسية، كي يزيل السقفَ بعد أن أكلت دابة الأرض عيدانه، حتي يستبدلها بأخري سليمة. شاء الله له دون غيره من خلق الله، أن يكون هوَ، وأن تكونَ مهنته مدافعةُ الأرضِ وقسوتها تحت هجير الشمس الحارقة ولظاها .. كي يصيب له رزقا يقيم به له أودا، ويقيه الفاقة ومرارة الجوع. فكأنما حزننا المكتوم عليه، وعويلنا الصامت يوم فراقه، ظلّ يُلِحُّ علينا ويُطالبنا بدمه .. ظل يبلّغنا بأننا جميعا قد تشاركنا مقتله ثم تقاسمنا آماله المُهدَرَه..كُلُّنا يلزمنا قَوَدُه.. إن لم يكن ذلك كذلك .. فلماذا هو .. الفقير المسكين ..وحده لا ظهير له في القرية .. لماذا أتحنا له وحده، دون سواه من خلق الله، تلكم النهاية القاسية .. قضاءً وقدرا ؟ ..وهل يُهلكُ القضاءُ والقدرُ إلا المعدمين والفقراء؟ .. وهل تسقط الحيطان والأسقف القذرة إلا علي المستضعفين.. قضاءً وقدرا.. ؟ كنا كأنما نبحث في ملابسنا وفي أطرافنا عن قطراتٍ من دمه المسفوك، وبقايا من مغتنياته التافهة المبعثرة.. مبهوتين كمن زاره الموت لأول مرة. فقد كان لدينا يقينٌ أن رحيله المُرّ المباغت، لا بد أن يجلب علي أهل القرية سيلاً من اللعنات المتعاقبة .. ويورثها حزنا أبديا.. لماذا إذن، ظلت القرية محايدةً، وبين ظهرانيها أبو شبابو ومحمد الصعايدي، وقد ناء ظهراهما بالمعاناة والأحمال الثقيلة، ورقَّت منهما العظام وجحُظتِ الأعينُ من شظفِ العيش والوحدة، ومرارة الحرمان.. فلم يجدا غير الشقاء وإرتياد المهالك، وسيلةً وسبيلا لرد الجوع وإقامة الأود.. في وقتٍ واحد أحسّ الناسُ ليلتها، بوجعٍ ينتهكُ عليهم الضلوع والمضاجع، أو طعنةٍ جائرةٍ تخترقهم ألف مرة ..لا يملكون لها ردا .. قد جالت بأحشائهم وخلفت لديهم أنينا وجُرحاً غائراً لا يندمل.. لم يكن يوم موته يوما ككل الأيام .. بكي "أبو شبابو" يوم أن مات أخوه بكاءً مٌرّا لم تشهدِ القرية له مثيلا، فمن له من دونه، وهو وحيدٌ فارغُ الفؤاد، تفصله آلاف الأميال والمفاوز من أهله وعشيرته وذوي قرباه.. بكي .. حتي أشفق الناس عليه من الهلاك .. كان كأخيه محبوبٌ في القرية عزيزٌ عليها. قدما إليها سويا من صعيد مصر نحو عشرة أعوام مضين، يتخيران مقامهما بين القري والفرقان في مسارهما الطويل، ليتفق لهم فيها المقام دون سواها.. لا ينتسبان إليها بصهر ولا يخالطانها بدم .. لكن أهلها أحبوهما وأفسحوا لهما في القلوب قبل الديار مقاما وسكنا .. "أبو شبابو" كان لا يمل التجوال ليل نهار .. يزرع شوارع القرية وحواريها غدوا ورواحا مرتديا قميصا قطنيا أفرنجياً مُزَركشاً بألون خضراء، وإزارا يتقاصر عن ركبتيه ليكشف عن ساقين نحيلتين كساهما شعرٌ كثيف، وأثقلت عليهما الحياةُ فناءتا بما تحملان، فصارتا مقوستين لحدٍ ما.. دائما كان يضم إلي صدره وتحت ذراعه اليسري مذياعاً متوسط الحجم يظل يعمل ليل نهار .. هاشا يتبسم في وجه محدثيه الذين طالما تحلّقوا حوله منشرحةً أساريرهم يغالبهم الضحك وهم يجاذبونه أطراف الحديث.. صوته كان أجشّاً ونبراته عالية.. صوت المذياع.. ضحكاته المتقطعة الصاخبة.. وتعليقاته الساخرة.. كانت تخلف زخماً وضجيجا لا يخطئه السامع.. كلما مر أمام المتاجر أو طاف الأزقة والحواري.. لبث "أبو شبابو" في القرية زمناً وقد هدّهُ الحزن وأوهن عظامه.. ثم غادر القرية يوما دون إياب .. (يتبع)