جلجلت كما هو متوقع، زيارة الرئيس السوداني لمدينة جوباالجنوب سودانية كيانات الدولتين، وأحدثت جلبة عظيمة في الأسافير ومواقع التواصل الالكتروني، وقد تابع هذه الزيارة المعارضون جنباً إلى جنب، مع الموالين في النظامين، لمعرفة ما ستتمخض عنه في رسم مستقبل العلاقة بين الدولتين. لشدّ ما أدهشني تركيز المعارضين على عبارة أحدثت بلبلة في الماضي، جاءت عبر خطاب جماهيري للبشير، وصف فيها بوضوح الحركة الشعبية وحكومة الجنوب ب"الحشرة الشعبية"، مصدر دهشتي جاء من تحريف هذه العبارة من قبل هؤلاء المعارضين، الذين أكنّ للكثيرين منهم احتراماً بسبب مواقفهم الجريئة والصلبة في مواجهة صلف الإنقاذ، ولكن لم أكن أظن أن بينهم من يركن إلى التحريف لكسب موقف سياسي، حتى وإن كان هذا الموقف فيه زوال النظام، وقد شُقّت حلوقنا خلال التظاهرات الكبيرة التي شهدها السودان في يونيو ويوليو 2012، ونحن ننادي بعدم استخدام أسلوب أركان النقاش في نقد الخصوم، فهذا الأسلوب ضرره أكبر من نفعه، وخسائره غنائم للطرف الآخر، فكثيراً ما كانت الأخبار الكاذبة سبباً في إفشال تحرك شعبي أو تجمُّع شبابي، وقد حدثني صديق يعمل في وكالة أخبارية صِدِّيقة ومشهود لها بالمهنية منذ زمن بعيد، بأنه وخلال مظاهرات يوليو، وأثناء تواجده بالقرب من الجامع الكبير بقلب الخرطوم الذي كان هادئاً وقتها، اتصل على أحد قيادات المظاهرات البارزين، وسأله عن الموقف، فما كان من هذا المعارض البارز إلا أن قال له بأنفاس متقطعة: مظاهرات حاشدة تمُرُّ من أمام الجامع الكبير، فألجمت الدهشة هذا الصديق ولم يستطع أن يُنكر على صاحبنا ما قال وهو العالم بالمظاهرات ما ظهر منها وما بطن. يعرف الكثيرون ممن حرّفوا عبارة البشير وهرولوا نحو وصفه بالناكر، أنه لم يصف شعب الجنوب بالحشرات، ولكن الشحن الذي يمكن أن تثيره هذه العبارة في نظرهم ربما يؤدي، والغريب أنهم أهملوا الكثير من الأخطاء المتفق على أنها كانت بسبب النظامين في الدولتين، وعاني بسببها الشعبين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، وتداعوا إلى ما هو مختلف عليه من عبارات تصُبُّ في خانة الاستقطاب السياسي المفهوم في أجواء الحرب الباردة والساخنة التي كانت تدور يومها بين الطرفين. في نظري أن البشير كان شجاعاً في تأكيده أنه وصف الحركة الشعبية وحكومة الجنوب ب"الحشرة الشعبية" خلال زيارته تلك إلى جوبا، ولم ينكر ما قاله، ومصدر شجاعته أنه وصف النظام الحاكم في جنوب السودان وصفاً مسيئاً ولم يعتذر حتى وهو بين ظهرانيهم، والمصلحة والحصافة السياسية هي التي جعلت حكومة الجنوب تتجاهل هذه الإساءة وتتجاوزها إلى النظر في المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية، فحكومة الجنوب تعرف أن هذا الرئيس هو الذي ساعدها في تنفيذ خطتها في فصل الجنوب والإنفراد بحكمه دوناً عن العالمين، وهو الذي وقّع على وثيقة إثبات حقهم في الاستقلال وشهادة بحث دولتهم الجديدة وتسجيلها في الأممالمتحدة بالرقم 193. ما أخطأت في تقديره هذه المعارضة كُتر، وقد قلنا من قبل أن وثيقة الفجر الجديد حفلت بالكثير مما يسيئ للبلاد، على الرغم من أنها كانت فرصة لتكون وثيقة جامعة مانعة تسحب البساط من النظام وتهدد وجوده، ولكن صانعوها أرادوا لها أن تكون فرقعة سياسية عابرة لا تسمن ولا تغني من جوع. زار الرئيس المصري محمد مرسي السودان فطفقت بعض الأصوات تهجو موقف الحكومة السودانية السلبي من قضية حلايب وتناست أو تجاهلت الغرض الرئيسي للزيارة والذي كان من وارئها ودون مواربة، محاولة إنقاذ الاقتصاد المصري من الانهيار دعماً للأخوان وحكومتهم، وعلى حساب الأراضي السودانية والموارد المبذولة على الخريطة دون وجيع، وهاهو الرئيس المصري وبملء شدقيه يهتف داخل الخرطوم بأن "أبشروا بنهضة مصر" وسكت عن أن يتم هذه العبارة ب" التي ستعتمد على أرض وموارد السودان الشقيق". وحتى لا يظُننّ متربصٌ أنني أدعو لتجاهل قضية حلايب، فهأنذا أقول، إن قضية حلايب مكانها سوح القضاء الدولي، وليس المزايدات والمزادات السياسية، وإن كانت حكومة الخرطومأصيلة في المحافطة على جزء من أرضها وأرض المواطنين، فعليها أن تسلك ذلك الطريق فهو أهون وأقل كُلفة، وأنجع السُبل لحلٍ لا يخالط المصالح الاقتصادية والمشتركات الفكرية بين الأنظمة. النظام السياسي في السودان في حالة ضعف بائن، ولو كانت هناك معارضة منظمة لانتاشته دون مجهود يذكر، ولكن حالة الخوار التي في صف المعارضين، والتكتيكات الفاشلة التي يتبعها القيادات وطريقة رزق اليوم باليوم والعمل بردود الأفعال في التعاطي مع أخطاء النظام، مع البحث عن الحلول السهلة واستخدام سلاح الهتافية والتحريف من قبل الشباب، تكسبه مناعة ضد الانهيار، ويبقى الشعب السوداني هو الخاسر الأكبر. Elbarag Elwarag [[email protected]]