هذا هو رمضان الثالث منذ انتقال الوالدة الحاجة جمال أحمد حمد إلى الرفيق الأعلى. وعاشت الوالدة مغامراتي السياسية الراديكالية وغيرها برباطة جأش. بل عبأت مواردها الثقافية من "الحصن الحصين" إلى أحجبة شيخنا ود إبراهيم من الأراك و الشيخ عبد الله كمبو من حي الوادي بنيالا وأخرين لتأمين هذه المخاطرات المستجدة. وظللت منذ ترشحي لرئاسة الجمهورية أتصور وقع الخبر عليها. فهي ستقول لمن نقل لها الخبر: -لكين عبد الله صاح! ثم تصمت. لتستدرك بغير رابط معلوم: -والله عمر البشير ذاتو صاح!. وقد يقول لها ناقل النبأ: -داير يخدم البلد. ستقول باستنكار: -بلدو ياتو؟ -السودان. وحانت هنا لحظة إنفعالها العظيم. فالسودان ليس من المعلوم بالضرورة في دنياها. -هو السودان دا شنو؟ ثم تنحني على الأرض هوناً وتمسح عليها مرات زاعقة: -السودن يبقى زي الواطه دي. ثم تعلو ملامح وجهها الحيرة. وتضع أصابعها الخمسة على شفتيها بزاوية مقدرة تقديرا وتقول بادئة بلازمة احتجاجها المفضلة: -إيه، إيه، إيه. هو مالو على القشران، صيبتو شنو؟ بالله عليكم الرسول يا أخواتي الجنى دا سببو علي السودان شنو؟ -كيف يا حاجه. الزول ما بيخدم بلدو. هنا يصبح ناقل الترشيح كالمرشح: كافر. - إيه إيه. يخدم بلدو! إنت أظنك ماك نصيح. إنت مخلول ظنيتك؟ وطالما شخصت الأمر كله كمس من الجن عادت إليّ: -أصلو عبد الله مجنون. وبعد صمت تعيد هذه العبارة بصورة أخرى تبدو للسامع كتحصيل حاصل. ثم علمتني الدنيا لاحقاً أن العبارتين بليغتان كل على حدة : -هو مجنون ما عرفناهو. والله ضاربو جن ما عرفناهو؟ ثم تهدأ. وتأتي إلى اللحظة العبثية التي تروي فيها طرفة في السياق "التراجيدي" هذا. والمفتاح لهذه العبثية هو تبسمها ثم ضحها على النادرة التي استرجعتها عن الرئاسة والسودان: -والله أماني بطان المدرسة ما سوا لنميري مغصة. "توت توت نميري عتود، توت توت نميري عتود". والبطان قايلين يا محمد النبي. "توت توت نميري عتود". إتو والله حديث بطان المدرسة ما بجي فوق الخشم مرتين. -والبشير ياحاجة؟ -بتاع أخوان المسلمين دا؟ -ياهو. -ظلمنا ثم تصمت صمتها الإستراتيجي الرهيب لتقول بحسرة كبيرة: -لكين الما ظلمنا منو؟ أنا متأكد أنني متى فزت وظهرت على التلفزيون أتقبل تنازلات المنافسين ستراني وتقول: -إيه إيه وا حلاتي دي مي عبدالله. ودليلي على ذلك أنها مرت يوماً بمسجد نمر حلة كوكو. وسمعت الآذان فرفعت رأسها ورأت فوق المئذنة طارقاَ ابن بنتها قمر القسوم. وكان قلبه متعلقاً بالآذان وقتها. فضحكت وقالت: