خفت ضوء هذه النجمة العظيمة قبل عدة سنوات عندما داهمه المرض، وبالامس خبي ضوؤه تماما، وها نحن نفتقد رجلا كم عطر مجالسنا سخرياته و مرحه، ويفتقد فيه السودان مناضلا لم يمن بنضاله ابدا و لم يسعي لجزاء او شكور، و تفتقده ساحات القضاء التي ترك فيها بصمة واضحة. رب اغفر له و ارحمه و انت ارحم الراحمين. رحل عن دنيانا الاستاذ حسن عبد الماجد ، الذي مارس النضال منذ ان كان طالبا في المدرسة الوسطي، و ربما يكون اول و آخر طالب يفصل في المرحلة المتوسطة لنشاطه السياسي. و ليس ذاك فقط الذي نفتقده اليوم، و لكننا نبكي علي حسن نجم مجالسنا ، الذي كان يجعل كل جلسة هو فيها ساعات فرح و انس لا تغيب عن الذاكرة لعدة ايام واحيانا نظل نجتر ذكراها لسنين. رحم الله الاستاذ حسن عبد الماجد و اسكنه فسيح جناته. في ايام الحكم العسكري الاول، و ربما في عام 1959 حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات ، فقد كان رئيسا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، و القي كلمة قوية اثار الرعب في اوساط امن ابارو ، و قض مضجع الحكومة، ففتشوا في مواد القانون و وجدوا ضالتهم و ارسلوه للسجن.بعد الحكم عليه بشهر ، رتب الاخ المرحوم شريف فقير صبر زيارة في كوبر للطلاب الشيوعيين في وادي سيدنا الثانوية. و عندما خرج علينا في السجن، جاءنا ضاحكا مستبشرا و كأنه عائد للتو من حفلة ، و بدأ في السلام علينا و هو يقول: يا عبطا روحوا اكتبوا في الحيطة و لا وزعوا منشورات عشان تجوا تقضوا ليكم يومين حلوين هنا! فضحكنا ، فزاد قائلا: بالجد .. سمعتوا بي حاجة اسمها كورنفليكس ؟ اهو دا نحنا بناكله هنا في كوبر. و في اواخر 1962 سمعت انه خرج من السجن ، و يوما ما و انا في كافتيريا زكي في شارع البرلمان، ضربني علي كتفي ، و عندما التفت ووجدته و نحن نتعانق قال: انتو قايلين اللي بيخش السجن بيموت جوا؟، بيجي مارق و بيتعزم فطور كمان. فضحكنا و ذهبنا للمحطة الوسطي فتحلق حوله عدد من الشباب، و كنا نسأله عن السجن بالحاح، فقال : الجانب المظلم فيه كثير من السخف و القرف، اما الجانب المشرق فيه يجعلك تعتبر فترة السجن بعثة في بريطانيا او امريكا. انا لم اقرأ في حياتي كلها كمية الكتب التي قرأتها في هذه الفترة، و لا اقصد قراءة كتب القانون لامتحانات الجامعة، بل كتب في شتي المجالات. و في عام 1968 جمعتنا جلسة في متزل الاخ يسن علي بدر في الحفير، و حكي كثيرا من تفاصيل حياة السجن. قال ان المسجون لكي يتيسر له الحصول علي كثير من الممنوعات في السجن ، يجب ان يوطد علاقته بالعساكر و العمال. لكن بمجرد ان تلاحظ ادارة السجن ان مسجونا خلق علاقات ، يرحل لسجن آخر. و عندما رحل لسجن الدويم كان في حراسته عسكري لم يتبادل معه اي حديث خلال ثلاث ايام ، فقال له حسن : ايه رأيك ما اعلمك عربي ، انجليزي .. اي حاجة؟ فجأة تهللت اسارير وجهه و وضع بندقيته علي الحائط و قال : دا معروف لن انساه لك طول العمر. فسأله حسن عن سر اهتمامه بالتعلم و عرف منه ان زوجته مدرسة و تزدريه لانه امي! فدرسه الحصة الاولي و اعطاه مبلغا من المال ليأتيه بكمية محترمة من سجاير ابونخلة و جرايد و بعض مشتريات البقالة. رب اكرم نزله ووسع مرقده و اغسله من خطاياه بالماء و الثلج و البرد. في اول انتخابات بعد اكتوبر المجيدة، ترشح في دائرة سكوت و المحس، و رغم انه ترشح كمستقل ، كان معروفا انه مرشح اليسار و كان رمزه الهلال. و رافقه في حملته الانتخابية، صديق عمره الفنان الكبير محمد وردي الذي الف اغنية نوبية تمجد برنامج اليسار و تحلم بالفوز. كان مطلع الاغنية: "ففينا اونتوني" اي سيهل هلالنا. يقول فيها ما معناه : ان هلالنا سيهل مادام الترابله شغالين ليه عريانين، و النساء قابلته بالزغاريد، لن يجدي تخريب المرتشين. أما عن منطقتنا فهي واحدة متحدة منذ اقام الله الارض. حلفا و السكوت و المحس وحدة متحدة، لو حلفا سهرانه لا يمكن سكوت تنوم ، و لو سكوت سهرانه المحس لا يمكن ينوم. فنحن كعظام الجسد لا نتكسر و لا ننفصل الا بانفصال الحياة. كانت حملة انتخابية فريدة، رغم انها لم تحقق فوز الاستاذ حسن ، الا انها حققت حلم الاستاذ عبد الخالق محجوب: نشر الوعي بين الناس. اللهم انزل شآبيب رحمتك علي حسن و وردي و عبد الخالق، و اجزهم عن الشعب السوداني خير الجزاء. اما عن مرحه و سخرياته و قفشاته فهي متداولة في مجالس صحبه حتي الآن. ساحكي لكم عن واحدة منها: في طريقي للبلد قادما من ابوظبي، كنت مع المرحوم كابتن محمد علي في حي المطار ، و جاء حسن من دنقلا، و كنا نمني انفسنا بقضاء سهرة جميلة ، الا ان احد زملاء الكابتن طلب منه ان يسافر بدلا عنه، فضاعت سهرتنا تلك و كنا في حيرة حتي اتصل بنا صديق مقترحا ان نقضي السهرة عند صديق مشترك في الكلاكلة ، و عندما وصلنا وجدنا ان عددا من المتواجدين لم نلتق بهم من قبل. و ساد المجلس صمت غريب. و كان عدد من الحضورمن المغتربين، و في محاولة من حسن لنشر المرح قال: الله لا كسب نميري شتت اولادنا في بلاد الخليج! و بدر الحديث احد المغتربين و قال: و الله نميري ارجل راجل و احسن حاكم ، بس نحنا السودانيين ما بنعرف "حسن التصرف" و طوال الجلسة ظل يردد "حسن التصرف" و لا ادري ان كان يعرف معني ما يقول . و زاد : كلما المغتربين زادوا البلد حتصلح و "الرفاهية" حتظهر في البلد! و سأل: و لا ايه رأيك يا استاذ حسن؟؟ فقال حسن: و الله كلامك معقول و انا في رأيي نحنا ناس الشمالية من دنقلا شمالا، نقفل بيوتنا و نهاجر للسعودية كلنا: "أد أدين و كمان أسري" اي رجال و نساء و اطفال. نقضي عشر او عشرين سنة نوفر قروش نشتري بيها "الرفاهية" و كمان نتعلم "حسن التصرف!" وقام واقفا ليقول لي انا نعست وصلني بيت محمد علي!! اللهم اغفر لحسن عبد الماجد و ارحمه، رب ان كان محسنا فزد في احسانه، و ان كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته ، و اغسله من خطاياه بالماء و الثلج و البرد، و تقبله عندك مع الصديقين و الشهداء و حسن اؤلئك رفيقا. و آخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام علي اشرف الخلق و المرسلين. Hussain Al Zubair [[email protected]]