عمود : محور اللقيا بعد أن فرغت من كتابة هذه المقالة وجدتها قد تجاوزت الأربع صفحات , و لذلك فقد رأيت أن أنشرها في جزأين , فإليكم بالجزء الأول و الذي سيعقبه الجزء الثاني بعد أيام قلائل .. إن البحث عن الجذور لأمر قديم كقدم الهجرات التي غطت العالم , سواء كانت تلك الهجرات قسرية بفعل الهزائم في الحروب و تسلط الحكام , أو كانت بفعل التقلبات المناخية من قحط و جفاف , و قد تكون الهجرات إختيارية نتيجة لنشر دعوة قد تم الإيمان بها أو نتيجة لطلب الحياة الكريمة و تحسين الأحوال . لذلك يحتفظ المهاجرون دائما بما يربطهم بوطنهم القديم و ينشئون أبناءهم على ذلك حتى يشبوا على حبه و ذكراه و شوقه و يرددون ذلك شعرا و نثرا , و ربما يزورونه إن إستطاعوا بين فينة و أخرى ليتنسموا فيه عبق الأجداد و ليفتخروا بأنهم أصحاب تاريخ و سيرة عطرة – إن كانت لهم – و أنهم قد ساهموا في إرتقاء الحضارة الإنسانية . لا يمكن الكتابة عن البحث في الجذور بدون التطرق لكتاب الكاتب الأمريكي أليكس هيلي ( الجذور ) الذي كان قد أثار ضجة عالمية , خاصة بعد إخراجه في مسلسل تليفزيوني متعدد الحلقات في فترة السبعينات , ثم ظهر محتواه في أفلام عدة تحدثت عن الظلم الذي وقع على الأفارقة الذين أخذوا عنوة من غرب أفريقيا بقوة السلاح الناري و أستعبدوا ليعملوا في الحقول في الأراضي الجديدة الواسعة في أمريكا , و كيف أنهم قد شعروا بالفخر و بالعزة عندما عادوا إلى أصولهم في غرب أفريقيا و عرفوا أن أجدادهم لم يكونوا جهلة و متوحشين بل كانوا متحضرين و لهم ممالك و بعضهم كانوا يدينون بالدين الإسلامي . هذه المعلومات أزالت عنهم ما كانوا يحسونه من دونية بجانب البيض و دفعتهم ليس إلى طلب المساواة بهم , بل إلى التفوق عليهم في مجالات عدة حتى كللوا ذلك بالتربع على كرسي الرئاسة في أمريكا ! كانت من نتائج ظاهرة البحث عن الجذور التي فجرها كتاب أليكس هيلي أن ظهرت في أمريكا موجة مكاتب الخدمات التي كثرت بسبب الطلب عليها حتى تقوم بمساعدة الزبائن في تقصي أنسابهم كي يعودوا بهم إلى جذورهم أينما كانوا , و كان الزبون منهم يدفع بسخاء في سبيل معرفة أصوله , و كان يذهب في إجازاته ليرى موطنه الأصلي و ليتنسم من عبق الأجداد , و معظم الأسر الكبيرة في أمريكا قد تقصت جذورها و منهم المشاهير في المجالات المختلفة و منهم الرؤساء الذين عادوا إلى أصولهم و معظمهم من إيرلندا . على نفس الشاكلة فعلت الأميرة النوبية التي كانت قد حضرت إلى السودان في الثمانينات كي تبحث عن جذورها , و هي تنتمي إلى سكان جزر بحر الكاريبي , و لي مقالة كنت قد كتبتها قبل سنوات مضت عن تباهي سكان تلك الجزر بأن أصلهم من النوبيين و أن في متحف كينجستون القومي عاصمة جزيرة جمايكا توجد مخطوطة تشير إلى أن السكان الأوائل قد وصلوا إلى تلك الجزيرة في سفن كانت قد ضلت طريقها في المحيط الأطلنطي و هي كانت قادمة من شواطيء مصر بحثا عن مصادر جديدة لمعدن الحديد و هم من النوبيين الذين كانوا يحكمون مصر في زمان الأسرة الخامسة و العشرين . هذه المعلومة كان قد أوردها الكاتب الديبلوماسي عبد الهادي صديق يرحمه الله عندما عمل في كينجستون , و قد كنت تطرقت لها في كتاباتي عن المطربين الجمايكيين الذين غزوا أمريكا بفنهم ( الريقي ) و الذين كانوا يزورون السودان من أجل نفس الأسباب السالفة و لكي يسجلوا إيقاعات جديدة لأغانيهم من إيقاعات أذكار الصوفية في ضاحية ( الشيخ حمد النيل ) . لكل عائلة كبيرة في السودان توجد شجرة لنسبها , و ذلك بحكم أن السودان كان ارضا للهجرات منذ القدم و إلى يومه هذا و إن إختلف الحال على زماننا , فبينما صار السودانيون يهاجرون هجرات عكسية إلى الخارج طلبا لتحسين أوضاعهم التي ساءت , نرى الأجانب من دول الجوار يلجأون إلى السودان الذي يعد أحسن حالا من بلادهم و لا يعودون إليها . عند كل عائلة تجدهم في البيت الكبير يعلقون لوحة عليها شجرة عائلتهم التي يتباهون بها لأن لهم أصل ! عندنا في السودان يقولون للشخص الذي ليس له أصل أنه ( مقطوع من شجرة ) , أي بدون أصل أو فصل . حال العباسيين يشابه حال من ذكرت آنفا . هم ينتمون إلى العباس عم النبي صلوات الله و سلامه عليه و هم المكونون لأكبر إمبراطورية إسلامية قديمة و هي دولة الخلافة الإسلامية العباسية , و التي في عهدها إزدهرت المعرفة و العلوم و كانت لها مساهمات مقدرة في الطب و الهندسة و الرياضيات أعانت أوربا عن طريق الترجمة في عصر النهضة الحديث و كانت وراء الكثير من الإختراعات العلمية الحديثة , لكن العباسيين أصابهم الشتات منذ عهد الفتوحات الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين , حيث خرجوا مجاهدين في سبيل الله و مقيمين بالأمصار , و عند بزوغ دولتهم العباسية في بغداد توافدوا و عملوا فيها و شدوا من عضدها , و عندما قضى هولاكو التتري على دولتهم و إستباح بغداد , تشتت الأحياء منهم في هجرات إلى الشام و الشمال الأفريقي و من ثم إلى السودان . هكذا توزعوا و لكن أشواقهم إلى أهليهم و ديارهم كانت تلازمهم . من المعروف أن إبراهيم جعل جد الجعليين و الشايقية كان قد وفد آباؤه من العراق عن طريق مصر و الشمال الأفريقي , و أن الملك شاويش ملك ملوك الشايقية في موقعة كورتي إسمه في الأصل ( شاوس ) و قد تم تحريف نطقه إلى ( شاويش ) و أن شاوس و أشاوس صفتان موجودتان بكثرة عند العراقيين حتى اليوم . العباسيون لهم أشواقهم لمعرفة أجدادهم بعد أن تفرقوا أيدي سبأ , و لذلك صارت لهم نقابات أو جمعيات في معظم الأقطار العربية و الإسلامية لتتبع أنسابهم , و لهم أمانة عامة تضم كل تلك النقابات , و للأمانة العامة موقع إلكتروني يسمى ( الأمانة العامة لأنساب السادة العباسيين ) و قد أنشيءهذا الموقع ليكون واجهة تقنية تطل على التاريخ و نافذة للتواصل . هم سادة و أشراف لأنهم ينتمون إلى بيت النبي ( ص ) و ليس لسبب آخر غير ذلك . ( البقية تأتي ) ..