شاهد بالفيديو.. (ما تمشي.. يشيلوا المدرسين كلهم ويخلوك انت بس) طلاب بمدرسة إبتدائية بالسودان يرفضون مغادرة معلمهم بعد أن قامت الوزارة بنقله ويتمسكون به في مشهد مؤثر    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    شاهد بالفيديو.. مطرب سوداني يرد على سخرية الجمهور بعد أن شبهه بقائد الدعم السريع: (بالنسبة للناس البتقول بشبه حميدتي.. ركزوا مع الفلجة قبل أعمل تقويم)    الخرطوم وأنقرة .. من ذاكرة التاريخ إلى الأمن والتنمية    السودان يعرب عن قلقه البالغ إزاء التطورات والإجراءات الاحادية التي قام بها المجلس الإنتقالي الجنوبي في محافظتي المهرة وحضرموت في اليمن    "صومالاند حضرموت الساحلية" ليست صدفة!    مدرب المنتخب السوداني : مباراة غينيا ستكون صعبة    لميس الحديدي في منشورها الأول بعد الطلاق من عمرو أديب    شاهد بالفيديو.. مشجعة المنتخب السوداني الحسناء التي اشتهرت بالبكاء في المدرجات تعود لأرض الوطن وتوثق لجمال الطبيعة بسنكات    تحولا لحالة يرثى لها.. شاهد أحدث صور لملاعب القمة السودانية الهلال والمريخ "الجوهرة" و "القلعة الحمراء"    الجيش في السودان يصدر بيانًا حول استهداف"حامية"    رقم تاريخي وآخر سلبي لياسين بونو في مباراة المغرب ومالي    شرطة ولاية القضارف تضع حدًا للنشاط الإجرامي لعصابة نهب بالمشروعات الزراعية    استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وراء تزايد تشتت انتباه المراهقين    بدء أعمال ورشة مساحة الإعلام في ظل الحكومة المدنية    ما بين (سبَاكة) فلوران و(خَرمجَة) ربجيكامب    ضربات سلاح الجو السعودي لتجمعات المليشيات الإماراتية بحضرموت أيقظت عدداً من رموز السياسة والمجتمع في العالم    قرارات لجنة الانضباط برئاسة مهدي البحر في أحداث مباراة الناصر الخرطوم والصفاء الابيض    مشروبات تخفف الإمساك وتسهل حركة الأمعاء    منى أبو زيد يكتب: جرائم الظل في السودان والسلاح الحاسم في المعركة    استقبال رسمي وشعبي لبعثة القوز بدنقلا    نيجيريا تعلّق على الغارات الجوية    شرطة محلية بحري تنجح في فك طلاسم إختطاف طالب جامعي وتوقف (4) متهمين متورطين في البلاغ خلال 72ساعة    «صقر» يقود رجلين إلى المحكمة    بالفيديو.. بعد هروب ومطاردة ليلاً.. شاهد لحظة قبض الشرطة السودانية على أكبر مروج لمخدر "الآيس" بأم درمان بعد كمين ناجح    منتخب مصر أول المتأهلين إلى ثمن النهائي بعد الفوز على جنوب أفريقيا    ناشط سوداني يحكي تفاصيل الحوار الذي دار بينه وبين شيخ الأمين بعد أن وصلت الخلافات بينهما إلى "بلاغات جنائية": (والله لم اجد ما اقوله له بعد كلامه سوى العفو والعافية)    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    قبور مرعبة وخطيرة!    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    البرهان يصل الرياض    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة: بين محاكمات الرأي واغتيال الفكر .. بقلم: محمد موسى
نشر في سودانيل يوم 31 - 08 - 2013


(1)
إننا في هذا الوطن العربي العريض , برغم الاختلاف والمغايرة , برغم السحنات المتباينة , لازلنا نتقاطع في نقاط نتشاركها جميعاً هي ليست سوى هموم جاثمة على كواهلنا دهوراً . إذ نعتاش ونتعايش مع فتاوى تنزف دماً . شيوخ "إسلام" يشرعنون بتعاليم دين "التسامح" والرحمة , حكام يتبنون "القتل" ليكون الدواء الناجع لحسم الخلافات الفكرية إلى غير رجعة .. مرجعيات دينية لا تتردد في مقايضة ضمائرها بثمن بخس مقابل الظفر برضى الحاكم , الرأي الآخر بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة ينبغي أن تغتال في مهدها . لم ينصتوا يوما إلى نبي الإسلام حين قال "إن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون من سفك دم مسلم" لم يفتشوا جيداً في "الحقائق الغائبة" للدين الإسلامي , لأن الغرض كان وما يزال تصفية الأعداء والخصوم السياسيين , باسم الدين نفسه . فتاوى للقتل يفوق عددها المئين بمبرر "الدفاع" عن حرمة الإسلام . لم تصدر عن محكمة شرعية أو هيأة قضائية أوامر صارمة بالسفك على إمتداد التاريخ الاسلامي منذ كانت الخلافة "شورى" بين المسلمين . أصبح من العسير الوقوف على توصيف دقيق للمعنى الخاص لمرادف كلمة التطرف/الغلو , إذ أصبحت الأنظمة الحاكمة في الدول العربية هي الراعية الحصرية بل الحاصلة على الملكية الفكرية لكلمة "التطرف" بكل ما تحمله الكلمة من معنى , متجاهلين في غيّهم هذا قول المولى عزّ وجل في محكم تنزيله لنبيّه الكريم : (إنما أنت مذكّر . لست عليهم بمسيطر) ليوضح له سلطاته كنبي ورسول , أما بالنسبة للمتلقي "جمهور المسلمين" فخاطبهم بالتالي : (لمن شاء أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة) تفصّل لنا الآية النزاع الدائر في جدلية "الجبر والإختيار" , وأن كل شاة معلّقة من عرقوبها , وأن لا تزر وازرة وزر أخرى , وأن ليس للانسان الا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يُجزاه الجزاء الأوفى . إن الاسلام لم يكن عقيدة فحسب بقدر ما هو "ثورة" فكرية حضارية اجتاحت المنطقة "الجزيرة العربية" ثم غزت العالم بأسره فيما بعد . إذ تمثّل رسالته أسمى معاني الحرية في الفكر والاعتقاد على حد سواء , يقول المولى عزّ من قائل: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) صدق الله العظيم . من سخرية الأقدار – يقول المفكر محمد عابد الجابري - أن اشتكى أحد المثقفين الحداثيين في القرن الثاني عشر الميلادي من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية ومن اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار مما جعله يفكر في الرحيل إلى أرض العرب , حيث الحرية الفكرية مكفولة . يقول بيير ابيلار(Pierre Abelard) : "الله يعلم كم مرة فكرت , تحت ضغط يأس عميق , في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (أي المسلمين) للعيش هناك في سلام , دافعاً الجزية لأعيش مسيحياً بين أعداء المسيح". نقلاً عن– المثقفون في الحضارة العربية – (ص 28) إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية . والان ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرون نجمع أغراضنا وننسج الروايات الطوال ونحبكها جيداً , لكي نستطيع اجتياز الأسئلة والحواجز التي تواجهنا عند بوابات المرور في المطارات الأوروبية والامريكية وذلك حتى يتسنى لنا الدخول – لأرض الخلاص - ليس لأي غرض سوى بحثنا الدءوب لملاذ آمن نتنفس فيه الصعداء بالتعبير عن مكنونات دواخلنا بحرية وصدق . ولكي لا يمارس علينا احد سلطة "تفتيش النوايا" . حقاً , لقد انقلبت الآية .
أردنا من خلال هذا العنوان (المثقفون والسلطة : بين محاكمات الرأي وإغتيال الفكر) أن نجتر مآسينا ونتلمس طريقنا بين ثنايا تشققات وتصدعات تاريخنا السياسي الحديث , والتطرق الى بعض المواضيع التي شغلت الساحة السياسية والثقافية والإجتماعية على حد سواء . إنها مسألة التطرف الديني أو الغلو في الدين , سواء من قبل السلطة أو من قبل بعض الطوائف . إذ لم تخلو الساحة في بلادنا خلال السنوات الماضية من الأحداث بنسب متفاوتة . مروراً بمختلف المحاولات التي تم فيها إستقصاد المفكر الإسلامي الدكتور الترابي بتكفيره تارة وتارات أخرى محاولة هدر دمه , الى الأحداث التي شهدتها الساحة ابان الإنتخابات الأخيرة بين الطائفة السلفية واعتدائها على دار الحزب الشيوعي , وآخرها الإعتداء الذي حدث في العيلفون للأضرحة الخاصة بالسادة الصوفية . أما على المستوى الحدث الأكبر فهو في عقد الثمانينيات عند مقتل المفكر محمود محمد طه .
(2)
لقد ظهر الباشمهندس محمود محمد طه أو (الأستاذ) كما يحلو لطلبته بمناداته في ثلاثينيات القرن الماضي كأحد رواد الحركة الثورية الفكرية في السودان التي تنادي بجلاء الإستعمار البريطاني المصري عن السودان ... وقد إصطدم في مشواره الحركي مع جميع الحركات والطوائف الموجودة في البلاد , بمختلف توجهاتهم سواء أصحاب اليمين أم أصحاب اليسار . ان طبيعة السياسة في أي زمان ومكان مبنية بالأساس على المكائد والدسائس من جهة والخلاف والإختلاف والتنابذ من جهة أخرى , وبالتالي كل الخلافات التي تنشب بين الخصوم سواء داخلياً أو خارجياً , هناك دائما مخرج ومنفذ يسمح لأحد الأطراف بالتراجع , إن لم يكن كلا الطرفين معا . هذا ما لم يعمل له الأستاذ خلال صولاته وجولاته السياسية ألف حساب .(.. لقد انطوى الحزب منذ نشأته على جوانب إيجابية وسلبية , فقد أخرج دعوة الإستقلال من محيط المناورات وطموح السيد عبد الرحمن , إلى نقاء العمل السياسي الحقيقي من أجل الاستقلال , فألبسها دثارا ناصعا جعل منها دعوة يمكن أن تلهم جيلا بأكمله . كما أخرج العمل السياسي من دائرة المناورات والتكتيك , إلى رحاب العمل الفكري القائم على البرنامج الملزم المحدد الجنبات والآفاق ... وكان لموقف الحزب الصارم ضد القوى ذات النفوذ في المجتمع , أن فقد المرونة في الحركة , في وقت كانت مثل تلك المرونة ضرورية لممارسة العمل السياسي ... إن أزمة الحزب الجمهوري , أنه قائم على نقاء السريرة وصفاء الطوية , دون أن يدرك أن ذلك النقاء وذلك الصفاء , لابد لهما من مناورات وعمل تكتيكي , يجعلهما قادرين على الحركة السياسية في واقع يصطرع بالمناورات والتكتيك , وليس مجرد الإنكفاء على مُثُلْ وقيم رفيعة ... كما أقحم الحزب الاسلام في العمل السياسي , وهو إقحام كان له ما يبرره من أجل إلهام الناس من تراثهم الاسلامي , ولكن غاب عنه أن الاسلام في المعترك السياسي , له ممارسات وتجليات أخرى , استغلها حاملوه ورفعوا لها ألوية , ولكنهم تستروا خلف تلك الألوية لإدراكهم أنها لن تجد قبولا من أصحاب الشأن في الدولة ..) . نقلا من كتاب "تاريخ السودان الحديث 1820م – 1955م" ص(495).الدكتور محمد سعيد القدال. الناشر مركز عبد الكريم ميرغني . يتبع
المثقفون والسلطة : بين محاكمات الرأي وإغتيال الفكر (2-3)
(3)
وُلد الأستاذ محمود محمد طه في العام 1909م , وبالتالي فهو قد عاصر وأدْ آخر خلافة إسلامية وهي الخلافة العثمانية "التركية" في العام 1924م على أيدي الإنجليز , وبالتالي لا يستغرب أحد تلك النزعة الدينية المليئة حماسة وغيرة من جهة , والكراهية الشديدة تجاه المستعمر وحلفائه من جهة أخرى , وللأسف الشديد فإن من حلفاء المستعمر "بريطانيا" دول عربية إسلامية ساهمت في دك حصون الدولة الإسلامية الحاضنة "للخلافة" الإسلامية الرشيدة , بل ما أزعج الأستاذ وأقض مضجعه تأييد بعض الطوائف االدينية بالسودان المستعمر والوقوف معه ونصرته ... لذلك إنتهج الأستاذ محمود هذا النهج الأخلاقي والذي مفاده : أن الدين ليس سلعة للإتجار "يُباع ويُشترى" فسلك مسلك التوسع في الدين للتثبت من الدراسات الدينية والقرءانية والوقوف على دراسة السنة الصحيحة والسيرة النبوية ودراسة حياة محمد (ص) وأصحابه ومقارنة كل ذلك مع الطروحات التي جاء بها دُعاة الإسلام الجُدد في ذاك الزمان ومقارنتها بالواقع المعاش. وكان هؤلاء الدعاة يتمثلون في حزب "الأخوان المسلمون" الذين كانوا أكثر الأحزاب مقتاً وعداوة للحزب الجمهوري , وقد أصدر الحزب الجمهوري كتابين في العام 1968م أحدهما موسوم ب(الدستور الإسلامي ... نعم/لا) والثاني (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان الثقافة الغربية و الإسلام) إنتاش فيه الحركة الاسلامية وقادتها , وقد إبتدأ كتابه بالتالي : (الإهداء إلى الشعب السوداني الذي لا تنقصه الأصالة , وإنما تنقصه المعلومات الوافية .. وقد تضافرت شتى العوامل لتحجبه عنها) . وحقيقة لقد تضافرت جهود شتى لحجب الحقيقة وذر الرماد على عيون الشعب السوداني "المغشوش" ب(الدين) والمشغول بالحراك السياسي ومهموم بلقمة العيش . لذلك لقد تبنت الاحزاب الطائفية (الدينية) هذا النهج في التعامل مع الشعب على مر السنين ونجحت في ترويض الجماهير وإلجامه , بل وأكثر من ذلك , إذ باسم الدين انخرط البسطاء من هذا الشعب من مختلف بقاع السودان من أجل إعلاء كلمة "لا اله إلا الله" بصدق ونية خالصة لوجه الله , مضحّين بالغالي والنفيس . لا علم لهم بأن الأمر كله ليس لله في السياسة , وأن لا وجود للأخلاق في هذا الحقل , وأن جهدهم ومالهم ذهب سُدى يذروه الرياح , وأن مبادئهم التي ظلوا ينادون من أجلها ودفعوا دمائهم وأموالهم ثمناً لها يمكن أن يُتخلى عنها وتُرمى في أقرب منعطف من منعطفات التاريخ , مع ذلك لم تر الحركة الاسلامية أي حرج في تبني ذات النهج "النفعي" الرخيص في كسب ود الشارع السوداني , ولكنها ذهبت أبعد من ذلك , إذ قبلت راضية مرضية أن تعقد قرانها "باليسار". إن الدين كان ولم يزل الورقة الرابحة لكل سلطان أو طالب سلطة للظفر بألباب الشعوب . ومن الذي يستطيع أن ينبت ببنت شفة لمن هو قائل : ( القرآن دستورنا) , لقد تعاملت الحركة الاسلامية بإزدواجية في المعايير والمبادئ منذ نشأتها , إذ قبلت التعامل مع نظام النميري "الإشتراكي" في ذات الوقت الذي ترمي فيه بشرر , "الآخر" ذو التوجه الاسلامي الصوفي . وقد تركت كتابات الأستاذ في ذلك الزمان أثراً في نفوس منتسبي الحركة الاسلامية . فمن بين جميع القوى والحركات السياسية الوطنية الموجودة في تلك الفترة لم تنشب خصومة ولا عداوة مثل ما حصل بين كل من الحزب الجمهوري والحركة الإسلامية . وهي تعتبر من الحروب السياسية الشديدة الضراوة والحساسية في تاريخنا السياسي والفكري .
(4)
بدأ الحزب بدعوة الرجال والنساء من عامة الشعب إلى تقليد محمد صلى الله عليه وسلم وبعث كلمة "لا إله إلا الله" في نفوس وصدور الجميع .. وحسب ظن الأستاذ محمود فإن هذه الكلمة لم تجد مكانتها لدى الناس سواء العلماء أو العوام البسطاء , إذ حسب قوله لم يفهمها الجميع فهماً جيداً . كما يدعو إلى تجديد الدين للسمو بخُلق الناس وتصفية فكرهم ونفوسهم , فالثورة الفكرية التي يدعو لها الأستاذ عبر الحزب هي الوسيلة الوحيدة أو الطريق الوحيد لخلق إرادة التغيير , ويعني بالتغيير – التغيير إلى الحكم الصالح - وهو الحكم الذي يقوم في آن واحد على ثلاث دعامات من مساواة "إقتصادية وسياسية وإجتماعية" , وذلك هو الحكم الذي يجعل إنجاب الفرد الحر ممكناً , الفرد الذي يفكر كما يريد ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول , ثم لا تكون عاقبة قوله ولا عمله إلا الخير والبر بالناس والأشياء .
إن الأستاذ اتبع نظاماً معرفياً خاصاً انطلق منه لفهم الرسالة المحمدية وذلك اثناء الفترة التي اتخذ فيها خلوته , وكما نعلم فإن الخلفية العقلية الفكرية للأستاذ هي عقلية رياضية صرفة , بالتالي يتعامل مع المواضيع – أي موضوع – بعقلانية بحتة و بمنهج تفكيكي ليصل إلى أصل الأشياء , وهذا المنهج لا يمس ولا يقدح جوهر "الدين" في شيئ – حسب رأينا - إذا ما تم بحذر وعناية , وإذا ما استوفى الباحث شروط التجديد/الاجتهاد . إذ أن "التجديد الديني" أو بلوغ مرتبة "الاجتهاد" يحتاج – بالضرورة – إلى معايير دقيقة قلّما تتوفر في شخص (واحد) في زماننا الراهن . إن عملية التجديد التي يسعى إليها الأستاذ محمود لإعادة تأسيس منهج إسلامي عصري أو فقه إسلامي معاصر تتطلب بالضرورة قراءات متعددة من زوايا مختلفة للكتاب والسنة كل على حدة , يحتاج المرء فيه عبر قراءاته , التنقيب في التراث والحفر عميقاً ونبش الماضي .. على أن يكون مستعداً لمواجهة ما يجده من حقائق مغيّبة (صادمة) وكيفية التعامل معها . أما بالنسبة للقرآن فليس هناك من يدّعي فهمه فهماً مطلقاً , ولكي تتحقق مقولة "الاسلام صالح لكل زمان ومكان" يجب – بالضرورة – أن نختلف في فهمه (القرآن) نحن البشر أفقياً ورأسياً في مختلف الأزمنة والأمكنة , أن نختلف في تأويله , فما صلح منه – مفاهيمياً – في عصر ما ليس بالضرورة أن يصلح في عصر آخر , ولا نقصد ب(الصلاح) ذاك الصلاح المقابل للمفسدة بل (المواكبة) . لذا , فإن كلام الله عزّ وجلّ "القرآن" مطلق في ذاته نسبي لقارئه ونسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها , وهذا ما يطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه , وهنا نعلم لماذا كان النبي (ص) ممتنعاً عن شرحه إلا في الشعائر فقط . فهل كان محمود محمد طه مستعداً لهذا المشروع ؟ هل تتوفر فيه الشروط التي ذكرناها ليستوفي شرط الإجتهاد/الإصلاح ؟ . نشك في ذلك .
يقال ان معرفة الدرب ليس كالسير فيه , وقد بدأ الاستاذ محمود مشواره السياسي فسلك درباً طالما تاه فيه رجال , وهو درب البحث عن "الحقيقة المطلقة" من خلال الدين. إذ أن الحقيقة التي يجب أن يعرفها الاستاذ قبل غيره وقبل ان يبذل أي جهد , هي ان لا أحد لديه الاستعداد لمواجهة هذه "الحقيقة المطلقة" . فالناس تكذب كما تتنفس والدولة – أي دولة – قائمة على مبدأ (أكذب أكذب حتى تُكتب عند الشعب صِدّيقاً) . لقد راهن الاستاذ على مثاليته ... فخسر . بدأ الاستاذ دعوة للتغيير لوضع وتأسيس أركان "مدينته الفاضلة" التي يراها حسب فكره .. محاولة للتوفيق بين السياسة والدين (الكذب/الحقيقة) الأخلاق/المادة , محاولة توفيقية بين دولة "المدينة" المستعصية على جميع الأجيال السابقة والتي يتنادى بها بعض الفئات والطوائف الآن , وتشكيل قالب جديد لها في العصر الراهن في دولة السودان البكر وذلك بخلق مجتمع مثالي حسب رؤيته . يتبع
المثقفون والسلطة : بين محاكمات الرأي واغتيال الفكر (3-3)
(5)
يعتبر الأستاذ محمود محمد طه (1909م-1985م) من طلائع الأجيال التي شهدت بدايات تشكيل ملامح الدولة "المؤسسة" في السودان وعايشته بحلاوته ومراراته ، ففي بواكير القرن العشرين أثناء فترة الحكم الثنائي الإنجليزي/ المصري تم تدشين مؤسسات التعليم الحديث: كلية تدريب المعلمين والقضاة بأم درمان عام 1900م، ومدرسة الصناعة بأم درمان وكلية غردون التذكارية عام 1902م، والمدرسة الحربية (مدرسة الخرطوم الحربية) عام 1905م، ومدرسة كتشنر الطبية عام 1924م. والمعهد العلمي بأم درمان الذي أنشئ على غرار الأزهر عام 1912م. في الوقت الذي كانت فيه الكثير من دول أفريقيا ترزح تحت بؤس إستغلال الإستعمار , فقبل هذا التاريخ بقرنين دخلت فرنسا أفريقيا مستعمرة السنغال بالحديد والنار , إستنفدت قدرات هذا الشعب الذي خضع وخنع لها طيلة ثلاث قرون عجاف , دون أن تنظر إلى الإحتياجات الأساسية لهذا الشعب . ففي ذات التاريخ الذي تم فيه إفتتاح هذه المؤسسات التعليمية سابقة الذكر في السودان كان الفرنسيون يحتفلون باطفاء الشمعة المئتين لهم في السنغال دون أن يفتتحوا حتى مدرسة ثانوية , وبالتالي يكون السودان سبّاق في مضمار التعليم الحديث في المنطقة – بعد مصر- وكان الطلاب الذين عايشوا هذه الفترة هم جيل محمود محمد طه الذي كان داعياً أخلاقياً دينياً اجتماعياً أكثر منه داعياً سياسياً , فجميع كتاباته تدعو إلى نقد الذات ومراجعة النفس والصدق مع البسطاء (الشعب), إن النقد الذاتي فالجهاد الذاتي فالتربية الذاتية هي الأطوار الثلاث التي ينادي بها الأستاذ محمود عبر كتاباته لعملية تغيير الإنسان تغييراً خلاّقاً , ولا يجتاز الفرد هذه الأطوار منعزلاً عن الآخرين بل ملتزماً معهم بالصراع الطبقي . ويكون قطاف هذا التغيير إنفجار طاقة خلاّقة وإنبثاق وجدان سامٍ يسهم كل طور من الأطوار الثلاثة في تكوينهما , فالأطوار الثلاثة هي مقومات أساسية , ولحظات متكاملة في عملية إعادة تربية الذات تربية دائمة , ولا تستقيم العملية إلا إذا جرت في خضم الصراع الطبقي , وإلا تعرض الإنسان لعواصف هذا الصراع وأمواجه وتبدو هذه الأطوار للتربية الذاتية وكأنها مقامات صوفية إجتماعية أو مراتب مثالية دينية أكثر منها قوانين نمو حتمية لأيديولوجية علمية كالأيديولوجية الماركسية التي كانت متفشية في ذاك الزمان .
ونحن في قراءتنا لسيرة الأستاذ محمود أحد رواد الفكر السوداني الحديث , لا ننسى العوامل التي تضافرت وساهمت في تشكيل فكر وشخصية هذا الرجل سواء العوامل الخارجية والتي تتمثل في تأثير الإستعمار الأجنبي عبر مؤسساته سواء الأكاديمي أو الكنسي , وما أفرزه من جبهات نضال والتي بدورها ألهمت تيارات ثقافية أثّرت في تغيير منحى الثقافة المحلية السودانية , أو العوامل الداخلية , كما هو ماثل في تأثير الثورة الدينية الصوفية المتمثلة في الثورة المهدية وما أفرزته من معان سامية لتجسيد معنى النضال والإستبسال في سبيل الوطن والدين , وكم أسهمت في رفع القيم والأخلاق لدى الجيل الذي خَلَفَهَا وهو جيل محمود محمد طه الذي وجد نفسه وجها لوجه مع المستعمر الغاشم , هو ذات الدخيل الذي قتل الإمام المهدي وأنصاره الذي فتك بأبناء البلد قبل عقد ونيف فقط من ميلاده , هو ذات السلاح الذي أنهى خلافة عبد الحميد الثاني – خليفة المسلمين – وأنهى بذلك آخر خلافة اسلامية في تركيا (الخلافة العثمانية) , هو ذات المستعمر الذي جاء بلباس آخر , إذ يحمل بيدٍ سيفاً وبندقية وفي اليد الأخرى صليب وصولجان . لذلك كان محمود محمد طه قاسياً مع كل من ينتهج النهج الإسلامي "المزيّف" ويجعل منه معبراً سهلا للسلطة و سلّما يرتقي به إلى سماوات القصور الرئاسية .
لقد قرأ الأستاذ محمود المستقبل البعيد لهذا البلد وسبر أغواره وأراد أن ينقل معرفته الى معاصريه , إلا ان من عاصروه لم يمنحوه الفرصة اللازمة ولم يمنحوا الشعب كذلك الفرصة للتعرف عليه كما ينبغي. فقد حُجبت المعلومات اللازمة من الناس عامة والشعب السوداني خاصة. ومن سخرية القدر أن لحق بتلامذته ومريديه الذين عاصروه ذات اللعنة التي لحقت بالحركة الإسلامية السودانية في بواكير عمرها والمعروفة تاريخياً بفترة الكمون الأولى وهي الفترة التي ركنت فيها الحركة الإسلامية وعزفت عن العمل الجماهيري وآثرت الكمون والإستتار خوفا من أن يلحق بها ما لحق بالحركة الإسلامية في مصر من تقتيل وتنكيل وتعذيب على يد عبد الناصر آنذاك . حقاً ان التاريخ يعيد نفسه .
لقد تعرضت صورته للتشويه عبر الزمان وحصل هذا عن قصد لتجهيل الجماهير وتغييب وحجب الحقيقة عن الأجيال القادمة بل إن صح التعبير تحريف التاريخ وممارسة سلطة قمعية إستبدادية أبوية لغسل أدمغة الشباب قادة المستقبل . وقد تم إصدار قرار رسمي من الجهات العدلية والقانونية والشرطية بإيقاف وحظر نشاط الجمهوريين ومصادرة جميع كتبهم ومنع تداولها بين الجمهور , كما صرّح بذلك رئيس محكمة الاستئناف حينها المكاشفي طه الكباشي بعد تنفيذ حكم الإعدام على الاستاذ , واضاف أيضاً : (..أنه فيما يختص بأموال محمود محمد طه فانها ستكون فيئاً للمسلمين..) عن الصحافة 21 يناير 1985م . ولكن ليس بالغريب أن يتم تجاهل الأستاذ محمود محمد طه وطمس حقيقته , سواء ما كان ينادي به حقيقة صادقة نابعة من صفحات ناصعة البياض تكاد تكون من عند الله , أو ما أتى به ليس إلا زندقة وكفرٌ صريح ألقى بها عليه الشيطان ليغويه هو وقبيله ، لقد تجاهله معظم معاصريه من طلائع المتعلمين عندما كتبوا مذكراتهم وسيرهم الذاتية وأغفلوا ذكر إسمه ، وحجبوا نضاله وجهاده ضد المستعمر , ليس نسياناً ولكن جُبناً وخيانة منهم , إلا النذر القليل . من هذا المنطلق رصدنا أقلاما بعضها يرى أن محمود محمد طه ليس إلا فتنة ونبتة فاسدة يجب بترها وهؤلاء ينتمون الى "الإخوان المسلمون", وفريق يرى بحرية الرأي والتعبير , وأن الأطروحات التي تنصب في بوتقة "الاعتقاد" و "التفكير" وما هو بين الصدور , حق مكفول لكل إنسان سواء جهر به المرء او أسرّ القول به . مرتكزين في ذلك على ان أولى مباديء الاسلام أنه لا إكراه في الدين ولا سلطان لأحد ولا حتى النبي على عقيدة الناس وإعتقادهم , ولا يسيطرون على معتقداتهم , كما لا يجوز له إلزامهم باعتناق الاسلام . فحرية العقيدة هي وحدها التي لا تخضع للسلطة . هذا إذا سلمنا جدلاً أن الاستاذ محمود "فاسد" الإعتقاد . ولكن إذا نظرنا لهذه المسألة من زوايا أخرى فاننا نرى صورة أخرى مغايرة تماماً وربما تجعلنا نُرجع البصر كرتين في التاريخ السياسي السوداني من منطلق أيديولوجي , فالحركة الاسلامية السودانية كانت ولا زالت تناقض نفسها بنفسها , فحسب ما سطره أساتذتها ومعلموها الأوائل بأن الحركة لم تهتم بالجانب الفكري حتى لا تقع في شراك الحركات التي لقيت حتفها جراء التنظير والفلسفات المعارضة واكتفت بنصح منتسبيها وتوجيههم لكتب وكتابات لأسماء بعينها , نجدها قد وقعت في وهدة تناقضها , لأنها بذلك قد ثبّتت ضمنياً أن لا وجود للعقل ولا وجود للحرية (بمختلف معانيها) في دستورها المبني على الكتاب والسنة , وهذا مخالف لجوهر الدين الاسلامي ومخالف لما جاء به النبي محمد (ص) , لأن الدين الاسلامي (دين محمد) مبني على التسامح والمحبة والشورى وعلى حرية الاعتقاد والتي هي الأساس ونجدها حاضرة في القرآن الكريم في أكثر من آية منها "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا . أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" صدق الله العظيم . إن وهدة التناقض (الدين/السياسة) الذي وقعت فيه الحركة الاسلامية منذ بدايتها وجعلت منه منهاجاً لها فيما بعد أنها كما يقول عبد الرحمن الكواكبي قد وضعت "للإنتهازية عنواناً من الدين , وقدّمت للظلم تبريراً من الآيات , وأعطت للجشع أسماء من الشريعة , وأضفت على الإنحراف هالة من الإيمان , كما جعلت سفك الدماء ظلماً وعدواناً عملاً من أعمال الجهاد". لقد تم مصادرة "الاسلام" من قبل الفئة المتأسلمة , وأصبح الجميع غرباء بلا هوية , وأصبح الاسلام هوية لا تُمنح للغرباء إلا بعد إستوفاء شرط (الإندماج) أو (التكيّف) أو شهادة (تأهيل) للشخص المعني , اي الولاء ثم الولاء . كما أصبحت كلمة (كافر/مرتد) مشاعة سهلة طرية , رطبة في اللسان , يلفظ بها كل من هو "مُعمعَم" ومُتدثَّر برداء السلطة .اه
إقتباس
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده, طوبى للغرباء, فقيل من الغرباء يا رسول الله, قال أناسٌ صالحون في أناس سوء كثير, من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, مسند احمد بن حنبل.
mohamed mosa IMAM [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.