هكذا جاء الأمر ، بعد سنين عديدة ، أن قرر في أحد الصباحات الصيفية أن يجمع ما تبقى وهو قطعا لم يكن كثيراً، فقط بعض كتب قديمة وأقلاماً ودفتراً كبيراً أرزق على صفحته الاولى مكتوب ، إليك دائما ، وحذاء من عينة تلك الماركات العالمية ، أهدته إياه إليانا على أن يرتديه يوم ذهابه للجلوس لإمتحان المعادلة - إن لبسته تأكد أنك ستنجح ونجح وحمل رخصة ممارسة المحاماة باقي الأشياء سيتركها لأصدقائه . لم يكن يحس بأي أسف لمغادرته هذه المدينة التي سقته مُر غربته طيلة العشر أعواما الماضية ، لم يكن يحب الوداعات ولا لحظات إنكشاف الضعف العاطفي ، هكذا كانت تربيته الاولى ، لذا سيغادر دون أن يقول لأحد مع السلامة . غادر الحسين الخرطوم في ذلك الصباح الصيفي راجعا إلى اهله ، قلبه كان مضطرباً وعيناه كادتا أن تقطرا فهو لم يرجع إلى أهله في أي من اجازات الجامعة ، الذكريات أثقلت عليه فجأة والأحداث والأشواق ، خدر وثقل سرى في قدميه ، شارد اللب فتح الباب الخارجي وخرج ، حاول أن يُهدئ قلبه من ذلك الإضطراب ، لكنه فشل ، سوف لن يرى إليانا مرة أخرى ، سيترك المدينة ، لكن أيكفي مراوغة حبها في قلبه تغير المكان والسفر إلى بقعة بعيدة !، لم يكن واثقاً ، لكنه كان في حاجة ماسة للرحيل ، لأن يذهب بعيداً ، ضربات قلبه كانت تتسارع ، أخذت تضرب قلبه كمطرقة . إليانا التي غزت قلبه مذ أول يوم رأها فيه صدفةً في ممر الجامعة الرئيسي ، تتبعها ببصره دون تدبر إلى أن دخلت قاعة الدراسة المخصصة لطلاب السنة الأولى . سيسافر بالقطار ، أسرع في خطاه ، صفارة القطار وصلته وهو في زحام المحطة يدفع الآخرين من امامه برفق ليصل ، تذكرته كانت في الدرجة الثالثة ، اذدحام كثيف ، رجال بقامات مختلفة ولهجات متنوعة ، نساء بسحنات متفاوتة وثياب بكل الألوان وطيور وصغار لا يكفون عن الصراخ ، ضابط القطار هو الآخر لا يكف عن إصدار التوجيهات للمسافرين . لقد نجح الحسين أثناء دراسته للقانون في إنشاء صداقات ناجحة وقوية ، كان زملاؤه يرون فيه تلك الألفة البدوية الصادقة والتهذيب الرفيع العائد لتربية الخلوة الأولى ، وبما حباه الله من صفات صار الحسين قبلة لمعظم طلاب الجامعة ، الإحترام المشترك بينه وبين أساتذته والذكاء الطال من عينيه وتفوقه الباهر جعل الكل يقدر له ذلك . القطار يسير ببطء متعمد ، الأصوات متداخلة حد عدم الفهم من يتحدث مع مَن ؟ ، البعض يصتدم بالبعض لكن معظم المسافرين أستقروا في أماكنهم ، الأطفال سعداء بفوضى المتاع المتراكم قرب أسرهم ، كان يرصد حركتهم بإبتسامة عذبة وشوق إلى إخوته اللذين تركهم صغارا ، لكنه لم يكن بخير ، كل ذلك كثف من حضور إليانا في روحه وجسده ، ارتعش قليلا ، الدماء كادت تتفجر من عروقه ، دقات قلبه كما طبول قوية ، لم يكن في فؤادئه الصادق يريد نسيانها ، يريد لها أن تبقى حية ، نابضة ، مضيئة ودافئة - لن أرجع للخرطوم مرة أخرى هكذا قطع على نفسه عهدا ، ومع ذلك ستبقى إليانا في كل نبضة من نبضاته تخفق ، موجودة في كل إلتفاتة ،ارادها وهى فضلته على البقية لكن الواقع كان له مذهب يختلف عن تلك المحبة . اول إستلامها لدفة قلبه لم يكن أحد من أصدقائه يلحظ حبه لها ، لكنها بفطرة المرأة كانت تعرف ، لأنه لا يُخفى على المرأة خفقان قلب بها ، كانت تخترق هدؤه كسيف ، تحمل إبتسامتها كهالة ضوئية تعجزه عن تجاهلها ، وكان طبيعيا أن يشعر بالدفء العفوي كلما جلس معها ، بصعوبة وحياء بالغ أخبرها دون نطق واضح ، مجرد همهمات لكنها كانت مفهومة ، ومن يومها لم يفترقا ، كانا معاً ، يذاكر دروسه معها ويذاكر لها عند إقتراب امتحانها ، استطاعت ببراعة إلتقاط عاداته وتفسير نظراته وفهم صمته وكان يحكي لها عن قريته البعيدة الواقعة في أقصى المفازات الغربية وعن إهله وكرمهم وشجاعتهم وأبيه الشيخ الفارس ، وعن حنان أمه العجيب وعطفها ، حكى عن جدته الحكامة ، شرح لها معنى الحكامة وكيف أن لها كلمة مسموعة وسط الناس هناك ومكانة رفيعة مقدرة ، حكى لها عن نفسه وأحلامه وتمرده في صباه الأول ، وكانت تستمع إليه بحب كبير وعاطفة صادقة لكنها لم تكن تحكي عن شئ. وكان الجميع يعرفون مدي حبهما لبعضهما ، فما أن تلمحه إليانا قادما بطلته الراسخة وسمرته الأقرب للسواد حتى تذهب عن الجميع إليه ، تُحيه بابتسامة ويحيها بصوت موشوم ببحة مميزة . الممر مازال مزدحما بالصغار والصراخ وشكوى النساء من ضيق الحال والفقر والصراع المسلح بين الجماعات المختلفة والحكومة وأحيانا بين الجماعات ذاتها ، والحال لم يكن مستقراً ، إنها الحرب بين أهل البلد الواحد . كان يستمع إليهن باستفهام، أبلغ الحال كما يقلن !؟ الخلاء ممتد على جانبي القطار ، الشجرات صارت متباعدة ، السماء صافية والرمال بصفار يسر القلب ومتحدة في الأفق البعيد ، القطار يسير بسرعة شاقا الطريق نحو الرهد ، وهو لا يكف عن النظر عبر نافذته الضيقة ، أبو ذبد ، الضعين مدن له فيها ذكريات ،إليانا لا تعرف هذه المدن ، لأنها من الشرق ، بيتها قرب نهر القاش الموسمي ، لم تكن تعرف غير مدينتها والخرطوم . بابنوسة والحزن إذا ما قلنهن النسوة صحيحا ، صدمته أرضه ، أهذه هى التي تركها قبل سنين ، أم أن القطار سلك طريقا آخر غير الذي يعرف ؟ ، الشمس إلى غروب ، الذهول أسكر قلبه ، احاديث الطلبة الجدد القادمين من هذه المناطق كان صحيحا إذا ، وحده لم يكن مهتما ، شغلته إليانا بتفاصيلها ، لا خضرة ممتدة ولا ماشية ترعى ولا صغار خلفها ، الطريق كئيبا مكفهرا يكاد ينطق بؤسا ، اليوم الثالث وهو مازال مسافرا ، التبدلات اذهلته حد تجمد قلبه وتصلب كل عضلة من عضلاته ، الفراغ خطف عقله وكأنه في دائرة واسعة مسحوب منها الهواء ، إينما حطّت عيناه خراب وبقايا قرى ، من بعيد لاحت نيالا ، مدينته ، حبيبته ، دخلها القطار ظهرا ، الزحام في المحطة على أشده ، الأصوات تعانق السماء علوا ، العرق ورائحة الأجساد الحارة والأشياء المكدسة ، المحطة كما تركها قبل عشرة سنين ، هى ذاتها لكن الكثير من الغرباء بها ، خرج مشتاقا لمدينته الممتدة على مساحة ....... ولسوقها العامر بالبضائع المجلوبة من دول الجوار ، لطالما أحب أطعمة و عطور هذه المدينة وأحذيتها ، الطرقات لا كما كانت، أيضا الغرباء وفخامة السيارات أذهلته ، والأحياء الجديدة بعمارها الحديث ، تمنى لو أنه يصادف وجها يعرفه ، تلفت بلهفة ، لقد أصبح هو الغريب لا هم ، جلس وحيدا تحت ظل واسع ، أحس بحزن عميق لا لأنه بعيدا الآن عن إليانا بل لأنها لم تترك مكانا في القلب سليما منها ومن ضحكتها ، لقد أفسدت عليه حياته القادمة في وقت كان فيه بحاجة ماسة لامرأة تكون قربه تُهدئ من روعه وتكبح جماح غضبه على أرضه الخراب وتغطيه بحنانها ، لأن المرأة الحنون وحدها تفوز بالقلب كاملا ، إليانا كانت تشوش عليه بحضورها ، تهزه بابتسامتها تهزم ميله للوحدة بثرثرتها اللطيفة المفرحة وكانت باشراقة عينيها تنقذه من متاهات نقاشات السياسة الحادة ، الآن هو وحيدا ، غريبا في مدينته ، إستاجر سيارة قديمة لتحمله إلى خارج نيالا حيث قريته ، مع جماعة إستطاع حجز مقعد ومع المغيب تحركت بهم السيارة قاطعة وادي كايا ، أخذت اتجاه الشمال الشرقي ، الحنين ليلا يصبح قاسيا موجعا وغير محتمل ‘ قلب الحسين أصبح بما يحمل من شوق ثقيلا ، إنه في طريقه إلى تمرا ، الليل حجب عنه المناظر ، من كانوا معهم أخذهم هدوء الليل فناموا ، وحده كان مستيقظاً يستعرض في الظلام أيام صباه بتمرا ، قديما لا شئ كان قادرا على إغرائه بالبقاء فيها، كان ساخطا وغير مباليا لنظرات والده الصامتة التي تراقب رغبته الواضحة في الرحيل . وكان الحسين يبتسم في الظلام لتلك الذكرى البعيدة حينا وحينا يطل عليه وجه إليانا باسما ،الذاكرة ما كانت عند الحسين هى الأحداث بل هى القلب والعاطفة ، لذا الحنين سيظل عنده حاضرا دائما . مع طلوع الشمس بدأت السيارة تتوقف لتُنزل بعض الرجال ، السائق كان قد ابلغ الحسين بحزن بعد أن أصبحا لوحدهما بالهجوم الذي تعرضت له تمرا من قِبل بعض المسلحين ونهب كل جمالها وماشيتها ، لكن الحسين لم يكن يتصور أن بقايا القش المحروق هذا والرماد المتناثر وحوائط الطين المهدمه هى تمرا ، الحرب المحلية وشمتها بدمار يصعب معه التصديق ، حدث هذا قبل أسبوع فقط !، لقد جردوا أرضه حتى من جفافها !، لم يعرفه الرجال ولم يعرفهم ، لقد تفرق أهله في الصحراء الواسعة ، بعضهم ذهب لمعسكرات النازحين ، كاد قلبه ينفجر ، ما تلى لحظة الشوق تلك كان غضبا هائلا عصره بقوة اعمت عينيه للحظة ، انطلق باحثا عن أهله ، أخبره المارة أن ما وقع على تمرا كان ظلما وأن أهلها دافعوا عنها بارواحهم لكن العِرض أُنتهك والثروة ضاعت فزعة ، في هذه اللحظة انتصب امامه والده بكامل شموخه ، هذا الرجل الذي تحمل برضا سخطه الدائم أيام صباه على تمرا وجفافها ، كان شيخ ادم يحب الحسين حبا عظيما مستمدا من حبه لأمه التي هى الزوجة الثالثة لشيخ أدم ، إنه الآن في شوق عظيم لأبيه ، وغير معاتب له لشرط سفره للخرطوم بأن لا يتزوج من هناك ، زينة إبنة عمه ستنتظره ، قبل الحسين الشرط من أجل السفر لا من أجل زينة التي نسيها ما أن وطئت قدمه جامعة الخرطوم ، رحلة البحث عن أهله طالت إلى أن دلوه إلى البحث عنهم في المعسكرات ، وجدهم وكان الرماد واسما لملامح أمه التي بكت بحزن عميق على عظيم المصاب وموت والده ، لقد تنفس الحزن في هذه البلاد حد الإختناق، كانت الأسئلة كثيرة عجز اللسان عن النطق بها ، فقط الدموع، كل من صافحه ضغط على يده بقوة وكأنه يحكي بتلك الضغطه ما حد ث ، رجال تمرا مشتتين في الصحراء ليجمعوا ما فزع من ماشية ، وكان السؤال الذي شق قلبه - كيف كنت بعيدا كل تلك السنوات ؟ تمرا ماكانت جنة خضراء ، كانت بقعة وسط الصحراء لكن بها حياة كاملة . النساء كن صامتات ، شاحبات كاهلهن مثقل بالعبء الثقيل والخوف والحاجة أخذ أمه وغادر المعسكر ، لقد أحنى الوجع والحزن ظهرها ،عمته أم الكِرام رفضت مغادرة المعسكر ، قالت أنها ستبقى من البقية لحين عودة الرجال مع الماشية ، سكن مع أمه في بيت صغير إستاجره ، كان يجلس قربها لتحكي له ما حدث لكنها لم تكن تستطع ، تبكي فقط مغطيةً وجهها بكفيها ، دموع بلا صوت ، كان يبذل جهدا مضنيا لكبح غضبه ، الحياة لم تعد كما كانت ،هو أيضا تبدل ، كان يذهب يوميا للمعسكر للقاء أبناء عمه ، لقد درس القانون من اجل أهله ، وهاهم الآن يحتاجونه ، وكان كلما جلس مع عمته - أم الكِرام - أحس بلمعان الدموع في عينيها لكن دون سقوط قطرة منها ، لمعان قوي ، عمته كانت امرأة شدائد وصبر هكذا عرفها مذ كان صغيرا لا تنام وإن نام الكون ، تتفقد فقراء تمرا ، تعاون نسائها الضعيفات ، الحب بينه وعمته كان دائما متقدا لكن بصمت ، هى من أخذت له موافقة السفر لتكملة الدراسة بالخرطوم من أبيه ، وهى أول من زغردت له عندما أحسن استخدام التصويب بالندقية وركوب المهر الجامح ، امرأتان كانتا تشعلان قلبه بالحب ، أمه وعمته والآن إليانا ، نساء سيكن في قلبه ما كان ، لقد بدلت إليانا قلبه فعاد لأهله بغير القلب الذي غادرهم به ، وكان كلما نطق باسمها سرا شعر بحنجرته تحترق ، يذكر تلك اللحظة ، يوم قالت - أنت تعلم أني أحبك ، أنا لست غاضبة لأننا سنفترق ، انت لوعد قطعته لأبيك وأنا لعدم موافقة أمي ، لا يجب أن نبدأ حياتنا هكذا - ساعود إليك بموافقته ، هكذا قطع حديثها - السنين التي كنا فيها معا لا تستحق منا ختاما مزعجا ، الاقدار كفيلة بما تبقى كان يعلم ان إليانا لا تكذب في حبها له ،وكان يثق في عقلها الراجح وتقديرها لمستقبل الأيام دون أن تكون واقعة في شرك حمى الحب ، لن يتزوجا فقد أرسل والده مجددا رفضه ومذكرا إياه بالوعد القديم ، وطالبا منه العودة سريعا فهم بحاجة إليه . نهارا كان ينشغل باهله ومشاكلهم داخل المعسكر ، لكن الليل كان يحرق حنجرته آلاف المرات سرا . سافرت إليانا لأهلها دون أن تخبره بأنه قد ترك آثراً عميقا فيها ، هو سافر بعدها مباشرة ، الآن هو وحيدا ، سرح ببصره في السوق الكبير طويلا ، كان يبحث عن إلفة الوجوه التي كان يحسها قديما عندما يأتي مع والده لشراء مستلزمات قريتهم من مؤن ، إختطف الأفق البعيد أمانه وقلبه كان ضائعا ، لا يعرف ما يُخبئه لهم الغد لكنه الآن مكشوف للشمس بسره وحبه لهذه البلاد الواسعة ولإليانا ، كانا يحلمان بشراء أغراضهما من هنا ، من سوق نيالا الكبير ، الكل لم يريدهما لبعضهما ، هو الآن يحس بشوق طافح إنه عظيم الشوق الذي لا يقود إلا لصمت معلن وأمل أن تُشرق الشمس من جديد وتتوهج في الوسط السماوي حاملة معها قلبه قرباناً لحياة خضراء . أميمة عبدالله الخرطوم [email protected] //////// ////////