الولايات المتحدة / فرجينيا [email protected] أودى الرّدى بحبيبنا ، وأخينا ، وصفيّنا ، وخليلنا ، وأصدقنا لهجة ، وأحسننا مودة ، فقيد المجتمع القضائي ، والحركة الإسلاميّة ، وأهل السودان كافة ، العالم الرّباني ، والقاضي العدل ، والفقيه الحاذق ، الدكتور إبراهيم أحد عثمان . لقد فجعت بخبر موت إبراهيم ، وفوجئت به ، وما كان لي أن أُفاجأ بخبر الموت لولا الغفلة ، وطول الأمل ، وكراهية الموت ، والفرارممّا لا مفرّ منه ، فالمنايا قلائد الأعناق ، بل هي أقرب من القلادة إلى العنق .وما لنا نغفل عن الموت وقد صرنا إلى معترك المنايا ، أي بين الستين والسبعين ،حيث تكافح الأرواح ، وتصطلم الآمال، ويكثر الذّاهبون ، ويقل المجاوزون ! إنّها الأمانيّ بضائع الموتى . لقد أساء صحبة الموت من عدّ غداً من أجله ،كما جاء في الأثر ، فالموت للإنسان كالعشير المحالم ، والرفيق الملازم ، فمن اغترّ بطول أمله ، واتساع مهله ، كمن أساء صحبة الرفيق المصاحب ، والخليط المقارب . وما لنا نكره الموت ، ونفرّ منه ، وهو ريحانة المؤمن ، يستروح إليه من كروب الدّنيا وهمومها ، وروعاتها وخطوبها، ، كما يستروح الإنسان إلى طيّب المشمومات . إنه ضعف الثقة فيما عند الله ، والتعلق بالآمال الزائفة . لقد عرفت إبراهيم منذ أكثر من أربعين عاماًأو يزيدون، وظلت الأيام تجمعنا وتفرّقنا ، فتراه حين تلقاه ثابتاً على ودّه القديم ما بدلته الأيام ، ولاغيرته السنون ، يلقاك بوجه طلق ، وسن ضحوك ، وهو رغم علمه ، والدرجات الرفيعة التي يحملها عاش فقيراً ، ومات فقيراً ، فهو يسكن في بيت صغير متواضع البناء ،إذا رأيته ما صدقت أنه يأوي قاضي المحكمة العليا وأسرته ، وقد ظل إبراهيم يحمل حقيبته ويدرس في الجامعات في وقت فراغه ، حتى يقابل تكاليف الحياة ، التي صرعت كثيراً من الرجال ، فمُدّت الأيدي منهم إلى المال الحرام ، إلا هذا الفارس المؤمن الزاهد ، الذي عاش على الكفاف حتى لاقى ربّه ، وإنّ له للحسنى عند ربّه ،إنْ شاء الله ، ولانزكي على الله أحدا . لقد وصفت إبراهيم في صدر هذا المقال بأنه قاض عدل ، وما قلت ذلك حتى اختبرته ، فقد كنت أجلس معه يوماً في بيته ، وحكيت له قصة ابن خالي الذي اشترى بيتاً من أحد البنوك قبل عشرة أعوام ، ولكن صاحب البيت لم يخل البيت حتى هذا اليوم ، واسترسلت في سرد القصّة ، وهو يستمع إلي بصبر القاضي ، ولا يقاطعني حتى إذا انتهيت من القصّة ، وطلبت منه الرأي ، سألني : وهل هذه القضية أمام القاضي ؟ قلت نعم . قال لا رأي عندي ، ولا أعين خصماً على خصم ، برأي ولا بمشورة . لله درُّك يا إبراهيم ، ما أنزهك وما أفقهك ! ليس للفتى من حمام الموت واق ، ولكننا نعزي بعضنا بعضا ونذكر للمصاب ما يسليه ويهوّن عليه مصيبته ، والتعزية من آداب الإسلام ، فلم يؤثر عن أهل الجاهلية أنهم كانوا يعزون بعضهم بعضا ، ولكن أُثر عنهم الرثاء ، الذي كان بكاء على الميّت بالعبارات المشجية ، وتحريضاً على الأخذ بثأره ، وقد كثرت في الشعر الجاهلي ، وهو أبرز فنونه، بل إنه ليتصدرها من حيث صدق التجربة ، وحرارة التعبير ، ودقة التصوير . كان إبراهيم نحيلاً ، رقيق الحاشية ، فصيحاً ، مبيناً ، عالماً بالشرع ، صاحب رأي وفتوى ، ذكياً ، فطناً ،قُبل في كلية الطب بجامعة الخرطوم ، ولكن الجامعة كانت تشترط مستوى معيناً في اللغة الإنجليزيّة لم يبلغه ، فعلّقت قبوله حتى يستوفي هذا الشرط ، فانصرف عن دراسة الطب ، ويمم شطر جامعة أم درمان الإسلامية ليدرس الشريعة ، وقد بارك الله له في هذا المسعى ، وبرّز في علوم الشرع حتّى بزّ الذين قضوا زهرة شبابهم في المعاهد الدينية ، يحفظون المتون ، والشروح ، والحواشي ، ويزاحمون العلماء بالركب . لقد كان لي في خبر وفاة إبراهيم ، وهو ساجد ، عزاء أيّما عزاء ، وإني لأرجو أن تكون هذي علامة القبول ، وعبرة لنا ، وتذكيراً بالمحافظة على الصلاة في الإقامة والسفر ، فإن المرء لا يدري متى يحين مصرعه ، وأين تلاقيه منيته ؟ للدكتور خضر هارون ، والدكتور حسن الشايقي ، وجميع إخوانه وزملائه ، أقدم عزائي ، وأوصي نفسي وإيّاهم بأن نكثر من الدعاء لإبراهيم ، وأن نتواصى على عمل نلاقي به ربنا ،عسى أن يرحمنا ، فالمغرور من غرته الأماني ، وصرفته عن تذكر أهوال يوم المطلع . هذا وإن كان لي أن أُعزي أُسرة إبراهيم ، وأهله ، وأهل السودان كافة ، فأُعزيهم بعزاء عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، للأشعث بن قيس في ابنه ، إذ قال له : " إن تحزن فقد استحقت ذلك منك الرحم ، وإن تصبر فلله خلف من كل هالك ، واعلم أنك إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور ، وإن جزعت جرى عليك القدر وأنت موزور ، سرك وهو بلاء وفتنة ، وحزنك وهو ثواب ورحمة . " وذكر ذلك أبوتمّام في شعره ، ىفقال : وقال عليّ في التعازي لأشعث وخاف عليه بعض تلك المآثم أتصبر للبلوى عزاء وخشية فتؤجر أو تسلو سلوّ البهائم ألا رحم الله إبراهيم ، وأنزله منازل العلماء الربانيين ، مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا ، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون .