"من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    التراخي والتماهي مع الخونة والعملاء شجّع عدداً منهم للعبور الآمن حتي عمق غرب ولاية كردفان وشاركوا في استباحة مدينة النهود    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    وزير التربية ب(النيل الأبيض) يقدم التهنئة لأسرة مدرسة الجديدة بنات وإحراز الطالبة فاطمة نور الدائم 96% ضمن أوائل الشهادة السودانية    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في تذكار أبو آمنة حامد .. بقلم: صلاح شعيب
نشر في سودانيل يوم 12 - 09 - 2014

"..نحن البجا نستقبل الشمس بجباهنا الشماء، أما أنتم "الغرابة" فتتلقفونها باردة، وعزابية" هذه ضمن عبارات ساخرة احتواها حواري الأول معه، والذي نشر عبر "الخرطوم" القاهرية في النصف الأول من التسعينات، إذ أذكر آنذاك أنني وجدت نفسي في عصريات يوما ما أطرق باب منزله المتواضع ببحري الشعبية. وما ثوان إلا وفتح الباب فاستقبلني هاشا باشا.."
..تفضل..تفضل في هذا الهباب.. فأنا لست ملكا، أو أميرا للمؤمنين".
هكذا قالها لي ثم استلقي علي كرسي قبالتي، واضعا يديه وسادة لرأسه، بينما أرجله مرفوعتان فوق "العنقريب". قبل أن أعدل من جلستي أزحت ما علي الهباب من حزمة كتب، ومجلات قديمة متناثرة في أرجاء العنقريب، وبعض منها تحف أرضه. منظر وضعية تلك الكتب يذكرني الآن بما قاله إن لم تخني الذاكرة الزميل فيصل محمد صالح مرة عن الفراش الذي يرقد فيه الأستاذ السر أحمد قدور، إذ ينام مع كتبه المتناثرة في فراشه، ويصحي معها. وربما تصحى قبله!
هكذا بدا لي الراحل أبو آمنة حامد في لقائي الاول به، والذي حرضني على إجرائه شائعة قوية سرت وقتها، ومفادها أنه قد أصبح في ذمة الله، إذ إن التلفزيون كان قد أذاع الخبر وأن الاستاذ موسي يعقوب قد رثاه، وأي رثاء..؟. إنه كان يتضمن أجمل العبارات في صحيفة "الانقاذ الوطني"، ولم تخلو مأثرة أستاذنا من لوم تجاه الدولة التي لم تهتم بالمبدعين، ولكن..؟ لكن الذي اتضح فيما بعد أن المواطن، والعبد الفقير لله أبو آمنة حامد كان ما يزال حيا يرزق، وأنه هو نفسه قد تفاجأ كما الكثيرون بخبر موته. وما لبث أن سعى في صبح اليوم التالي في حواري وازقة بحري لمعرفة انطباع الناس الذين تفاجاوا بتسكعه في شوارع الشعبية، وهو الذي يفترض أن يكون قد وري الثري، وأن منكرا ، ونكيرا قد فرغا من مهمتهما.!!
عالجته بالسؤال: ما هو انطباع الناس حينما رأوك بكامل قواك الجسدية، والعقلية..؟ قال " ..لقد ظنوا إني "بعاتي" في بادئ الامر..وبدأوا يثرثرون :أمك..داك ما ابو آمنة حامد..تاني قام ولا شنو ..؟..ياخي الانقاذ دي حتكتلنا كلنا وتمشي في جنازتنا..الناس دي جنت ولا شنو ..الله أكبر عليهم.." كذلك كان يخلط أبو آمنة العربية الفصيحة بالدارجية الساخرة، ولا يلتفت إلي أية مرجعيات خوف حينما يتعلق الامر بالتعبير. لقد كان يعيش حياته بتلقائية، لا يصطنع السلوك، والعبارات. ضحكته المجلجلة التي سيفتقدها الناس الآن لم تكن لتفارقه حين يسخر من نفسه، وزوجه، والناس كل الناس..! هو أبو آمنة حامد الذي لا بد أن تتقبله بكلياته، ببوهيميته...سخريته..هلالابيته...ناصريته...بجاويته...دبلوماسيته..صحافيته..شاعريته..وكونه ضابط بوليس حيث كان يعرف نفسه باختصار أبوآمنة في إطار حياته التي تجاذبتها أقاليم سياسية، وفكرية، ومنابر اجتماعية متعددة، شكلت خصوصيته كمبدع وكإنسان اكتسب أسمه دلالات عميقة.
إن هو ذاك البوهيمي الذي يستحق رواية بحالها تبدأ من وصف الاقدار التي ساقته لأن يتربى في منزل الأميرلاي عبدالله خليل بك، فهو أيضا ذلك الشاعر الذي أحب من بلده، ولم ينسه، رغما عن نسيانه لمحبوبه الذي ضيعه. إن هو أيضا ذلك الدبلوماسي في ملحقية القاهرة التي قضي فيها جل وقته في مقاهيها، ومجالس أنسها، فهو أيضا الناصري الذي هام بالناصرية، ولم يكن ليخشي أن يؤكدها علي الملأ عبر ذلك الديوان. هذا برغم الخيبات العروبية التي جلبتها الفترة الناصرية التي أعيدت لها الثقة في استقبال الزعيم الخرافي في الخرطوم، وإعلان اللاءات الثلاثة التي أعادت الروح للعرب العاربة والمستعربة. إن هو ذلك الهلالابي الذي صاغ أجمل الكلمات دفاعا عن أمة الهلال بما فيها من عبدالله رابح، وزروق وعبد الخير صالح، وود عبدالله هلالك هل و"السد العالي" ومنزول، وجكسا، والرشيد، والنقر، فهو أيضا الرياضي الذي كان يعشق اللعبة الحلوة، وتتعاظم صداقاته مع رؤساء، وأعضاء، وأقطاب، ومشجعي الاندية الأخرى.
إن هو ضابط البوليس الذي أعطي التعليمات كما قال لي لتفريق مظاهرة ما فما لبث أن وجد نفسه وسط الطالبات الجميلات يهتف مع الهاتفين باليونيفورم: تسقط ..تسقط حكومة ال...فكان مصيره الاعفاء، فهو أيضا الصحافي الذي مارس الصحافة بعض الوقت فما حبسته الصحافة في ربواتها، ومطابخها ودهاليزها. إن هو ذلك البجاوي الذي لم يهمش نفسه في أقاصي أركويت، وكسلا، فهو أيضا البجاوي الذي ربما شعر بشاعرية ابن منطقته الصاغ محمود أبو بكر فتقفي أثرها، فهو أيضا ذلك الظريف الذي لا تقل ظرافته عن الهادي نصر الدين " ال....." أو "مصطبجية" دار الرياضة أم درمان الذين ينثرون عبير الضحك في وجوه بعضهم بعضا.
نعم فتلك الخصوصية التي عرف بها أبو آمنة لهي من "نادرات" الشخصية السودانية. خصوصية ركبتها الهويات المتصادمة فهدهدها في داخله، وأخرجها في كتيب سيرته الذاتية كمبدع من جيل الستينات. هذا الجيل الذي ما زال منافسا بعطائه القوي في جيناته الحميمة بالأرض. وربما لهذا يكمن سر حب الناس لإبداعاته الغنائية، والشعرية، والمسرحية، والفنية، والرياضية. وعليه فإن الابداعية الشعرية للراحل أبو آمنة جاءت من ذلك الزمن، وتصالحت معه فكان لا بد أن يحمل الأثير صوته الشاعري المتفرد عبر صوت وردي الذي غني له " بنحب من بلدنا " و"قالوا بنحبه" وهاتان الاغنيتان عززتا تجربة وردي الغنائية، ووضعت ابو آمنة في مصاف المجيدين من كتاب الاغنية آنذاك، لا يقل شأنا عن الحلنقي، أو بازرعة، أو إسماعيل حسن رغم قلة إنتاجه. ومع الجابري كانت له "ما نسيناك" هذه الاغنية التي ما يزال ناشئة الغناء يتوكؤون عليها في المشوار الغنائي العصي، ثم كان التعاون مع صديقه الفنان صلاح بين البادية من خلال "وشوشني العبير" و" شعرها الذهب " وهل ننسي الكابلي الذي غني له "ما بصدق". وأخيرا، وليس آخرا الاستاذ محمد الامين الذي غني له "هش الزهر".
هذه النماذج من الأشعار تضيئ لنا جانبا مهما عن طبيعة العلاقات العاطفية التي "انشبك" فيها شاعرنا الراحل، وألهمته دررا من المفردات الشفيفة، والغنية، بمضامينها، وبمواقف الشاعر تجاه المحبوبة.
في الحوار الثاني الذي أجريته معه لصحيفة " ظلال" سألته عن رأيه في الراحلة ليلي المغربي، فمارس ضحكته ولم يزد توا بقوله" أحب الليالي المغربيات"..!! ولما كانت الانقاذ تطاول في بنيان تمكينها أردت أن أورطه في سؤال حولها، فرد بقوله " هؤلاء الباشبوزق بقيادة اللواء أ.ح حسن عبدالله الترابي أفسدوا علينا منظر الكباري بالدبابات القبيحة" أما حين سألته عن توجهه العروبي، ونسيان أفريقيته ضحك فقال" ..ياخي أفريقيا ما عندها حاجة ونتوجه ليها لشنو.." وهناك الكثير المثير في ذلك الحوار الذي آمل أن يعيد الإخوة الزملاء بالخرطوم نشره لما فيه من سخريات لاذعة، وسرعة بديهة مبدعة تفرد بها شاعرنا الراحل، وصبغت حواراته الصحافية، والتلفزيونية، وحتي جلسات أنسه.
وعلي ذكر التلفزيون لا أنسي تلك الحلقات الشيقة التي قدمها الأستاذ حسين خوجلي، والذي وصفني مرة بالنكرة في معرض هجومه علي الشاعر سيد أحمد الحردلو المجيب علي سؤال لي عن أسباب عدم قدرة الإسلاميين علي إفراز رموز ثقافية..علي كل استطاع خوجلي بما ملك من إمكانيات حوارية في برنامجه " أيام لها إيقاع" والذي لا أدري كثير شئ عن استمراريته أو عدمها أن يستنطق الراحل بشكل مثير، وغني بالدعابة. وتعتبر تلك الحلقات التي بثت من العلامات المشرقة في التوثيق للراحل، وكثير من المبدعين، وبصرف النظر عن موقفنا السياسي حول الاستاذ حسين خوجلي فإن الامانة الصحافية والرؤية الموضوعية لتقتضيان القول إنه كان قوميا, علي الاقل, في استجلاب ضيوفه من الرموز السودانية دون التركيز علي رموز التيار الاسلامي. ولعل استضافة الاستاذ أبو آمنة كانت وفق هذا الفهم القومي فأعطت البرنامج تميزا في ظروف تم فيها تغييب الناشطين في الثقافة من غير الإسلاميين في برامج التلفزيون الأخرى، وبقية أجهزة الاعلام.
وفي إطار الاشارة إلي صاحب " أيام لها إيقاع " تناهي إلي مسامعي أن ذلك البرنامج عمق العلاقة بين الاستاذ حسين خوجلي والراحل وكثيرا ما قابلت الاخير في السوق العربي راجلا، أو منتظرا، في موقف مواصلات بحري، وقد عاد محملا ببعض النقود من مكتب صحيفة ألوان التي كان يكتب لها وسمعت، والعهدة علي الراوي، أيضا أنه كان يجلس الساعات الطوال ليكتب ثلاثين عمودا ليقبض بعدها المكافأة. ولو صح ذلك أو لم... فإن الاوضاع المادية الحرجة التي لاقت رمزا ثقافيا مثل أبو آمنة تضعنا أمام استنتاجات عن الكيفية التي بها كان يعتاش في سنين عمر., فما أعرفه أنه لم يكن صحافيا ملتزما عبر صحيفة ما حتى يساعده هذا بالالتزام في سد حاجته، وحاجة أسرته المادية.
المحتم أن المعجزات والتي قال الراحل إن زمنها ولي وأن الخليفة ما عاد يمنح الدنانير لم تساعده في العثور علي الدعم المالي المطلوب للوفاء بمتطلبات الحياة. ولكن المتوقع أن الكثير من أصدقائه الذين كان يزورهم بين الفينة والأخرى إنما يبدون وكأنهم هم الذين يعينونه كلما ادلهم أمامه ظرف.
إنها لمأساة حياتية كبيرة حقا لا نعرف وقتها، والآن، كيف كان أبو آمنة حامد يتفنن في تجاوزها، ولا ندري كيف كان تأثيرها في أن يكون مقلا في إبداعه. ولا ندري كيف أن مبدعا مثله كان يحتمل هذه المطبات الحياتية. وقد يكون الاستنتاج أننا نرى في سخريته اللاذعة، وضحكاته المجلجلة تلك تفريغا لشحنات من العسر. وللأسف كنا نستمتع بشخصه، وبإبداعيته، وبالكيفية التي بها يسخر دون أن نلم بتفاصيل حاجته الملحة في الاجابة الصعبة عن أسئلة الحياة اليومية.
الشاهد أن الحياة البسيطة التي مارسها الراحل، وكثير من المبدعين الراحلين قبله تضعنا في محكات التساؤل حول دور مؤسساتنا الثقافية، والفنية الرسمية، مضافا إليها المؤسسات الاعلامية، والصحافية، والفنية الخاصة في تجاهل أو غمط حقوق المبدعين. والسؤال الجوهري هو إلي متى نظل نستمتع بإنتاج هؤلاء المبدعين من دون التفاكر حول سبل إعانتهم، ودعمهم في مشوار الحياة في سودان لم ينضج بعد لكف غائلة حاجة المبدع في التطلع المبسط إلى تحقيق الكرامة طوال سنين عطائه.
والغريب أنه في الوقت الذي وجدنا فيه الراحل أبو آمنة، وقد عاش حياته فقيرا دون أن يطرق بوابة الوزراء والسلاطين، كان هناك الكثير من أنصاف وأرباع المبدعين يملؤون الأثير الاعلامي بالضجيج، ويتسابقون في امتطاء العربات الفارهة، والسكن في البيوت الفخمة، ولعمري أن أمة لا تقدر المفكر والفنان حري بها أن تظل متصدرة قوائم الفشل في التقدم.
إن شخصا استثنائيا مثل ابو آمنة لو كان مصريا مثلا لكفلت له تلك الكينونة أن يكون باذلا بكثافة للشعر العامي أكثر مثل الذي أتي به شاعر مصر أحمد فؤاد نجم، والذي يشبهه في كثير من تفاصيل حياته وإبداعه. فالاثنان يعتبران من ذات الجيل، ويعبران في شعرهما عن عامية قلقة بالتجديد، ويعيشان بالشكل الذي لا يأبهان بما هما فيه، سواء كان شكل الحال، أو الملبس، أو قضاء ليل، كيفما يسنح مزاج التعاطي مع عصارة الزبيب والبلح.
أبو آمنة، إذ هو ينتمي لقومية البجا الأشداء علي أن يرنوا واحدهم إلي الشمس بهزء، وهاماته مرفوعة "تنلسع" بحرارتها، كان نموذجا للانصهار القومي، ولتجاوز القبائلية في الانتماء السياسي والوجداني. ولم يكن يوما قد بدا جهويا في فكره، أو شعره، إنما كان هو من ذلك الرهط الذي رضع من ثدي القومية العربية، وحاول بصعوبة مزجها بسودانوية افترضها. والاحتمال الكبير في هذا التوجه العروبي لابو آمنة أنه تم تحت ضغط أجواء نهايات الخمسينات، والستينات، والتي تعتبر الفترة الذهبية لقبول الفكر القومي العربي كعنصر أساس للتحديات التي واجهت الأقطار العربية الخارجة من نير الاستعمار اللدود إلي براح الاستقلال الموعود. والحقيقة أن تسمية أبنه البكر بجمال عبد الناصر ربما تبرر كنوع من حالات التماهي مع هالة الزعامة التي تمثلت في الراحل جمال عبد الناصر كرمز للتحرر الوطني.
وكثيرا ما يستغرب المرء من الكتابات التي صاحبت وفاة أبو آمنة كونها أشارت إلى أنه كان مستلباً ثقافياً، وأنه لم يمتلك الفكر الثوري الجهوي الذي يدفع به "ظلامات الشرق" المسببة بواسطة السلطة المركزية. والمدعاة لذلك الاستغراب أن تعامل الراحل ابو آمنة حامد مع الفكر، والفن، كان تعاملا ليتجاوز التقوقع علي فكر القبيلة، أو المناطقية. إنه تعامل قومي بالقدر الذي لا يحصر فيه تأثيره، وصيته، وقبوله، كمثقف قومي، وكمبدع إنسان. إضافة إليه فأن شاعرنا كان يدرك أن ليس للفكر وطن محدد يظلله. ومع ذلك ظل أبو آمنة فردا لم ينس من أي قومية هو قد أتى. يعتز بانتمائه لمجتمعه البجاوي ويفاخر به من دون أن يوظف هذا التفاخر لرؤى جهوية، أو منطلقات عنصرية. حاله في ذلك مثل حال معظم مبدعي السودان إلا أولئك الذين عادوا ليتقوقعوا جهويا.
من النشاطات التي لازمت أبو آمنة كان ارتباطه بنادي الهلال. وربما يتذكر القراء نشاطه هنا بأنشطة كتاب، وشعراء، وأدباء، ارتبطوا بالرياضة، وزانت أمسياتها، ولياليها، بهم. ومن هؤلاء نذكر الأديب مؤمن الغالي، وشاعر المريخ محمد عبد القادر كرف الذي صاغ أجمل الكلمات حول المريخ، وهناك صالح بانقا "أبن البان" وهو الأديب، الأريب، الذي غشته صوفية متحدرة من مناخات يغمرها صدي نوبة العيلفون. وكان معروفا بدرره المريخية التي "يجادع" بها الكتاب الأهلة. فضلا عن ذلك كان علي المك مشاهدا في المقصورة، والمساطب الجانبية يمارس النوستالجيا نحو إبداعات قرعم، وود الاشول، وجادة الله، وصديقه برعي أحمد البشير. وكان هناك أيضا القبطان حاج حسن عثمان وهو من أعظم كتاب المريخ الذين نافحوا بأقلامهم من أجله. وكان يطلق صواريخه الادبية " أرض جو" ولا يمكن نسيان الشاعر الدكتور عمر محمود خالد، والأديب فتح الله إبراهيم صاحب "ماجدولين" وكذا محمد عثمان دلدوم، وبدرالدين أبو رفاس، وأميقو. وعلي الضفة الهلالية كانت هناك أدبيات أبو آمنة حامد المناكفة لقرنائه المريخاب، مدافعا عن الهلال الذي عشقه. ويتساند بزملائه الكتاب الأهلة أمثال دياب إدريس، وكيشو، وأحمد الطيب المحينة، وكمال آفرو، ومحمد الساري إبراهيم، وعوض عشيب، وعبد الرازق سعيد "ود الهلال" الذي برع في تلغرافاته المبدعة.
والواقع أن كتابات أبو آمنة العاشقة للفانلة الزرقاء والهلال يزين صدرها، وكذا كتابات أنداده بقيادة أبن البان، وحاج حسن عثمان، كانت تزاول ثقافة رياضية واعية، وتسهم في تشويق لقاءات القمة بنثرها الجيد السبك. والجميل أن هذا الأدب من "المجادعات" الرياضية المحتوي علي قصائد ومقالات نارية كان يتلقف بحيوية، وكثير ارتياح من قبل قراء، ومشجعي، الناديين الكبيرين. والمعروف أن إسهامات ابو آمنة حامد، وأنداده، خلقت جسرا بين الثقافة، والرياضة، وعمقت الوصل بين جمهوريهما. ولعل الذين سيأتون من بعد للتوثيق لمسار الرمز أبو آمنة بحاجة إلي نفض الغبار عن الإرشيف الصحفي الرياضي لاستخراج تلك المقالات الرائعة التي كتبها حول مناسبات، وانتصارات نادي الهلال. وليعرفوا إلي اي مدي كان حبه له، والذي كما نظن يعود إلي بواكير حياته حين كان الهلال يضم أفذاذ اللاعبين المسطرين للمستطيل الاخضر بفنونهم، وتابلوهاتهم الرائعة. رحم الله الشاعر آبو آمنة حامد الذي عاش حياة خاصة في محافل الإبداع، وأرجاء الحياة، والعزاء لأسرته، وأهلنا في الشرق، ومحبيه علي امتداد الوطن.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.