[email protected] (1) يوم الإثنين، وبعد صلاة الظهر، أخذهم إبراهيم إلى مجلس "الخليفة"، في بيته شرق الجامع . دخلوا عليه ورؤوسهم إلى الأرض، والأيدي على الصدر. تلك تحيتهم في مجالس الملوك. لم يألف الحاضرون في مجلس "الخليفة"، تحية كهذي. كلا، ولا "الخليفة" نفسه. . بلغ به الرضا مبلغاً وهو يرى الضيوف يبدون من الإحترام، ما لم يعهده من أبعد مواليه. درج القوم، والأمراء خاصة من أهليه، يخاطبونه بغير ألقاب الإحترام، يلتزم بها الرعية أمام واليهم وراعي أمورهم. سمع بعضهم يناديه " تور شين " وما استنكفها. وحده إبراهيم، الذي يمتعض، حين يرصد تبسّط الأقربين في مجلس "الخليفة"، يخاطبونه باسمه مجرّداً من هالة الإحترام. يجد إبراهيم عنتاً في إقناع أمراء الغرب الأقحاح، بالإلتزام بقواعد المراسم، وحرفية المجاملات في أدنى صورها. يعقوب لا يفارق عبوسه ولا تخ له صرامته في حضرة "الخليفة". "يونس الدكيم" المتوجس دوماً، بلحية كثة ولباس غير مرتب. "أبو كدوك بتقطيبةٍ وفم مزموم على الدوام . موسى يمدّ رجليه في حضرة "الخليفة"، لا يبالي . أولئك هم أمراء الجيوش المقربون. يضحك " الخليفة "، يناكف إبراهيم ، مدير المراسم ويسخر : - أنت يا "ود الريف "، لا تعرف أساليبنا. تخال قومي يتبسطون معي وحقيقة الأمر أني أعرف، مثلما هم يعرفون، أنهم يهابونني . نحن في طبعنا، بداوة لن تمسخها إقامتنا في "البقعة" . . ! - أنا سادن الفجوة تُحفظ بين الراعي والرعية. لا أريد لها أن تقصر وإلا قصرت معها المهابة. أنت كلفتني بهذه الشئون ليتك، يا "خليفة المهدي"، تتركني أنجز مهمتي حتى تكون مكانتك في مثل مكانة ملوك الفرنجة الأبعدين، أو في مثل مكانة ملوك الحبشة الأقرب إلينا . . ! ضحك " الخليفة" حتى بانت نواجذه، واتكأ على " عنقريبه " سعيداً فرحا . نظر إلى إبراهيم وقال : - صدقت يا "ود الريف". . ! أحسّ المهابة كاملة الآن، وأنا أرى قبالتي رسول " مِنلِيك"، يحني هامته إجلالا ل"خليفة المهدي "، ويتبعه مرافقوه في هذا المسلك . . ! (2) خاطب الخليفة رسول منليك مُرحباً : - أدعوكم إلى الجلوس. . ولكن قل لي يا سفير مليك الحبشة، ما مغزى إحناء الهامة عند السلام ؟ - مولاى . . هذا سلامُ الطاعة للملوك . . ! تبادل الخليفة والوفد عبارات المجاملة والحديث عن الرحلة ومشقة السفر، من الحبشة إلى أم درمان. ثم دعا الأمير "يعقوب" بقية الوفد إلى تناول أقداح الشاي، وأنبأهم أن "الخليفة" سيختلي في القاعة الصغيرة المجاورة، مع رسول الملك "ِمنلِيك"، للتباحث حول فحوى رسالة الملك إلى "الخليفة". تلك ترتيبات أشرف عليها إبراهيم رمضان، مدير مراسم "الخليفة عبد الله". لا يخالف الأمراء توجيهات مدير المراسم، ولا يجرؤ حتى الأمير يعقوب على ذلك . لم يغب عن بال إبراهيم رمضان، أن يوعز "للخليفة عبد الله"، أن برنامجا مصاحباً قد أعد للوفد الحبشي، وأنه لا بدّ أن يشرف المناسبة بنفسه. قام رجال "الترسانة" بالتجهيزات اللازمة، بعيد صلاة المغرب. أعدّوا برنامجا لألعاب نارية تطلق من المدافع، تضيء السماء من فوق مقر الوفد، ليس بعيداً من "هجرة" "يونس الدكيم"، شمالي أم درمان، حيث يتسع المكان لأعداد من الناس تشارك في الألعاب أو تشارك بالحضور والتفرج على فعاليات لم يألفوها من قبل في أم درمان. يرى الناس المفرقعات تصمّ الآذان، ترتفع إلى السماء تضيئه كما النجوم، يصرخون مهللين مع كل فرقعة مدوية. سرّ وفد ملك الحبشة سروراً كبيراً . (3) في صبيحة يوم الثلاثاء، كانت الجولة الرئيسية للوفد في المدينة. المرافق الرسمي للوفد، هو الأمير يعقوب، ولكن لا بد أن يكون مدير المراسم حاضراً هناك أيضا. دخلوا إلى "بيت المال". عاينوا المحفوظات والمكنوز، ونظروا في الدفاتر والسجلات. كان مهماً عند "الخليفة"، أن يُرِى الوفد كيف تدار وزارة المالية في دولة المهدية . أخذوا الوفد بعد ذلك، في جولة إلى "الورشة الحربية ". الدولة المهدية تعدّ لأعدائها ما استطاعت من قوة، ولا بد أن يرى رسول " مِنليِك"، حُسن هذا الإعداد. الشائعات قد بلغت بلاد الحبشة، تردد أن جيوش الفرنجة قادمة لسحق جيوش المهدية. أما تناولت رسالة الملك الحبشي التي حملها رسوله أمر هذه الحملة القادمة ؟ كان يوسف يعرف ذلك، فقد سمع الرسول يحدث "الخليفة" حولها . جاء الوفد إلى السور الكبير حول جامع "الخليفة". . وعاينوا بوابة "عبد القيوم" و"الطوابي" الطينية، وقد شرع البناءون في تشييدها قبالة النيل. أخذهم "إبراهيم رمضان" إلى السوق الكبير. نظروا في أعمال الصاغة والأقمشة المستوردة من المملكة المصرية، أعجبتهم فابتاعوا بعضاً منها . (4) كتب "يوسف ميخائيل" في مذكراته، أن ملك الحبشة بعث برسالة، جد هامة مع سفيره إلى "الخليفة عبد الله التعايشي". قال الرجل فيما حكى، أن "الخليفة" كان حريصاً على الإختلاء بسفير "مِنلِيك "، يسمع منه فحوى الرسالة. غير أن "يوسف" يروي، وكأنه كان حاضراً تلك المقابلة الخاصة. ترى هل كان ترجمانا للخليفة، ينقل للرسول ما يقوله "الخليفة" ؟ هل كان "يوسف" من بين خدام "الخليفة"، ممن يباح له اقتحام خلوته مع جلسائه، يقدم الأطعمة والمشروبات، دون أن يقحم نفسه في الذي يدور من حديث بين "الخليفة" وضيوفه، فيسمع ما لا ينبغي له أن يسمعه ؟ لا تفصح المذكرات التي كتبها بعد ذلك بسنوات، عمّا جرى تفصيلا. لكن الذي عرفناه، أن ملك الحبشة "منلِيك" ، بعث مع رسوله علم دولة فرنسا، وحمل رسوله رسالة، فحواها أن فرنسا تعرض حمايتها لدولة "الخليفة" ولكن ملك الحبشة، يريد للأمر أن يبقى في السر. ما كان أمر حملة "كيتشنر" قد شاع بعد. وما كان مليك الحبشة يمضي على هذا النحو في إبداء حسن النوايا، ومشاعر الصداقة، يحملها نيابة عن فرنسا ، دون أن يكون وراء مسعاه هذا ، إرادة أقوى وأكبر. وضح في التاريخ أن بين فرنسابريطانيا، ما صنع الحداد في "فشودة"، بعد ذلك ، من مرارات . فهم " الخليفة " الرسالة، ثم طوىَ العلم الفرنسي وحفظه تحت إبطه . - أنقل لمليكك تحاياي، وقل له إني أقدّر له حرصه على سلامتنا جميعاً، وإني أقبل الراية الفرنسية. أحفظها عندي الآن ، لكني سأدير الأمر مناصحة بيني والأمراء ، ثم نقرر بعدها أيّ سبيل نمضي عليه . سعد الرسول بالرد، سعادة عظيمة . - سأنقل لمليكي تحاياك يا "خليفة المهدي" العظيم، ونحن شاكرون لكم حسن الضيافة.. ثم نادى " الخليفة" على إبراهيم : - هل أنجز يوسف تحضير هدايانا لمنلِيك كبير الحبشة المبجل، ولسفيره المحترم ؟ - مولاي و"سيدي". .هاهي كلها جاهزة ومن مشغولات الذهب الصافي، من مكنوزاتنا التي جلبناها من جبل "بني شنقول " . .! قبل الرسول هدية "الخليفة" راضياً مبتسما، ثم غادر بيت "الخليفة" متبوعاً بحاشيته وبمرافقيه ، يقودهم مدير المراسم : إبراهيم رمضان . . (5) لما بلغ "الخليفة" نبأ الجيوش الغازية تزحف على مشارف مدينة حلفا في الشمال، نادى على الأمراء جميعهم من مناطقهم في كردفان ودارفور. جاء من الغرب - على ما ذكر يوسف - كافة التعايشة والعربان، من الهبانية، إلى الرزيقات والمحاميد وأولاد حميد والمعاليا، وبقية القبائل من "دار سلا " إلى " "تامة" و"برقو" و"برنو" و"زغاوة " و"مغاوة" و"قِمِر" و"كحيا" و"مسبعات" و"كنجارة" . وقع نزوح كبير إلى بقعة المهدي : أم درمان. جاء القوم لنصرة "الخليفة "، وقد بلغهم أن الكفرة به متربصون . ساعة التناصح، قال يعقوب بصوت قويّ : - القتال، القتال . . ! ووقف معه أمراء من أهله بدارفور. جاء صوت واحد يترجّى، يقول "للخليفة" : - لا . . ! لا . . يا "خليفة المهدي" . . أقبل أن ترفع الراية التي جاءتك من " منلِيك" ، ففيها خلاص الدولة . . ! ذلك كان صوت " شيخ الدين "، نجل "الخليفة" وأذكى الأمراء . ولكن ضاع الصوت الواحد وسط قعقعة السيوف والرماح، وصخب البنادق . . انتهت