xرحل حسن أحمد يوسف صامتاً، وقدر الذين يحسنون الحديث أن يرحلوا صامتين، فقد رحل صديقه الدكتور عبد الله الطيب صامتاً، ورحل صديقه وختنه وابن عمته طه عبد الرحمن صامتاً، وكلهم كان يحسن الحديث، ويبذله عذباً مُطرباً. لعل أباه – رحمة عليهما – يوم سماه حسناً توسَّم فيه حسن الخلق، ولكنه جمع معه حسن الطويِّة، وحسن الظن، وحسن الرأي، وحسن الفكرة، وحسن الأدب، وحسن الحديث، وحسن الطرفة والدعابة، وحتى حسن الطلعة والهندام. كان إذا حدَّثك صمتَّ مستمعاً وكأن طير الكون كله قد حطَّ على هامتك. كان إذا حدَّثك سحرك بعذوبة اللغة، دارجة كانت أو فصيحة أو أجنبية، وسحرك بسلامة المنطق، وسحرك بالإقبال على شأنك وكأنه أخص ما يخصُّه، ثم بعد هذا السحر يرقيك بالرأي السديد، والتوجيه الرشيد. وها هو يرحل صامتاً عاجزاً عن أن يفرج شفتيه عن حديث أخير كان يود أن يقوله. أحسب أن أشد ما آلمه من هذا العجز عن الحديث أن يقول شكراً لمن وقفوا حوله، وهو الذي يحتفي بزيارتك إياه، ويراها معروفاً يطوِّق عنقه. وكان من فرط اهتمامه بشؤون من حوله من الشبان والشابات من أبناء الإخوة والأخوات، وعموم الأسرة، في شغل دائم، وسعي دائب، وهمٍّ مقلق؛ لمساعدتهم في ترتيب حياتهم، وكثيراً ما تسمعه يردد قصيدة الشاعر محمود غنيم: ما لي وللنجم يرعاني وأرعاه أمسى كلانا يعاف الغمض جفناه لي فيك يا ليل آهات أرددها أوّاه لو أجدت المحزون أوّاه كان – رحمه الله – يأسره النثر الجميل، ويستخفُّه الشعر الرقيق؛ فيطرب له طرب الأمراء، وكان يؤلِّف النثر في لغة سامقة، وبيان آسر، وينظم الشعر في خبرة بحلوه ومرِّه، غير أنه كان يري أن تأليف النثر الجميل أعسر مطلباً من نظم الشعر الفحل. وكان مقتدراً في كليهما مع ميل لكتابة النثر الجميل. كانت له للحق غضبة تكاد حين تراه فيها تنكر منه ذلك الهين اللين، رقيق الحواشي موطأ الأكناف. وكنتُ قد حفظتُ عبارة (لا يخشى في الحق لومة لائم) منذ سنٍّ مبكرة، ولكني لم أستطع تصورها، ولم أعرف دلالتها إلا يوم رأيت حسناً في مواقف غضب للحق؛ فهو حقاً لا يخشى لومة لائم. ومن يجرؤ على لومه غير سفيه أحمق، أو حاقد موتور. إن له ميزاناً لتقويم الأحاديث والأفعال والأعمال أدق من موازين المعادن الشريفة النفيسة، وهل أشرف وأنفس من إحقاق الحق حين تخرس عنه شياطين الإنس؟ كان يردُّ الهدايا في حزم لا يتردد معه أبداً، إذا ما بدا له أنها مكافأة على معروف سبق أن أسداه للمُهدي، ولم تكن تخطئه قراءة الدوافع. غير أن هذه العفة عن نظرة التمجيد، والتواضع، والنفور مما يفتح للنفس باباً على العُجب، قد جعلته شديد العزوف عن الظهور في وسائل الإعلام، مما أضاع على الناس متعة الاستماع لواحد ممن يحسنون الحديث أعلى درجات الإحسان. كان يحضن الأطفال ويقبلهم ويمسح على رؤوسهم، وتراهم في حضرته يتهللون، ويلعبون مطمئنين من أن ينتهرهم أحد الأفظاظ من الأعمام أو الأخوال أو الإخوة الكبار. ولم لا، وقد اختار لبعضهم أجمل الأسماء وأشرفها، ومن لم يختر اسمه، فقد استشاره فيه أبواه فأقرهما عليه، ثم يبين لهما من بعد ذلك معنى الاسم، وصحة كتابته إملائياً، إن كان مما تخطئ العامة في كتابته. لعل هذا السر وأسرار أخرى هي ما يحبب الأطفال فيه. كان دوحة وارفة الظلال، وشجرة حلوة الثمار، تفيّأناها أنى اشتدت بنا الكروب، وادلهمت في ليالينا الخطوب، واستغلقت على عقولنا الحلول، وسدت علينا الحيرة منافذ الرأي، فاسترحنا في ظلها من هجير ضياع الدليل (وفقدان المُشهاد)، وقطفنا من ثمارها الطمأنينة والهداية، والتصويب الدقيق، وصناعة الهدف والكدح في مسالكه حتى ملاقاته. أنا لا أرثيك بحسبانك علماً من أعلام السودان، ولا ابناً من أبنائه البررة، ولا بحسبانك المثقف الضخم، ولا التربوي الضليع، ولا رجل المنظمات الدولية، وحسبي من رثائك الآن، مشاعر حزن قلما عرفت مثلها على خالي العزيز، شريك والدي، ونعم الشريكان كنتما. الشريكان اللذان لم يختلفا قط، ولم يَجُر أحدهما ولم يظلم. رعيتما الشراكة رعاية الحافظين حدها، العارفين حقها، شرعاً وقانونً وعرفاً، وقبل ذلك محبة وانسجاماً وإلفاً. أفسح الله لكما في قبريكما مد البصر، وسقاكما من غيث الرحمة السحَّ الغدق. وتقبل بالقبول الحسن كل أرحامنا، وأهلنا من رجال الهلالية ونسائها، وعموم المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. حسبت إن لي قلماً مطواعاً يواتيني أنى دعوته، وخاب ظني اليوم حين دعوته إلى رثائك، فانكسر سنانه وغاص في الورق بما لا يقارب شيئاً من سمائك البعيدة، ولا يحصي شيئاً من مناقبك الحميدة، فإن كان يبلغك شيء مما كتبت – وما هو ببالغك – فأسألك الإعذار، وأنا أبذل لك ضيق العقل، وضعف الملكة عذراً. إنك الآن بين يدي رحمن رحيم، نسأله لك الرحمة والقبول الحسن؛ فقد رحمك ووفقك وسددك – له الحمد والشكر – وأنت على ظهر الأرض مقتدراً، أفلا يرحمك في قبرك وأنت عاجز، إنه ولي الرحمة ومغدقها على عبيده الصالحين، ولله الحمد والمنة. [email protected]