دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأمّل فى معنى القصيد: بعض الرّحيق أنا والبرتقالة أنت ... بقلم: عبدالمنعم عبدالباقى على
نشر في سودانيل يوم 16 - 02 - 2009


شعر محمّد المكّى إبراهيم
بقلم: عبدالمنعم عبدالباقى على:
"فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا، معولاً يكاد يبين عن استغاثته، ويشهد بصادق توجعه، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة".
نهج البلاغة للامام على بن أبى طالب رضى الله عنه وهو يصف الطّاووس.
مقدّمة:
صديقى وأخى يونس محمد أحمد الجلال له عادة أحبّها وأخشاها ، فهو ضميرى اليقظ الذى يذكّرنى بالأهم ، فعندما يراسلنى يعزّنى من مكتبته بكتاب يعلم تعلّقى به ويكتب على جلدة غلافه الدّاخلى رسالته ، ولا أدرى كيف يتسنّى له أن يعرف ، فى كلّ مرّة ، فقدى للكتاب واشتياقى له ، ولكن كما يقولون فالقلوب شواهد ، فصحبة الشّقاء يحلّلون لأنفسهم سرقة كتبى بل ويتباهون بمقدراتهم على سلب لحم مكتبتى وتركى عظماً أتشاغل به ككلبٍ وحيدٍ حين تشدّ المحن إزارها وتتقصّدنى.
وهديّته هذه المرّة كانت ديوان شيخى محمّد المكّى إبراهيم فى طبعته الثّانية عام 1983 من دار جامعة الخرطوم ، والتى قام بها البروفسير على المك ، رحمه الله وأثابه خيراً لا ينقطع على مرِّ الزمان إلى أن تصير السمّاء وردة كالدّهان ، بدون علم صاحبها وإن أسعده وأنقذه عائدها وتصميم غلافها ، الذى نقشته ريشة البروفسير حسين جمعان ، والذى تذهلك بساطته السّهلة الممتنعة كشعر الديوان ، تعلوه برتقالة مقطومة وفصّين ، ولنا عودة للتأمّل فى طبيعة هذه البرتقالة. ولولا أنّها برتقالة وليست تفّاحة لكان قد قاضى شركة الكمبيوتر الشهيرة على حقوق المؤلف على سرقة علامتها المميّزة.
وقصيدة بعض الرّحيق أنا والبرتقالة أنت ، والتى تعرف مجازاً بخلاسيّة ، فازت باسم الغلاف من دون قصائد المجموعة ، كما تُتوّج ملكة الجمال على رصيفاتها وتجذب صورتها ضعيفى القلوب أمام الجمال ، وأنا منهم ، لا اعتباطاً ولا صدفةً ولكنّها تتصدّره، بثقةٍ ، عن جدارةٍ.
فهذه الجملة أجمل ما قرأت ورأيت وصفاً للانتماء والهويّة ، صيغت ووُضعت فى "كبسولة" من الجوهر تشفّ عن مكنونها ، وقد جمعت جوانب الفهم بدقّةٍ وحنكةٍ وحرفةٍ لا تُجارى فإذا القشرة واللّبِّ توحّدٌ ، حال من أدرك فى لحظة البصيرة والكشف ، فأغنانا عن أطنان الكلام من رمال القول ، بزمرّدة الاعجاز الفريدة.
ولو أنّه اكتفى بذلك لكان قد أدّى ما عليه وقلَّ أن يعلوه بشر. فهى جملة لا تُقرأ ولكنّما تُرى ، وتنقلك فى طرفة عين من عالم الكلمات والسّمع لعالم البصر والتّخييل ، وينفذ معناها من قلبها لِلُبِّ فهمك كالشعاع المنطلق كرمح الضّوء يبدّد عتمة الفؤاد ويهتك ستر الجهل ويهديك معنى المعنى.
وليس غريباً أنّ من نشط فكره، ونما خياله ، واصطادت شبكته جواهر الكلام من بحور اللّغة ذخراً يستثير الغيرة ، وانشغل بحبِّ بلده وأهلها ، وهو قد رأى ما رأى فى ترحاله ، وخالط من خالط من عربٍ ومن عجمٍ ، فلم يزده علمه إلا يقيناً بتفرّده وتفرّد أصله ولم يجد هويّته إلا فيها وفيهم ؛ ألاّ يكون فى بحثٍ دائبٍ لماهيّة هذه الهويّة ووصفها وتقريب معناها لنفسه ولغيره. فجهد محمد المكى إبراهيم فى مدرسة الغابة والصّحراء لم يكن إلا محاولة فكريّة لحلّ معضلة الهويّة وتثبيت الجذور فى أرض أنجبته ورعته بدلاً عن بحثه عن أرض وأمّة لا ترضى انتسابه لها ولا تمدّ أبسطة الحب له.
وعندما يجتمع الشّعر والفكر فى جوف أحدٍ فالشعر أغلب ويتغذّى بالفكر ولكنّما يتجاوزه. وقد قالت غابرييلا ميسترال الشّاعرة التشيليّة الفائزة بجائزة نوبل وأستاذة بابلو نيرودا:
"هل الوطن بقلب الشاعرة
أم الشاعرة فى قلب الوطن؟"،
وهو معنىً قريبٌ من "بعض الرّحيق أنا والبرتقالة أنت" ولكن بلاغة الأخير لا تُبارى كما سنوضّح لاحقاً. ولكنّه يثبت معنىً سبقها عليه الحديث القدسى عندما قال المولى عزّ وجلّ: "لم تسعنى السّماوات والأرض ووسعنى قلب عبدٍ مؤمن" ، فالفكر لا يسع الأوطان والعقائد لخلوّه من القدرة على المحبّة ، ولكنّما يسعهم عرش القلب وقد قال المصطفى (ص):
"إنّ فى الجسم مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهى القلب"
وإذا فسد القلب فسدت النيّة ، وانتفى الاخلاص ، ووئدت المحبّة ، وسُدّ باب الأمل.
وقد تخيّلت أنّ محمّد المكّى إبراهيم لم يشف أُوامه كتابته الفكريّة ولا نشاطه السّياسى ولا ما خطّ من قصيدٍ ، وهو بعد لم يجمع المعانى كلّها فى بوتقةٍ خالدة الورود أو فى عقدٍ سحره لا يبلى هديّةً لمن يُحب. وتخيّلته أيضاً ، بعد انبهاره بجزيرة البهار زنجبار ، قد اهتدى لماهيّة الهوية ولكن فاته الاسم كمن رزق وليدة وظلّ يقلّب الفكر عن اسم يلائمها ويشفّ عن كنهها ، فقد تلى هذا الديوان مجموعة زنزباريّات وهناك فى القصيدة ما يشير لهذا الافتراض:
"من اشتراك اشترى فوح القرنفل من أنفاس أمسيّة ،
أو السواحل من خصر الجزيرة ،
أو خصر الجزيرة من موج المحيط وأحضان الصباحيّة"،
وذلك بعدما رأى فيها شعباً شبيهاً بشعبنا سحنة وطبعاً. فتجمّعت المشاهد والمعانى فى جوفه كبخار الطّلِّ قبل أن يجد ما يريح عليه رأسه من أكمام الورود ، فكأنّى به فى زنجبار وقد سحرته الأمسيات المضمّخة بعبير القرنفل أو فى الصّباح على السّاحل يرى مياه المحيط والرمل والخضرة فيملأ رئتيه فى الحالتين حتى تئن ضلوعه حبّاً وانتعاشاً أو كما قال:
"لذا رحت أهواك حتى تئن ضلوعى
حتى يغالبنى الدّمع فيك وأذهب فى نهنهات البكاء"،
وأين لغاية السعادة دون إيقاظ نقيضها.
وقد تخيّلته ، وقد أهاجه الحبّ والشّوق وألم الفراق لزنجبار وداهمه الشّعر ، وكيف يهرب الشّاعر إلاّ إلى خيمة الشعر حينما يبدو على الأفق انقصاف عمر سعادته؟ ولكن لم يكتمل نظم العقد إذ أنّ واسطته لم تنبثق فى عالم الوجود ، أو نمى اللحم واختفى هيكل العظم فلم يبن القدّ ، ثمّ فى لحظةٍ صوفيّة لا تتكرّر ، وهو يقلّب كنوز الكتب يصطاد لآلئ كلماتها ، وأين له بكنزٍ مثل كلام الله أو بليغ حديث مصطفاه أو منهج بلاغة الامام باب مدينة العلم ، فوجد مبتغاه فى وصف الامام على بن أبى طالب للطاؤوس عندما التقطت عيناه كلمة "الخلاسيّ" ، كما يلتقط الطّاؤوس حبّة استطابها من بين حبوبٍ كُثرٍ ، فوجد فيها ضالّته ، وعندها أصابته الانتباهة وتلقّفه والوعى ، وتفتّقت ورود الخيال فى ذهنه ، واحتضنه الالهام تزاحمت الكلمات ساعة الخلق تأخذ مكانها ، وتتشكّل الصّور ويسمق قدّها ، وتنتشر كأقواس قزح كأنّها نافورة الفرح تعلن ميلاد الهويّة. والفتاة الخلاسيّة ما هى إلا نتاج أبوين سلالتى حامٍ وسام ، وقد تكون رمزاً لأمّته أو لجزيرة زنجبار أو كل شريط الأمم الخلاسيّة من زنجباريين ، وصوماليين وأرتريين وسودانيين. ولكن مهما كان فهذه الكلمة جعلت للفكر معنىً ، وللنّفس مهداً ، ومهّدت للجذر درباً ، فهى كمثل كلمة طيّبةٍ جذرها ثابت وفرعها فى السّماء. وتذكّرنى هذه التجربة ، إن صدق حدسى فيما ذهبت إليه من زعمٍ ، تجربةٍ لعالمين أرادا أن يكوّنا مادّة عضويّة من الغازات ليحاكيا بدء الخليقة. وقد نجحا فى استخراج أحماضٍ أمينيّة مطابقة لأحماضنا الأمينيّة التى تشكّل أساس أعضائنا ولكنّها لم تنتظم فى شكل أحماض المخلوقات بالنظام المعروف. وأعياهما اليأس فما كان من أحدهما إلا أن أقترح أن يضيفا تراباً لها ليثبتا عبثيّة نظرية الخلق الإلهى وكانت دهشتهما لا تصدّق حينما تعلّقت الأحماض الأمينيّة بذرّات التراب وانتظمت كما ينتظم عقدها فى البشر فكانت كما وصفه المولى عزّ وجلّ: "بالطين اللازب" أى التراب المختلط بمادّة عضويّةٍ.
وهكذا أمر الخلق فى كلّ شىءٍ له سببٌ ووقتٌ معلوم ، وما الخلق إلاّ فكرة ، فقد قال المولى عزّ وجلّ:
"كنت كنزاً مخبوءاً فأردت أن أعرف فخلقت العالم".
ولم يكن عبثاً أن تلقّف الوليدة أهلها ، فها هم يجدون فيها ضالّتهم وكنزهم فمن خلالها بُعثوا ، وصارت رايتهم لمّا تيقّنوا واثبتوا ما جال فى ذهنهم وردّدوه جلّ حياتهم أنّ فى أختلافهم عن الغير سرّ جمالهم وعظمتهم وقوّتهم ، فهم قد رضعوا فكرة أنّهم ملوك النّاس وأفضلهم ، كما الطّاووس ملك الطيور ، وكما قال شاعرهم الشعبى:
"نحن ناس نقعد نقوم على كيفنا".
فهم قد وُصفوا بالشعب الذى لا يصدأ أو "بشعب الله المختار" كما قال البروفسير عامر مرسال رحمه الله وأحسن إليه ، عندما أسرّ لنا ساخراً باكتشافه لحقيقة شعب شمال السودان ، وبرّره بقوله:
"أنّ من يأت من جهة الجنوب يطلق عليه زنجى ، ومن يقدم من الشمال البعيد يُسمّى حلبى ، ومن ينزح من جهة الغرب يُدعى فلاّتى ، ومن جهة الشرق حبشى" ولم يقصد تبخيس الأجناس الأخرى ، ولا أنا عنيت ذلك ، ولكنّه نبّهنا إلى حقيقة نتغافل عنها جعلتنا شعوباً شتّى نتبرأ من أصلٍ ثابتٍ فينا ، وهو مصدر فخرٍ وقوّة لا نقص وعار ، ونتعلّق بأستار من يرفضنا ونأبى قدح من يودّنا فخسرنا أنفسنا ووطننا.
وهذا وصفٌ دقيقٍ لأمّةٍ اختلطت بأممٍ أخرى فلحقها ما لحقها من أثر التّزاوج ، ولكنّهم حقنوا شرايينهم بتميّز عرقهم واستعلائه وتبخيس عرق الآخرين.
ونسوا أنّ التّمازج والتّلاقح يحسّن الذريّة ولا يُوضع مرتبتها وهم يفتخرون أنّ اشجع "العرب" كان عنترة بن شدّاد ونسوا أو تناسوا أنّه ليس بعربىّ ولكنّه خلاسىٌّ لم يتبرّأ من أمّه أو أخيه فأسمى نفسه بعنترة الهجين. وكلمة خلاسيّة لها ألقٌ مميّز ولا تختلف معنى عن وصف عنترة لنفسه بالهجين ولكن تمعّن فى فعل السّحر للأولى كأنّها مفتاح الكنز وازورار النّفس عن الثّانية التى تذكّرك بتلاقح الحيوانات والنبات.
وقد احتفل محمّد المكّى إبراهيم بهذا الاختلاف ، ببصيرته الثّاقبة وتفكّره فى حال شعبه ، حتى يجد لهم هويّة مميّزةً يدعو لتبنّيها وتجذيرها وتنميتها فى أرضٍ سودانيّة لا شرقيّة ولا غربيّةٍ فكانت دعوة الغابة والصّحراء. وهذا بُعدٌ عن بدائيّة النّفس الشّحيحة بالخير على غيرها حين يتهدّد حدودها وبقاؤها خطر حقيقىٌّ أو مُتوهّم. وحينما تنتفخ الذّات بأهمّيتها تُقصى الآخر ولا تعترف بفضله بل وتسحقه إن استشعرت تهديده لوجودها ويكون تعصّبها مكمن قوّتها وضعفها فى وقتٍ آخر.
والنّفس تفلح فى تبرير أفعالها ، ما أجبرتها الحاجة ، ولكنّها حالما تتمكّن تنقلب على من مدّ لها يد العون ، وتستعلى عليه وتُنقص من شأنه ، وحين يستقرّ شأنها لا تشعر بالدّين أو الذّنب أو تقرُّ بالفضل. فمّما لا شكّ فيه أنّ أرض السّودان احتضنت أعراب الجزيرة واستضافتهم وصاهرتهم وعايشتهم مقتسمة معهم اللّقمة والرّحم ، ولكنّهم بطبعهم الغليظ وبداوتهم اعتبروا ترحيب الآخرين ضعفٌ وليس حضارةً وسعة صدرٍ وكرمٍ أو كما اسماها محمّد المكّى إبراهيم:
"عفويّة الفعل الأصيل"،
فنسبوا أحسن الشّمائل لأنفسهم ورموا أهل البلاد بأسوئها. وكان محمّد المكّى إبراهيم ضحيّة لهذا الفهم ، قبل أن توقظه شمس الوعى عندما غادر ربعه وتفتّحت أبواب حقائق غفل عنها فى صباه ، عندما أفهموه أن أمّته هى العربيّة الإسلاميّة ، وكان خطابه فى قصيدة قطار الغرب لا يتجاوز هذا المفهوم.
ولكنّ قلبه المتفتّح ، وذهنه المتّقد ، وعينه البصيرة أدركت لاحقاً أنّ ما يملأ جرابه من هويّة ليس كاملاً ، فلاحظ قوماً آخرين لا تلائمهم مقاييس أمّته التى تبنّاها فى ذهنه ، وظلّ مفهومه للهويّة لا يتعدّى ساكنى وسط وشمال السّودان:
"لن تسلخوا كساء أمّتى
هذا الكساء دمغتى
فى بلدى نعطّر الهواء بالمديح
روائح الطّعام والضّيوف من بيوتنا تفوح"
ولكنّه أيضاً ظلّ كما قال محمود درويش:
"لا أَخجل من هويتي ، فهي ما زالت قيد التأليف"
ولذا عندما تكتشف عيناه شمس الحقيقة ويدركه نور الوعى يثور ويكتب قصيدة "إصبع فى الشّمس" ليشقّ جدار الوعى:
"لأنّ بنا مدارات الشّموس،
بوعينا تحيا خلايا الدّهر والأشياء
لأنّ تنصّلاً نحياه خلف وجودنا الواعى
يفجّر عبر وجداناتنا نبع الحياة ومجدها الأبدى
بهذا الوعى أقبل ما بأيديكم
وأنذر أن أعيش مع وضدّ وداخل الآخر"
فتمعّن كيف تكرّرت كلمة الوعى خمس مرّاتٍ فى هذه القصيدة وهو وعىٌ بحقيقة الأشياء كما هى وليس كما يجب أن تكون فى أذهاننا افتراءاً على الواقع.
محمّد المكّى إبراهيم لا يصرّح ولكنّه يلمّح لتتفجّر عيون نبع الحياة الحقيقيّة عن هويّته:
"ونعرف أنّ هذا الشقّ فى الثديين
فتقٌ فى مشيئتنا ينزّ الدّم
يسكب فى جبين الربّ خزى هروبه عنّا
ونحن نمدّ أيدينا نصيد النّجم
وأعرف أنّه لا عاد يذكرنا ولا يهتم
وأن لنا مشيئتنا وجيل من هموم الأرض
ينقر فى زوايا الغاب طبل الخلق
ينشئ فكرة التّكوين"
وببصيرة المبدع يتنبّأ بما ينتظرنا من سفح للدّماء من الثّديين اللتين أرضعتانا ، ونحن نشتطّ فى تنكّرنا لأحدهما محاولين انتزاعه من مكانه بجوار رفيقه حتى يُشقّ ويدمى فيظلّ فتقاً ينزّ دماً فى مشيئتنا لبناء مستقبلٍ لهذه الأمّة التى تنزف حتى الموت، وما ذلك إلا لتعلّقنا ولمدّنا أيدينا لهويّة العروبة التى يضنّ بها علينا حرّاس العرق، والتى وصفها كنجمٍ يستحيل صيده لا يذكرنا ولا يهتمّ بنا:
"ونحن نمدّ أيدينا نصيد النّجم
وأعرف أنّه لا عاد يذكرنا ولا يهتم"
ونحن معلّقون أنظارنا فى سماء الوهم ، لاهون عمّا تحت أقدامنا ، ومُصمّون آذاننا عن مشيئتنا التى لا مهرب منها ، وطبل خلق أمّةٍ مزيجةٍ جديدة تتكوّن فى أحشاء الغاب يطرقها فينبّهنا أنّنا تنصّلنا عن واقعنا وطمسناه خلف وعىٍ مُدّعى:
وأن لنا مشيئتنا وجيل من هموم الأرض
ينقر فى زوايا الغاب طبل الخلق
ينشئ فكرة التّكوين"
وهذا لعمرى دور شعراء الشّعب الذين يحملون همّه ويعانون جرحه ويرون ما لا يراه الآخرون. ولذلك لم يكن عبثاً أن وجد هويّته الأولى عندما انتسب لقبيلة شعراء الشّعب ، منذ تفتّح وعيه الأوّل عندما قاسى تجربة الولادة من الرّيف ، حيث مدينته الاقليميّة، للعاصمة الغريبة ، حيث لا حضن ولا أمن ولا رفيق كالطّفل يخرج من بطن أمّه وحيداً ، حيث الحماية والدّفء والغذاء، لعالم مضّطربٍ ومخيفٍ فلا يملك إلا البكاء.
وقد ظهرت معالم ثورته لاحقاً بعد مرحلتى الرّفض والتّمرّد ، والتى انبثقت فى ذهنه نتيجة جولته وصولته فى أوروبا واكتشافه لدنيا أخرى جعلته يحنق على إفريقيا وينهزم نفسيّاً ، ولكنّه برغم ذلك لا ييأس منها فيعود مشمّراً سيفى الرّفض والرّؤيا يناطح ما رسخ من مفاهيمٍ فى قلبه وبلده ، معرّياً الحقيقة فى ضوء الشّمس ، لا يخاف لائمة لائم ، ومحذّراً من التّنصّل عن مسئوليّة البعث لأمّتنا لخوفنا من مفاهيم العصر الجديد:
"سأعود فى كفىَّ سيف الرّفض والرّؤيا
وفى عينىَّ أمجاد الحياة
لا ترهبوا هذا التّعرّى فى جبين الشّمس
لا تتنصّلوا من محنة العصر الجديد
فى قلبها أبداً ومن فتكاتها نحيا، نموت
ونصنع البعث الكبير ونجتلى شُرَف الوجود"
وهذا يذكّرنا ، برغم حزنه الأوّل وإحباطه فى رحلة الوعى الأولى ، من رحم الإقليم لقلب الوطن فى قصيدة قطار الغرب حين اتّضح له بؤس ومعاناة الإنسان السّودانى ، استطاعته أن ينفضه كما تنفض حشرة ضارّة عن ثوب ويتشبّث بطوف الأمل مبشّراً:
"إنّى يا أجدادى لست حزيناً مهما كان
فلقد أبصرت رؤوس النّبت تصارع تحت التّرب
حتماً ستطلّ بنور الخصب ونور الحبّ
حتماً حتماً يا أجدادى شعراء الشّعب"
ولم يطل انتظاره حتّى تحقّقت نبوءته وتغنّى بانتصار هذا الجيل وأكّد حتمية ما سيصير:
"جيل العطاء لك البطولات الكبيرة والجراح الصّادحة
ولك التّفرّد فوق صهوات الخيول روامحا
جيل العطاء لعزمنا حتماً يذلّ المستحيل وننتصر"
وذكّرنا بإحساسه بهذا الإيمان بأمّته وقت أن رأى البؤس وانتابه الحزن:
"كان اكتوبر فى أمّتنا منذ الأزل
كان خلف الصّبر والأحزان يحيا
صامداً منتظراً حتى إذا الصّبح أطل
أشعل التّاريخ ناراً واشتعل"
وينمو هذا الوعى ويزهر بعد تباشيره الأولى فى قصيدة أمّتى التى يسمى أوّلها: (الوعى) ، فيكسو أمّته ثوباً أضفى من سابقه ويقول:
"نار ودخان
وثنٌ طبلٌ قرآن
طفل ظلّ يقوم الليل ويمسك فى رمضان
حلم برفاه الأرض وخوفٌ
من فتكات الغيب المقبل أمّتنا"
حتّى يقول:
"فتمدّحنا:
ها نحن على يأفوخ الشّمس نخطُّ مضاربنا
فولاذ الدّرع، صخور السّاحل، فئُ الأمن مضاربنا
جاموس الغابة، وعل الواحة أمّتنا"
وبرغم ضمّه لرموز النّصف الآخر لهويّته الأولى، فجاموس الغابة رمز لزنجيّته ووعل الواحة أصله العربى، إلاّ أنّ هواه ما يزال عربيّاً ولم تنجلِ عنه آ خر الغشاوات حتى جاء وقت خلاسيّة فأثمر الوعى ولذا فقد بدأ القصيدة باسم الجلالة:
"الله يا خلاسيّة"
كأنّما خُلق الشّعب السّودانى الشّمالى لتوّه واكتمل وعيه بأصله وتيقّن من هويّته المختلفة حينما عثر على كلمة خلاسيّة ، فبان فرحه واحتفاله وشكره لله سبحانه وتعالى على قدرته وتوفيقه، ونحن عندما يأخذنا العجب والدّهشة نصيح:
"يا الله" أو نستحلف الآخر: "بالله؟" ويكثر ذكرنا لربّنا عند الجمال وقد قال شاعر سودانىٌّ من قبل:
"الله لى شاهدتّها فى عطفةٍ فى زاوية"
وهذا الاندهاش عند إدراك الحقائق الكونية يعادل قولة ارخميدس الشّهيرة:
"وجدتّها وجدتّها"
وهذه نقلة دائريّة كاملةٌ لمن قال فى فورة الشّباب ، وهو يعاضل جذره ليقلعه من تربة ظنّ على جهلٍ أنّها سبب تخلّفنا:
"هات خمراً أيّها السّاقى ولا تعبأ بنا
نحن جدّفنا على الخالق قبل الخلق والتّكوين من قبل الخطيئة"
فهذه نورانية كانت على مرمى حجر من بصيرته ، وما ضلالته السابقة إلا كبوة مريد مُجدٍّ على طريق الحقيقة كان حتماً سيدركها فى سعيه الحثيث عن الحق:
"الله يا خلاسيّة
ياحانة مفروشة بالرمل"
والحانة موضع بيع أو شرب الخمر حيث القصف واللهو، وقال أبو حنيفة: "أظنها فارسية وأن أصلها خانة"، وليس خافياً أنّ شرب الخمر والرّقص والطّرب رمزٌ للأفارقة السّود وليس من طبعها التّحوّل ولكن حالها الثّبات بين أنّ الرّمل طبعه الثّبات وحاله التّحوّل.
فزنوج الأفارقة :اشجارهم لا يبتعدون عن دارهم فهو غنّى بالموارد غير حال الأعراب البدو المتنقّلين كرمالهم بحثاً عن الماء والكلأ.
والحانة تكون عادةً ضئيلة الضّوء وكريمة معطاءةٌ للبهجة ، والرّمل كريم الضّوء بخيل العطاء والفرح ، فامتزاج رحم الحانة بالرّمل كدخول العرب فى السّودان ، ولكن أثر الحانة أكثر فسرعان ما اختلط الرّمل بتربة الحانة من أثر النّعال ، فذهب بياضه ولكن بقى أثره فى جيناتها ، وهو قد يكون رمزاً للمنىّ أو المسك حين يختلط بالعنبر ، واختلاط طيبين أجمل وأميز من طيبٍ واحد أو أنّ ذلك كان وصفاً لجزيرة زنجبار مع تطابق المعنى.
ويجدر بنا أن نتساءل لماذا ابتدأ محمّد المكّى إبراهيم بتذكير الوطن فى أوّل شعره فقال:
"هذا بلدى والنّاس لهم ريح طيّب"،
ونحن نعلم أنّ كلمة بلدى مجازيّة التّأنيث والتّذكير ولكنّه أنّث معظم ما تلاها؟ فامتزاج الأنوثة مع الوطن فى شعره صفة ثابتةٌ ويصعب أن تفرّق بين حبّه لأمّته وحبّه لمحبوبته. وهو من القلائل الذين فرّقوا بين مفاهيم الوطن والأمّة والحكومة والهويّة والولاء والانتماء.
"يا مكحولة العينين
يا مجدولة من شعر أغنيّة"
وسنواصل بإذن الله سبحانه وتعالى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.